ليّ ذراع بين ستراسبورغ وبروكسل:

فرنسا: التنازل عن البرلمان الأوروبي، نقاش محظور...!

فرنسا: التنازل عن البرلمان الأوروبي، نقاش محظور...!

-- يلخص هذا البرلمان ذو الرأسين بناء أوروبا: معقدة ومتذبذبة وتاريخية ومليئة بالتسويات
-- مثل جميع المؤسسات الأوروبية، فإن البرلمان الحالي هو نتيجة الاندماج والمعاهدات
-- تعيين العاصمة البلجيكية كمقر وحيد للبرلمان «وأمانته» من شأنه تبسيط الأمور
-- منحت معاهدة لشبونة البرلمان العديد من الصلاحيات والثقل السياسي، إلا أنها لم تحل مشكلة المقرّ
-- إبعاد البرلمان، الذي يجد صعوبة في إسماع صوته، عن مركز السلطة الأوروبية سيكون له تأثير سلبي


من الذي يريد رأس مقرّ البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ؟ كان بالإمكان الاعتقاد، عند قراءة الرسالة التي وجهها كاتب الدولة الفرنسي كليمان بون، إلى رئيس البرلمان ديفيد ساسولي، أن المؤسسة في خطر: السبب، عدم اجتماع أعضاء البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ منذ بداية وباء كوفيد-19.     بعد بضعة أيام، رأت مدينة ستراسبورغ ومنطقة الشرق الكبير، أنه من المناسب التعبير عن غضبها، في إعلان دعائي كلفته “حوالي 500 مليون يورو” من التجديد المبرمج لمقر العمل في بروكسل. النتيجة، إن ساسولي “مندهش وغاضب”، وأثارت الدولة الفرنسية نقاشا لا نهاية له يتعلق بصواب وضع حد لمقر البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ أم لا.

   تكمن المشكلة في أن المقر الرسمي للبرلمان يقع في ستراسبورغ، لكن أعضاء البرلمان الأوروبي هم في معظم الأحيان في مقر ثان، ببروكسل -أسهل للنقاش مع المفوضية الأوروبية، ومجلس الاتحاد الأوروبي، وكذلك مع الصحفيين والمجموعات المؤثرة، وجميعها تقع في الحي الأوروبي بالعاصمة البلجيكية. المبنى الرائع في ستراسبورغ، لويز فايس، الذي تم الانتهاء منه عام 2009، يستقبل النواب أربعة أيام فقط في الشهر للأسئلة العامة.

ذهب رئيس البرلمان، ديفيد ساسولي، إلى ستراسبورغ يوم الاثنين 14 ديسمبر لإعادة فتح البرلمان رمزيا. وقد ألقى في الواقع خطابًا دام ثلاثين دقيقة تحت قبة نصف فارغة تقريبًا. مسرحية لطمأنة فرنسا لكنها فشلت، حتى أن بعض النواب الحاضرين عادوا إلى بروكسل في اليوم نفسه .
   في كل مرة، يكون نفس التنقّل لآلاف الناس بين بروكسل والمدينة الألزاسية. مكسب مالي غير متوقع لستراسبورغ، لكنه وجع راس لوجستي ينبعث منه الكثير من ثاني أكسيد الكربون. ونتيجة لذلك، دعت العديد من الأصوات منذ سنوات إلى الاستخدام الوحيد لمقر بروكسل، اقتراح تعارضه فرنسا بشكل منهجي. وبما أن الإجماع هو القاعدة في هذا الموضوع، فإن الوضع القائم هو السائد، ولم تحسم المسألة بعد.

الرمز والبراغماتية
   كيف وصلنا إلى هنا؟ للإجابة على ذلك، تجب العودة بعيدا إلى الوراء، عام 1952. كانت المجموعة الاقتصادية للفحم والصلب المنشأة حديثًا، تبحث عن مقرات لمجلسها، والذي يضم ممثلين عن الدول الست التي تشكل التحالف. وبدت ستراسبورغ خيارا براغماتيا.
   «كان لمجلس أوروبا مكاتب في هذه المدينة، ويمكن تقاسمها مع المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، خاصة أن بعض النواب ممثلون في المؤسستين”، تشرح ناتالي براك، المتخصصة في القضايا الأوروبية، وأستاذة في جامعة بروكسل الحرة وكلية أوروبا، وبالإضافة إلى المباني، تمتلك المدينة الألزاسية أيضًا معدات الترجمة الفورية، وهي ضروريـــــة لمجلس متعــــــدد اللغات.

