زعامتها ستكون مختلفة عن زعامة العمّ سام:

صعود الصين: ديناميكيات البجعة السوداء...!

صعود الصين: ديناميكيات البجعة السوداء...!

-- رغـم خطاب التجارة الحرة، يواصل الصينيون تنميتهم الاقتصاديــة دون احترام كبير للقواعد
-- عدم وجود رد فعل غربي على أحداث هونغ كونغ، يوحي بأن لاعب الغو الصيني سيحقق أهدافه
-- يمكن أن تكون الديون السلاح السري غير العسكري لاحتواء صعود إمبراطورية الوسط
-- بغض النظر عن ارتباط الدول بالتجارة الدولية، كمصدر للثروة، فإن النهج الصيني سيعمّم المواقف القومية
-- في «مسيرتها الطويلة» نحو الصدارة، من غير المرجح أن ينطلق الصينيون في أي مغامرات عسكرية خارجية


سبق أن كتبت مقالا تحت عنوان “الصين استيقظت، قد يهتز العالم”، بما يعكس العبارة الشهيرة “عندما تستيقظ الصين، سيهتزّ العالم” التي نطق بها اللورد ويليام بيت أمهيرست عام 1816 لنابليون الذي التقاه بعد غرق سفينته في سانت هيلانة.
دعونا نحاول في هذا المقال دراسة كيف ستواصل الصين صعودها إلى المركز الأول في العالم. وللقيام بذلك، سأستلهم من العمل المنهجي الهائل لنسيم نيكولاس طالب.

ولد طالب عام 1960 في لبنان، وهو باحث متخصص في نظرية الاحتمالات، وممارس في الرياضيات المالية، والملقب بـ “منشق وول ستريت” المتخصص في تقييم المخاطر النادرة أو غير المتوقعة.
مع “البجعة السوداء”، أحد أحجاره، يحلل طالب الأحداث غير المحتملة والعشوائية للغاية التي تميز تاريخ البشرية. وبقبولي المخاطرة بارتكاب خطأ، سأحاول تحديد الاستراتيجيات المحتملة للصين لتعزيز قوتها، وردود الفعل المحتملة للشركاء الصينيين.
  ماذا نتوقع؟  أولاً، ستكون أي زعامة صينية مختلفة تمامًا عن زعامة العم سام.


  عندما أصبحت الولايات المتحدة، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، القوة العالمية الأولى، سعت، دون إهمال مصالحها، الى تعزيز التسوية السلمية للنزاعات، وتطوير التعاون الدولي، ومساعدة الدول الأوروبية على إعادة البناء، والكفاح من أجل نشر أفكار الحرية والديمقراطية ... بشعاره “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، لم يتوقف دونالد ترامب أبدًا عن انتقاد هذا الكرم، مما أثار تساؤلات ودعوات لإعادة النظر حول العديد من البرامج أو السياسات. ومن المرجح أن يحاول جو بايدن إغلاق القوس دون الرجوع إلى الحالة القديمة.

   النموذج الصيني للزعامة مختلف تمامًا. هناك بالتأكيد خطاب حول “الأخوة والصداقة بين الشعوب”، الذي عبر عنه تشو إن لاي في الستينات. ومع ذلك، فإن الممارسات الصينية، وخاصة مع الدول الأفريقية، هي سمة من سمات المقاربة القومية، وخلال عشرين عامًا أو نحو ذلك، فهم جميع القادة الأفارقة النهج الصيني، وباتوا مترددين بشكل متزايد في اللجوء الى بكين. ولسوء الحظ، لا أوروبا ولا الولايات المتحدة تسرعان في تقديم بديل للأفارقة. وفي نفس الوقت، رغم خطاب التجارة الحرة، يواصل الصينيون تنميتهم الاقتصادية دون احترام كبير للقواعد.

   وبغض النظر عن ارتباط الدول بالتجارة الدولية، كمصدر للثروة، فإن هذا النهج الصيني سيعمّم بشكل متزايد المواقف القومية.
  في “مسيرتها الطويلة” باتجاه المرتبة الأولى، من غير المرجح أن ينطلق الصينيون في أي مغامرات عسكرية أجنبية؛ لقد استوعبوا دروس 70 عامًا من الجمهورية الإمبراطورية. فمع حربين مجانيتين في أفغانستان والعراق، تسببت الولايات المتحدة في تآكل هيمنتها لدرجة التراجع إلى موقف انعزالي، وفقدت جزءً من استقلالها مع استمرار عجز الحسابات الخارجية والعمومية.

