تجميد ترامب المساعدات الخارجية يمنح الصين فُرصةَ احتلال المساحات الشاغرة في الهيئات الدولية و فرض آرائها :

عاصفة ترامب ... نعمةٌ لبكين ...

عاصفة ترامب ... نعمةٌ لبكين ...

منذ ربع قرن من الزمان، تعمل منظمة مراقبة العمل الصينية على كشف استغلال العاملات في المصانع التي تنتج دُمى باربي في جنوب الصين، أو المتدربات القاصرات لدى شركات أبل الفرعية بالقرب من شنغهاي، أو العمال في مواقع البناء على «طرق الحرير الجديدة» الصينية في آسيا. تأسست هذه المنظمة غير الحكومية على يد الناشط لي تشيانغ، وتعتمد على عمله الخاص، وعمل أحد الموظفين، وشبكة من الاتصالات في الصين. وتتضمن تقاريره دائما، في الخلفية، استحالة الدفاع عن حقوقه بسبب النظام السياسي الصيني. لكن الإهانة لبكين قاربت أن تنتهي: 90% من الميزانية السنوية للمنظمة غير الحكومية البالغة مليون دولار جاءت من تمويل من الحكومة الفيدرالية الأميركية. 
لقد قطعت إدارة دونالد ترامب علاقتها بالعالم عندما وصلت إلى السلطة. وبناء على ذلك، يستعد لي تشيانغ للتخلي عن جميع خطط التحقيق.

 «إنها هدية عظيمة للصين، ولا بد أن الحكومة الصينية ستكون سعيدة للغاية. «الأمر صعب للغاية بالنسبة لنا»، كما يقول هذا الرجل الذي عمل بنفسه على خطوط التجميع في مصانع الألعاب في الصين قبل أن يذهب إلى المنفى في الولايات المتحدة. وهو يعلم أن هناك منظمات غير حكومية أخرى تعمل على الشأن الصيني تواجه نفس الوضع، ولكن قِلة من ممثليها  لا يرغبون في الحديث، حتى لا يسلطوا الضوء على اعتمادهم على المساعدات الأميركية، وهي زاوية هجوم واضحة بالنسبة لبكين. ويتعرض عمل المجموعات التي تعمل على التحذير من وضع الأويغور أو التبتيين أو المنشقين للتهديد.
 بالنسبة للصين، من الصعب أن نتخيل نعمة أعظم من رؤية القوة التي تدعم هذه المجموعات تقرر من تلقاء نفسها إغلاق الصنبور. ولا تزال الصين تنتظر ذلك، ويبدو أن التفويض الذي بدأه الجمهوريون للتو غير قابل للتنبؤ، لكن البلاد ترى بالفعل أن الفرص تنفتح، حيث أن الرغبة الأميركية في التوقف عن الدفع لبقية العالم ما زالت متاحة . ولقد وصل الأمر إلى حد أن التحلل المباشر للمؤسسات واليقينيات في الولايات المتحدة بشأن التفوق الأخلاقي لنموذجها يجعل الانتقادات التي توجهها إلى الأنظمة الأخرى، حتى بين أكثرها قمعاً، نسبية. ويحمل هذا الامر  قسطا من الراحة للنظام الصيني، الذي برزت عيوبه في السنوات الأخيرة، بين الصعوبة التي يواجهها الشعب في الخروج من سياسة صفر كوفيد والتباطؤ الاقتصادي الحالي الذي يُثقل كاهل حياة الأسر. 
لقد أصبحت الخطوات الخاطئة التي اتخذتها أميركا الآن محور الاهتمام العالمي، وقد تكون مفيدة للغاية على المستوى العملي. وذكرت صحيفة نيويورك تايمز يوم الاثنين 3 فبراير-شباط، كيف تم طرد العشرات من المتعاقدين الذين يعملون لصالح فرع وزارة الخارجية المسؤول عن الدفاع عن حقوق الإنسان في الدول الاستبدادية، مثل وضع الأويغور في شينجيانغ. ثم كشفت الصحيفة الأميركية الكبرى في الخامس من فبراير-شباط كيف أرسلت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) إلى مكتب إدارة شؤون الموظفين الحكومي قائمة بالاسم الأول والحرف الأول من اسم عائلة كل المجندين لديها منذ أقل من عامين، وبالتالي، من السهل رفض هذه المهارات، من خلال رسالة بريد إلكتروني غير سرية، مما يخلق خطر رؤية قوى مثل الصين تستولي عليها، في حين أن جهود التجنيد التي تبذلها وكالة الاستخبارات الأميركية في السنوات الأخيرة ركزت على المهارات في مواجهة التهديد الصيني. يوما بعد يوم، تطول قائمة المنظمات الدولية التي تنسحب منها الولايات المتحدة، وكأن اللاعب الرئيسي في السباق الجيوسياسي العالمي  يعلن انسحابه منها. وغالبا ما تظهر مشاكل الصين على جدول أعمال هذه المنظمات، لكن انسحاب القوة الرائدة يترك مجالا أكبر لبكين لممارسة نفوذها.

