الحنين الأحمر:

عندما يتحسّر جزء من أوروبا الشرقية على ماضيه الشيوعي...!

عندما يتحسّر جزء من أوروبا الشرقية على ماضيه الشيوعي...!

- يتجلى النفور من التغيير فقط إذا كان ضارًا اقتصاديًا
- المناطق الريفية الروسية نادمة على الفترة الشيوعية حيث الشغل مضمون مدى الحياة للجميع
- أي تغيير يجلب منافع مالية يكون موضع تقدير أكبر في جميع هياكل المجتمع
- الآليات النفسية التي تؤدي إلى الحنين هي نفسها بين مواطني الغرب والشرق
- البلدان غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يسكنها حنين ما إلى النظام الاقتصادي قبل عام 1991


لا تظهر بعض دول أوروبا الشرقية أي حنين إلى الحقبة السوفياتية.
لكن على العكس من ذلك، هناك من ندم على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لأنظمة تلك الحقبة.
مايكل لامبرت الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون بالتعاون مع إنسياد - الحرم الجامعي فونتينبلو (ديسمبر 2016)، والذي يركز تحليله داخل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا على علم النفس السياسي والجهات الفاعلة في السياسة الخارجية للصين والولايات المتحدة في أوراسيا، يسلط الضوء في هذا الحوار، الذي اجراه موقع أتلانتيكو الالكتروني، يسلط الضوء على علاقة أوروبا الشرقية بماضيها الشيوعي، وما يفسر الحنين الى ذاك الزمن او ينفيه.

* في أوروبا الشرقية، يعرب بعض السكان عن أسفهم للماضي الشيوعي ويدركون أن سقوط الكتلة لم يحسّن حياتهم.

 كيف نفسر هذه الملاحظة؟
- أدى سقوط النظام الاشتراكي الشيوعي عام 1991 إلى إعادة توزيع الأوراق، وعلى هذا النحو، لا تظهر بعض الدول أي حنين لتلك الفترة، بينما تأسف دول أخرى على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لأنظمة تلك الحقبة.
من بين الذين أقل ندمًا على الماضي الاشتراكي، البلدان التي أصبحت أعضاء في الاتحاد الأوروبي، والتي تظهر بشكل عام أداء اقتصاديًا جيدًا، مع بعض التناقضات.
ومن هنا، فإن جمهورية التشيك، نظرا لموقعها الجغرافي بالقرب من ألمانيا والنمسا، هي اليوم بلد حيث الأجور أعلى مما هي عليه في بعض دول أوروبا الغربية، مثل البرتغال، ولبراغ واحدة من أدنى معدلات البطالة في العالم (3 بالمائة) والأدنى في الاتحاد الأوروبي. ونتيجة لذلك، لا يوجد أي حنين تقريبًا إلى الفترة الاشتراكية، التي توصف بأنها الأكثر ظلمة في تاريخ البلاد، تتساوى مع الاحتلال الألماني.

لن تشعر جمهورية التشيك بالغيرة، فقد أصبحت دول أخرى، مثل إستونيا، الآن مراكز للأمن السيبراني، واكتسبت سمعة عالمية في مجال الحوكمة الإلكترونية. ويجذب وادي السيليكون في أوروبا رواد الأعمال من جميع أنحاء أوروبا وروسيا، مع أفضل الجامعات، مثل تارتو، والشركات متعددة الجنسيات، مثل وايز وبولت وسكايب، على سبيل الذكر لا الحصر. وعلى هذا النحو، تقدر التوقعات، أن إستونيا ستكون أكثر ثراءً في الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد من السويد في العقد المقبل، وهو ما يفسر جزئيًا عدم وجود ندم على النظام الشيوعي، باستثناء الأقلية الناطقة بالروسية في الشرق (نارفا).

هناك العديد من الأمثلة، ولكن هناك أيضًا غياب فعلي للحنين إلى هذه الفترة في لاتفيا وليتوانيا (وهي أيضًا حاضنة لتقنيات المعلومات) وبولندا (حيث تنشط الشركات متعددة الجنسيات مثل مجموعة بورصة لندن -رفينيتيف) وسلوفاكيا وهنغاريا. بشكل عام، فإن الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي لا يندمون تقريبًا، باستثناء دولتين: رومانيا وبلغاريا. الأخيران، اللذان انضما إلى الاتحاد الأوروبي في وقت لاحق (2007)، يعانيان من الفساد المنهجي الذي يقود السكان إلى الندم على النظام الاقتصادي الاشتراكي، ولكن لا يطال هذا الجوانب السياسية.