   ومع ذلك، لن يتردد الصينيون في المخاطرة لاستعادة تايوان وبعض الجزر. وباستثناء بعض التصريحات، فإن عدم وجود رد فعل غربي على أحداث هونغ كونغ، يوحي بأن لاعب الغو الصيني سيحقق أهدافه.
   قد تكون هناك مشكلة مع الجزر اليابانية في جنوب غرب (يانسي) وجزر يوناغوني بالقرب من أوكيناوا؛ واستبق اليابانيون كل التطورات بنشر قوات خاصة هناك. وبشكل عام، يجب أن تتمحور استراتيجية طوكيو حول محورين:

   * تطوير التجارة مع الصين قدر الإمكان لردع أي محاولة للصراع. وهذا يفسر النشاط الياباني للترويج لإبرام الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة.
  * تكثيف برنامج إعادة التسلح الذي بدأ في نهاية عام 2010 مع توجهات برنامج الدفاع الوطني الجديد لتثبيط أي محاولة صينية. مقيدة بالمادة 9 من الدستور، يواكب إعادة التسلح اليابانية هذه، تطور صناعات الأسلحة، وأبرز مظاهرها زيادة الصادرات العسكرية. لا ننسى إعادة التسلح اليابانية السابقة في الثلاثينات، وعاجلاً أم آجلاً، سيطفو موضوع حيازة السلاح النووي، حيث لم تعد مظلة الولايات المتحدة قوية.

   وبالمثل، فإن الحفاظ على القاعدة الأمريكية في أوكيناوا سيصبح أكثر أهمية. وبشكل عام، فإن الانسحاب الأمريكي، الذي بدأ قبل أكثر من عشر سنوات، يثير تساؤلات حول استمرار بقاء قواتها الخارجية، خاصة في أوروبا. ومن المؤكد أن وجودها يشكل رادعاً في مواجهة الصين أو روسيا، لكن هل تمتلك الديمقراطية الأمريكية الوسائل لشن حرب جديدة؟
  إذا قررت كوريا الشمالية غزو الجنوب لسرقة ثروته، فماذا سيفعل الرئيس الأمريكي؟ من المحتمل جدًا أن يكون هذا هو الموضوع الآسيوي الأكثر أهمية، لأن الجمع بين وضع اقتصادي كوري شمالي صعب مع جار ثري جدًا من شأنه أن يبرر مثل هذا الإغراء. من يستطيع أن يؤمن بتدخل أمريكي وفق الدستور مثل عام 1950 في قوة استطلاعية مع البريطانيين والفرنسيين ...؟ وضع العاجز هذا، يعطي هامشا كبيرا للمناورة للقادة المصممين مثل بوتين، أردوغان، علي خامنئي، أو كيم جونغ أون ...    وفي حماية القناعة الراسخة باستحالة مواجهة معمّمة بين الولايات المتحدة والصين، ستواصل بكين، دون إهمال زيادة وسائل دفاعها، ما يلي:

  * غزو البلدان بـ “طرق الحرير” من خلال الاستحواذ على الموانئ والمطارات والشركات ...
  * تعزيز مجموعاتها الكبيرة مثل علي بابا أو هواوي للتنافس مع هيمنة غافا (غوغل وامازون وفيسبوك وابل) الأمريكية.
  * امتلاك كل الوسائل لحماية نفسها من أي حرب إلكترونية، أو لتتمكن من شنّها.
  * تحقيق أقصى استفادة ممكنة من الأسبقية الاقتصادية النسبية الناتجة عن الجائحة. دون ذكر أي مؤامرة، لا ننسى المسؤولية التي لا جدال فيها، على الأقل بسبب غياب الشفافية. ومهما كانت نقاط الضعف في النظام الصيني (الديون المعدومة في الميزانيات العمومية للبنوك، التفاوت الاجتماعي، الشره المرضي للمواد الخام ...)، ستشهد البلاد نموًا إيجابيًا بأكثر من 1 بالمائة عام 2020. وهذه النتيجة مهمة مقارنة بحالات الركود في الدول الأوروبية، رغم أن هذا الرقم أقل بكثير من المعدل المعتاد البالغ 6 بالمائة.    ولمواجهة العواقب الاقتصادية للوباء، تعوض الدول الأوروبية المشغلين، وتضمن القروض المصرفية للشركات ...، وتتدخل “مهما كان الثمن”!، وتبع ذلك انفجار في العجز العام وطفرة في الدين العام.

   كل هذا ممكن فقط بالتدخل الهائل للبنوك المركزية. ويحجب الوضع الاقتصادي الصعب مسائل سداد الديون وخطر حدوث أزمة ديون سيادية جديدة. لكن الموضوع كامل خاصة أن التضخم ليس في الموعد لتقليل القيمة الاسمية للديون.
   وماذا لو، من قضم إلى قضم، يتوصّل لاعب الغو الصيني الى وضع الدول الأوروبية، وربما حتى الولايات المتحدة، في موقف يؤدي إلى عدم سداد ما عليهم للصينيين. إن تراكم الديون من قبل الصين يضعها في موقف يصبح فيه الدائن في النهاية رهين المدين. وهذا يمكن أن يكون السلاح السري غير العسكري لاحتواء صعود إمبراطورية الوسط.