عمرو دياب.. فنان استثنائي وصوتٌ لم يغلبه الزمن

عمرو دياب.. فنان استثنائي وصوتٌ لم يغلبه الزمن

في كل مرة يُطل فيها عمرو دياب على جمهوره، يبدو كأنه يفتح فصلًا جديدًا في كتاب الموسيقى العربية الحديثة، فصوته الذي لا يعرف الخفوت، وطاقته التي لا تخضع لقوانين الزمن، جعلاه ظاهرة فنية استثنائية تتجاوز فكرة “المطرب” إلى حالةٍ متفردة، إذ أعاد تعريف معنى النجومية، ونسج بخيوط صوته المتجددة أسطورة عرفها الجمهور باسم "الهضبة".

من مدينة بورسعيد، قبل 60 عامًا خرج الفتى ذو النظرة الثاقبة والحنجرة الذهبية والملامح المميزة حاملًا في داخله شغفًا بالموسيقى لا يعرف الانطفاء، ولم تمنعه بداياته المتواضعة في حفلات الإذاعة المدرسة والفعاليات المحلية من الوصول للعالمية، بل كانت مجرد شرارة أولى لرحلةٍ مدهشة امتدت لأكثر من أربعة عقود، رسم خلالها ملامح موسيقى عربية معاصرة تخاطب كل الأجيال.

مدرسة موسيقية
منذ أن أطلق ألبومه الأول "يا طريق" عام 1983، أظهر عمرو دياب إصرارًا على الخروج من القوالب المألوفة، فاختار أن يخلط بين الأصالة الشرقية والإيقاعات الغربية الحديثة، ليصنع هوية موسيقية لا تشبه أحدًا، 
لم يكن يسعى إلى مجرد النجاح، بل إلى بناء مشروع فني متكامل يتطور مع الزمن.
في ألبوم "هلا هلا" بدأ يلفت الأنظار، لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت مع "ميال" في نهاية الثمانينيات، حين نجح في أن يخلق حالة موسيقية جديدة تجمع بين البساطة والإبهار، 
ثم جاءت محطة "نور العين" عام 1996 لتعلن وصوله إلى العالمية، بعدما تجاوزت أصداء الأغنية حدود الوطن العربي لتصبح أيقونة موسيقية عابرة للثقافات.
ما يميّز عمرو دياب ليس فقط صوته الفريد، بل وعيه العميق بكيفية إدارة مسيرته الفنية، أدرك مبكرًا أن البقاء في القمة لا يتحقق إلا بالتجديد المستمر، فكان يغيّر جلده مع كل ألبوم دون أن يفقد جوهره، 
جمع بين الحداثة والإحساس، فظلّ صوته محافظًا على دفئه رغم تغير الزمن، وجمهوره في ازدياد رغم مرور السنين.
ألبومات مثل "تملي معاك"، و"علم قلبي" و"الليلادي" و"وياه" و"بنادِيك تعالى" لم تكن مجرد نجاحات موسيقية، بل محطات فنية أعادت تعريف الأغنية العربية من جهة التوزيع والإيقاع والبنية الدرامية، وفي كل مرة كان يقدم موسيقى تواكب روح العصر دون أن تتخلى عن ملامحها المصرية الأصيلة.
قبل ثلاثة عقود، وقف عمرو دياب في قلب استاد القاهرة الدولي، ليصدح في الأفق أغنيته الشهيرة "بالحب اتجمعنا" خلال افتتاح دورة الألعاب الإفريقية عام 1991، ليساهم في جمع القارة السمراء مجددًا ويكون سفير محبة من خلال الفن، ولم تفقد هذه الأغنية توهجها بل أُعيد تقديمها مرة أخرى في عام 2019 لدعم المنتخب الوطني في كأس الأمم الإفريقية.

من المحلية إلى العالمية
فتح عمرو دياب الباب واسعًا أمام الأغنية المصرية لتغزو العالم، حين أصبحت موسيقاه تُسمع في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا، 
وظهرت أعماله في أفلام وإعلانات عالمية، وترجمت أغنياته للكثير من اللغات الأجنبية مثل الإنجليزية والتركية والبلغارية والفرنسية والكرواتية والهندية واليونانية وغيرها، لم يكن مجرد سفير للأغنية المصرية، بل كان رمزًا لتطورها، فحصد أرفع الجوائز، من بينها جائزة World Music Award عدة مرات كأفضل فنان مبيعات في الشرق الأوسط، ليصبح أول مطرب عربي يحقق هذا الإنجاز أكثر من مرة.

ألبومات خالدة في الذاكرة
شكلت ألبومات عمرو دياب علامات فارقة في تاريخ الغناء العربي، ألبوم "نور العين" منح الموسيقى المصرية وجهًا عالميًا جديدًا، بينما رسّخ "تملي معاك" صورته كرمز للرومانسية المتجددة، أما "كمل كلامك" و"الليلة دي" فقدّما نموذجًا للنضج الفني والمزج بين التجريب والهوية، وحتى اليوم، لا يزال كل ألبوم يصدره بمثابة حدث في حد ذاته وسط ترقب الجمهور ما سيحمله من تجديد واختيارات موسيقية جريئة.
لم يكن تأثير عمرو دياب فنيًا فقط، بل ثقافيًا أيضًا، فقد شكّل وعي جيلٍ كامل،
 وألهم عشرات الفنانين الشباب الذين حاولوا السير على خطاه دون أن يبلغوا قمته، كما أصبح أيقونة للانضباط والاحتراف والحرص على الصورة العامة، وهي سمات جعلت منه نموذجًا يُدرّس في كيفية صناعة النجم والحفاظ على مجده.
اليوم، وبعد أكثر من 40 عامًا من العطاء ومع احتفاله بعيد ميلاده الـ64، لا يزال عمرو دياب يقف شامخًا على قمة الفن العربي، محتفظًا ببريقه وشغفه الأول بالموسيقى، يواصل التجديد دون أن يفقد جوهره، ويغني للحب والحياة وكأنه يبدأ من جديد.