ينطبق هذا النمط أيضًا على دول البلقان. أصبحت سلوفينيا وكرواتيا، مركزين للسياحة العالمية، وتبرز سلوفينيا باسم “سويسرا البلقان”، بينما كرواتيا في طريقها لأن تصبح بديلاً للوجهات التاريخية مثل إسبانيا وإيطاليا. وعلى هذا النحو، تم تصوير مسلسل لعبة العروش في كرواتيا.
في المقابل، فإن البلدان غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والتي تجد صعوبة في إنعاش اقتصاداتها، وابتليت بالتوترات الداخلية، فإنها تأوي حنينًا معينًا إلى النظام الاقتصادي قبل عام 1991. وتشمل هذه البلدان أوكرانيا ومولدوفا وبيلاروسيا وجورجيا وأرمينيا.

تتمتع البلدان المذكورة أعلاه، بمتوسط أجور منخفض (أقل من الصين، على سبيل المثال)، ومعدل مواليد منخفض مصحوب بنزوح جماعي للشباب، وتراجع في البنية التحتية. الاختلافات كبيرة بين بلد مثل مولدوفا، التي تعد الأفقر في أوروبا، وجورجيا التي تستفيد من السياحة ولا تزال لديها بعض الصناعات القوية مثل مياه بورجومي المعدنية، ولكن بشكل عام لا تزال هناك فجوة مع أولئك الموجودين الآن في الاتحاد الأوروبي.
الاستثناء الوحيد هو أذربيجان، التي ليست جزءً من الاتحاد الأوروبي ولكنها تتوفّر على موارد اقتصادية كبيرة بفضل ثروتها النفطية. ولهذا، ليس هناك ندم على النظام السياسي والاقتصادي في الفترة الشيوعية.

الفئة الثالثة، أو بالأحرى وطن الحنين للنظام الاقتصادي، هي روسيا. لا تزال هناك اختلافات بين المناطق الحضرية والريفية، وكذلك بين الشباب والمسنّين، لكن الكثير من الناس في المناطق الريفية يتحسّرون على الفترة الشيوعية التي تؤمّن شغلا مدى الحياة للجميع. ومع ذلك، على عكس البلدان الأخرى، تعيش روسيا شكلاً من أشكال الحنين إلى النظام السياسي أو بالأحرى لعظمة الإمبراطورية المعاصرة التي كانت، الاتحاد السوفياتي.
ورغم أن روسيا لا تمثل الاتحاد السوفياتي السابق بأكمله، إلا أن العديد من المواطنين الروس يعتبرونها وريثًا لتلك الفترة، وهذا هو السبب في أننا نشهد عودة عبادة ستالين (رغم أنه جورجي)، الذي يظهر كشخصية رمزية في الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفياتي (وبالتالي روسيا في أذهان العديد من الروس) في قلب النظام الدولي.

وبالنسبة لبعض الروس، هناك دلالة عاطفية، لأن روسيا مرتبطة من الناحية النفسية بالاتحاد السوفياتي، وهذا ليس هو الحال في بلدان مثل إستونيا حيث يعدّ الاتحاد السوفياتي خارجيًا، أي احتلال للمنطقة من قبل مجموعة أخرى.
يمكننا أيضًا الاستشهاد بست حالات فردية قريبة من روسيا: أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وترانسنيستريا وغاغوزيا وأوكرانيا الشرقية وناغورنو كاراباخ. تجد هذه المناطق الرمادية التي مزقتها الحرب، صعوبة في إيجاد مكان لها في النظام الدولي، وبالتالي تتعهّد حنينا حقيقيا إلى الفترة الشيوعية، التي لم تكن أكثر ازدهارًا فحسب، بل كانت أيضًا مستقرة وخالية من الحروب.

* هذه الاتجاهات، ولا سيما النفور من التغيير، هل يمكن أن تلقي الضوء على سلوكيات معينة في الدول الغربية؟
- تتقاسم أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية خصائص مشتركة مع أوروبا الشرقية، وفي هذا الصدد، نرى أن العديد من الدول الغربية تعاني من توترات تتعلق بالهوية، كما هو الحال في اسكتلندا أو كيبيك أو كاتالونيا. وتتفاقم هذه التوترات في أوقات الأزمات الاقتصادية، وهي ظاهرة كلاسيكية في علم النفس الاجتماعي، حيث يتعين ايجاد كبش فداء للمشاكل الاقتصادية بدلاً من تحمل المسؤولية الذاتية، وهو ما يفعله الانفصاليون والحكومات المركزية (على سبيل المثال، من خلال إلقاء اللوم على الاتحاد الأوروبي أو الصين) .