 يضاف إلى ذلك “الجانب الرمزي لموقع المدينة الجغرافي”، بالقرب من ألمانيا.
   وعلى غرار جميع المؤسسات الأوروبية، فإن البرلمان الحالي هو نتيجة للاندماج والمعاهدات. ويعود تاريخ مقر بروكسل إلى إنشاء المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1957. ولا ترغب لوكسمبورغ، حيث يوجد العديد من المقار الرئيسية للمؤسسات، في استقبال المزيد من الأشخاص. “قيل حينها انه سيتم اقامة مقرّ مؤقتّ في بروكسل، ومواصلة الاجتماع في ستراسبورغ”، تتابع ناتالي براك. عام 1965، دمجت معاهدة المؤسسات الأوروبية الثلاث “المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، المجموعة الاقتصادية الأوروبية والمعاهدة المؤسسة للمجموعة الأوروبية للطاقة الذرية” وطُرحت حينها مسالة الاقتراب من أمانة البرلمان، ومقرها في لوكسمبورغ.

   «مع أول انتخابات مباشرة للبرلمان الأوروبي عام 1979، بدأ أعضاء البرلمان الأوروبي بالذهاب إلى ستراسبورغ مرة أخرى”، تشير ناتالي براك. عام 1981، تم استبعاد لوكسمبورغ وبدأت المناقشة حول المقر الواحد”. ومنذئذ، لم يتغير شيء، أو تقريبًا، باستثناء أن مقرّ ستراسبورغ قد تمت المصادقة عليه في معاهدات متعاقبة. ولئن منحت معاهدة لشبونة لعام 2007 البرلمان العديد من الصلاحيات والثقل السياسي، إلا أنها لم تحل هذه المشكلة.
   اذن، الموجة المعادية لستراسبورغ تتصاعد منذ سنوات بين جزء كبير من البرلمانيين الأوروبيين غير الفرنسيين. والأسباب المطروحة للتخلي عن المقر الرئيسي في ستراسبورغ عديدة: أولاً، تكلفته 114 مليون يورو في السنة، ثم، التأثير الكربوني العالي لنقل آلاف الأشخاص دفعة واحدة شهريًا من مدينة إلى أخرى.

ولمَ لا ستراسبورغ؟
   ولكن، إذا كان لا بد من الاختيار، فقد قيل أيضًا أن ستراسبورغ يمكن أن تصبح الغرفة التشريعية الأوروبية الوحيدة. المبنى حديث “وجميل” ولن يكلف دافع الضرائب الأوروبي 500 مليون يورو لتجديده. وقد طلب وزير الدولة لشؤون أوروبا في رسالته، التفكير في “نقل الخدمات الأخرى التابعة للبرلمان الأوروبي إلى ستراسبورغ».
   لقد أظهرت فترة الوباء أيضًا، أنه يمكن إنجاز جزء من العمل البرلماني عن بُعد. لكن، هل هذا كاف لتبرير مقر واحد في فرنسا؟ بالنسبة إلى صوفي بورنشليغيل، أستاذة العلوم السياسية الفرنسية -الألمانية في مركز أبحاث مركز السياسة الأوروبية في بروكسل، الإجابة هي لا: “الاتصال المباشر والشخصي مهم للغاية. في الواقع، يجري العمل البرلماني من قبل في بروكسل، ولن تفتح أي منظمة غير حكومية مقرها الأوروبي في ستراسبورغ، وإنما في بلجيكا، لأنه سيكون باستطاعتها مقابلة جميع البرلمانيين والمؤسسات الأخرى هناك «.
   إن إبعاد البرلمان، الذي يجد صعوبة في إسماع صوته، عن مركز السلطة الأوروبية سيكون له تأثير سلبي.
 وفي كل الأحوال، فإن غالبية أعضاء البرلمان الأوروبي لا يؤيدون وجود مقر واحد في ستراسبورغ.
 “هناك رغبة لدى الأغلبية في البرلمان ليكون هناك مقرّ واحد، وخاصة في بروكسل، توضح ناتالي براك، فقد تراجعت مسألة الرمزية قليلاً إلى الخلف منذ عام 2000 بالنسبة لأعضاء البرلمان الأوروبي، وأصبحت خصوصا مسألة عمليّة: جميع المؤسسات موجودة في بروكسل، والمكاتب الموجودة في الموقع ليست مثالية، ولكن إذا كنت تريد البقاء في مركز السلطة، التواجد في ستراسبورغ ليس هو الحل الأفضل «.
   ما هي ميزة بروكسل؟ بصرف النظر عن الجانب التشريعي والاقتصادي والبيئي، فإن اختيار مقرّ واحد سيكون له ميزة تبسيط الاتحاد الأوروبي الذي يعتبره المواطنون الأوروبيون معقدًا.
   إن تعيين العاصمة البلجيكية كمقر وحيد للبرلمان “وأمانته” من شأنه تبسيط الأمور. “سيكون الحصول على كل شيء في نفس العاصمة، التي لا تبعد كثيرًا عن باريس، خطوة إلى الأمام، تؤكد صوفي بورنشليغيل، لقد رأينا بوضوح أهمية وجود معظم المؤسسات في نفس المدينة عندما تم نقل العاصمة الألمانية من بون إلى برلين عام 1991. ولكي يكون هناك نظام سياسي ناجح، ذهبت معظم الوزارات إلى برلين «.
   خاصة أن وجود هذا الترحيل الأوروبي الشهري، يستخدم سياسيًا من الدول الأعضاء. “إحدى المشاكل، بخلاف المسالة العملية، هي أنه يرسل صورة سلبية يتم استخدامها من قبل السياسيين لإظهار تكاليف سير المؤسسة وعدم فاعلية أوروبا، خاصة في الوقت الذي تقدم فيه المفوضية صفقتها الخضراء”، تلاحظ ناتالي براك.