«الحقيقة التي 
كنا نبحث عنها « :
وهكذا، في يوم تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، في 20 يناير-كانون الثاني، أعلن دونالد ترامب انسحاب بلاده من منظمة الصحة العالمية. وبالمصادفة، كانت الفترة التي تذكر فيها العالم تأخر الصين، قبل خمس سنوات، في تنبيه الكوكب إلى ظهور كوفيد-19، وتهاون رئيس منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، الذي أشاد آنذاك بـ «شفافية» الصين المفترضة. وبدون الولايات المتحدة، سوف تصبح الصين أكبر مساهم ثابت في ميزانية منظمة الصحة العالمية. وتختلف أولوياتها في مجال الصحة العامة الدولية، إذ تفضل العمل الثنائي وبناء البنية الأساسية مثل العيادات بدلاً من الإصرار على قضايا حوكمة أنظمة الصحة أو حقوق الأفراد. «وسيكون التأثير عميقا، وهي فرصة للصين لتولي القيادة، ويمكن أن توجه مستقبل الحوكمة العالمية فيما يتعلق بالصحة العامة. ويقول يانتشونغ هوانغ، المتخصص في الصحة الدولية في مجلس العلاقات الخارجية: «بالنسبة للصين، فإن المشاركة تبتعد عن ساحة المعركة». في أبريل-نيسان 2018، أسست الصين وكالتها الخاصة، وكالة الصين للتنمية الدولية، للتنافس مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ولكن هذه الوكالة الأميركية يجري تفكيكها الآن، ووضعها تحت سيطرة وزارة الخارجية. لم يكن من الممكن أن تأتي تغريدات إيلون ماسك التي يتهم فيها وكالة المساعدات الأمريكية «بتمويل الأبحاث المتعلقة بالأسلحة البيولوجية، بما في ذلك كوفيد-19، التي قتلت الملايين» في وقت أفضل بالنسبة للصين في هذه الذكرى. «هذه هي الحقيقة التي كنا نبحث عنها»، هذا ما جاء في مدونة استضافتها منصة 163.com الصينية في الرابع من فبراير-شباط. وتتضح الأمور أيضًا فيما يتعلق بمسألة المناخ. الصين، التي تمثل 17% من سكان العالم، هي أكبر مصدر لثاني أكسيد الكربون على الكوكب، بنسبة 35% من الانبعاثات، لكنها ستتمكن من تسليط الضوء على دورها كطالب جيد في مجال الطاقات المتجددة والجهود العالمية، لأن الرئيس الأميركي وقع أيضا على أمر الانسحاب الأميركي من اتفاقية باريس في 20 يناير-كانون الثاني.
ويجري أيضاً إخلاء مساحة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، وهو مسرح لمعركة مريرة على النفوذ في السنوات الأخيرة. إن هذا الصراع يضع الدول الغربية، التي تدافع عن الحقوق الأساسية والحريات السياسية، في مواجهة الصين، التي تؤكد نجاحها في انتشال شعبها من براثن الفقر وتريد التأكيد على التقدم الاقتصادي بدلاً من التقدم الديمقراطي. ومن بين القوى الكبرى، فإن السؤال هو من سيحشد أكبر قدر من الدعم لقراره، لكن الولايات المتحدة أعلنت انسحابها من مجلس حقوق الإنسان في الرابع من فبراير-شباط. ولكن الصين لا تتوهم أن السنوات الأربع المقبلة لن تكون نزهة في الحديقة. دخلت الرسوم الجمركية الإضافية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنسبة 10% على المنتجات الصينية حيز التنفيذ في الرابع من فبراير-شباط، في وقت بدأ فيه الاقتصاد الصيني يفقد قوته ويحتاج إلى الصادرات لبيع إنتاج مصانعه. لكن بكين كانت تتوقع ما هو أسوأ، مع التهديد الذي أطلقه المرشح خلال الحملة الانتخابية بفرض ضريبة على وارداتها بنسبة 60%، ورأت في دعوة الرئيس شي جين بينغ -الذي مثله نائبه- إلى حفل تنصيبه، وتأجيل الإعلان عن حظر تيك توك لمدة خمسة وسبعين يوماً، وهو الوقت المناسب للتوصل إلى «صفقة»، إيماءات مشجعة. وفوق كل ذلك، تلاحظ الصين أن السيد ترامب يهاجم مناطق متعددة في خطاباته دون  تركيز كبير على منطقة واحدة  فقط  .