في النهاية، الأمر كله يتعلق بالأداء الاقتصادي، وانكفاء الهوية هو نتيجة لضعف الأداء. وفي هذا الصدد، تتعرض دول مثل فرنسا وبريطانيا العظمى، لخطر الانكفاء الهووي لأن الحقبة التي كانت فيها تلك الدول إمبراطوريات، تبدو عظيمة مقارنة بوضعها الحالي في أوروبا.
ويتجلى نفورنا من التغيير فقط إذا كان ضارًا اقتصاديًا، وأي تغيير يجلب منافع مالية يكون موضع تقدير أكبر في جميع هياكل المجتمع. في النهاية، نحن ننتمي إلى نفس النوع، والآليات النفسية التي تؤدي إلى الحنين هي نفسها بين مواطني الغرب والشرق.

* دولة ذات هوية قوية ومختلفة، هل تمارس ما يكفي من الجاذبية ما يجعل من هوية أقل تمايزًا، ولكن موضوعيا أفضل من حيث الظروف المعيشية، مرغوب فيها بنسبة أقل؟ وإلى أي مدى هذا هو الحال في أوروبا الغربية؟
- هذا هو الحال فعلا. هناك تحيز مؤيد للمجموعة الداخلية، حيث تكون مجموعة من المواطنين على استعداد لرفض دولة أخرى، حتى لو كان أداء هذا البلد أفضل في جميع المجالات تقريبًا. والمثال اللافت للنظر هو سويسرا، التي تتمتع بمرونة ديمقراطية واقتصادية أكبر من تلك التي تتمتع بها غالبية دول الاتحاد الأوروبي.

يقودنا التحيز المؤيد للمجموعة الداخلية إلى رفض مجموعة/دولة أخرى بشكل ساحق دون أي مبرر حقيقي، لأنه سيشكك ويعيد النظر في هويتنا، ويؤدي إلى التنافر المعرفي. ولهذا ترفض الولايات المتحدة النموذج الفرنسي الذي يعد مع ذلك نموذجًا من حيث التعليم والرعاية الصحية في متناول الجميع، في حين أن الفرنسيين يفعلون الشيء نفسه مع سويسرا التي تعتبر نموذجًا من حيث الحوكمة الإقليمية. كل أمة ترفض الآخر بحجج غير متماسكة دائمًا، وهو ما يفسر العالم الذي نعيش فيه، حيث يكون العثور على إجماع أصعب من الدخول في مواجهة مع طرف ثالث.

من الأمثلة الصارخة في أوروبا الغربية، صعوبة تقبّل تمتّع البلدان الشابة بخبرة في مجالات معينة. حالة إستونيا ملفتة للنظر مرة أخرى، فهذا البلد لديه كل العناصر التي يمكن أن تسهّل الحياة اليومية لملايين الأوروبيين من خلال نظام الرعاية الصحية الإلكترونية، أو الحكومة الإلكترونية، أو الضرائب الإلكترونية، أو التصويت الإلكتروني.

ويمكن لفرنسا أن توفر مليارات اليورو كل عام، وتكافح الاحتباس الحراري، من خلال تقليد النموذج الإستوني للحوكمة الإلكترونية، لكنها ترفض القيام بذلك، وهو ما يبدو متناقضًا لأنها ستكسب كل شيء، تمامًا كما ستكسب إذا استلهمت من النموذج السويسري لتحقيق اللامركزية في إدارتها وعدم وجود شخصية رئاسية واحدة (الأول بين أقرانه، تتم ممارسة الوظيفة كل عام من قبل عضو مجلس اتحادي مختلف، يتم انتخابه وفقًا لمبدأ الأقدمية). ان الفارق الوحيد هو أن الغرب قد برر نموذجه منذ فترة طويلة دون مراجعته او التشكيك فيه لأنه كان مربحًا، وهو ما لم يعد كذلك بالنسبة لبعض الدول، الأمر الذي يحرّضها اذن على الحنين إلى الماضي بدلاً من التكيّف.