من المحرمات في فرنسا
   أما في فرنسا، يعتبر طرح المسألة من المحرمات تقريبًا. وتجدر الإشارة إلى أن إلغاء مقرّ ستراسبورغ سيكون له تأثير سلبي على اقتصاد المدينة الألزاسية، والأخطر من ذلك، سيبعث انطباعًا بالضعف. “من وجهة نظر اقتصادية وتشريعية فرنسية -فرنسية، ومن وجهة نظر السياسة الداخلية، فإن وجود البرلمان في ستراسبورغ مهم للمنطقة والاقتصاد المحلي، تقول صوفي بورنشليغيل، لكن يمكن استثمار هذه النفقات البالغة 114 مليون يورو سنويًا في شيء آخر من شأنه أن يفيد الفرنسيين أيضًا. هناك خطر أن تخسر فرنسا بعض الشرعية بإصرارها على هذه النقطة. إنها رمزية، وبصفتي فرنسية-ألمانية، أتفهم أهمية ذلك، لكنها غير معقولة من وجهة نظر عملية أو تشريعية «.
   هل ستكون فرنسا يومًا ما مستعدة لتوديع البرلمان الأوروبي؟ ربما، ولكن بالتأكيد ليس الان. قد تكون باريس معزولة بشأن هذه القضية، ولا يبدو أن هناك ما يشير إلى أن تغيير العقيدة في طور الإعداد. “كل هذا يوضح الصعوبة التي تفرضها هيمنة المصالح الوطنية في البناء الأوروبي”، تخلص صوفي بورنشليغيل.
   وفي كل الأحوال، لن يكون تغيير بهذا الحجم دون تعويض. “يمكننا أن نتخيل أن يتمّ هذا خلال مفاوضات، مع تبادل مهم أو رمزي لصالح فرنسا حتى تتمكن من ابتلاع الحبّة، تغامر ناتالي براك، أو، إذا وجدت فرنسا نفسها في موقف الأقلية المتطرفة بشأن ملف مهم للغاية، فقد تكون ورقة مساومة «.
   لذلك يمكن أن نتصوّر أن ستراسبورغ ستحصل في المقابل على وكالة أوروبية، أو أن يُستخدم مبنى البرلمان لإنشاء جامعة أوروبية، موضوع قديم قدم النقاش حول موقع مقر المؤسسة.
في العمق، يلخص هذا البرلمان ذو الرأسين بناء أوروبا: معقدة ومتذبذبة وتاريخية ومليئة بالتنازلات والتسويات... ولكن أيضا قيد الإنشاء.