الفصل التقليدي بين اليسار واليمين انتهى

فرنسا: الرئاسية 2022، كلهم سياديون...!

فرنسا: الرئاسية 2022، كلهم سياديون...!


كما أكد استطلاع هاريس الأخير لنوايا التصويت في الرئاسية الفرنسية، فإن الانقسام بين اليسار واليمين لم يعد قادرًا على تنظيم عمل النظام السياسي والحزبي. اليسار بجميع اتجاهاته، ومعه الخضر، يبلغ 26 بالمائة فقط، كما أنه يظل منقسمًا بشدة. من جانبهما، يتعارض كل من الجمهوريين والتجمع الوطني سياسيا.
ويبدو أن للمرشحين المحتملين المعادين لكل من إيمانويل ماكرون ومارين لوبان، والذين أصبحوا على دراية بتآكل تقسيم يسار / يمين، هدف استراتيجي مشترك يتمثل في تثبيت فجوة جديدة تتمحور حول مسالة السيادة الوطنية من شأنها أن تجعل من الممكن عرقلة هيمنة التعارض بين الوسط الماكروني واليمين المتطرف لحزب التجمع الوطني و”العولميين” و”الشعبويين».
فهــــل يمكن أن تنجـــح مثــــل هــــذه المحاولة؟ وهل يمكن لأحزاب اليسار واليمين وفق الانقسـام القديم أن تتقارب بشكل كافٍ لتشكل بديلاً سياسيًا للماكرونية حول موضوع السيادة الوطنية دون إعطاء السلطة لمارين لوبان؟ هذا هو السؤال المطروح.

هناك العديد من المحاولات للتقارب في الفترة الحالية بين مختلف السياديين وهي تحدث من خلال شخصية الجنرال ديغول... كلهم ديغوليين بطريقة ما. إن السيادة المرتبطة بالجنرال تجعل من الممكن إدانة الليبرالية الاقتصادية وأوروبا الليبرالية.  

كزافييه برتراند، وجان لوك ميلينشون، وآرنو مونتبورغ، وجميعهم من المرشحين المفترضين للرئاسة، يضاعفون احترامهم له. وقد صوّتوا جميعا بـ “لا” في الاستفتاء على معاهدة ماستريخت.
وهكذا يعلن برتراند: “بعيدًا عن المعاهدة، كانت هناك إيديولوجية العولمة السعيدة والليبرالية الجديدة باعتبارها السبيل الوحيد الممكن... السيادة هي رفض احادية الفكر، وشكل حقيقي من أشكال الاستقلال. وقد أجرى الجنرال ديغول الإصلاحات التي ستسمح لفرنسا بالحفاظ على الاستقلال والسيادة، مفهومان لا ينفصلان”. تبادل هو ومونتبورغ الود، والتقيا معًا حول مسألة السيادة.

يشير الرجل الثاني في الجمهوريين، غيوم بلتيير، إلى “النقاط المشتركة” مع آرنو مونتبورغ الذي يحلم، من جانبه، بـ “ديغول جماعي” لفرنسا عام 2022، حكومة تتجاوز الانقسامات التقليدية. وهكذا صرح لـ “لو بوان” في يناير: “يبدو لي أن يمين ما بعد الديغولية، الذي يدافع عن بلادنا ولا يؤيد العولمة، هو قريب مني مثل العديد من الشخصيات اليسارية».

منذ أكتوبر 2019، دعا بلتيير في كتابه “لاعب وسط: ماذا تحدث اليمين مرة أخرى لكل الفرنسيين؟” إلى إنشاء “حركة مصالحة وطنية” وتوحيد “الكتلة الشعبية والجمهورية” امام “المواجهة العقيمة بين” الكتلة التقدمية والنخبوية” لإيمانويل ماكرون و”الكتلة الشعبوية” المتطرفة. إن اصولنا هي في نفس الوقت ارث كل من الجنرال ديغول وفيليب سوغان وجان بيير شوفنمان”، كما كتب.

نفس الخطاب ألقاه كزافييه برتراند في مايو 2017: “الفرنسيون يبحثون عن توازن، إنهم يحلمون بحكومة وحدة وطنية حقيقية، ومصلحة عامة، وليس تجمّعا على الطريقة القديمة كما في عام 1988”. عام 2020، وفي مقابلة مع صحيفة صباح كورسيكا اليومية، كرر نائب أوت دو فرانس: “سئم الناس الأحزاب، يريدون افعالا بغض النظر عن الجهة السياسية. وهو يدافع هكذا عن استراتيجية “القوس الجمهوري”. يتطلع الجميع إلى السيادي جان بيير شوفنمان، وهو أيضًا مناهض بارز لماستريخت.

جان لوك ميلنشون ليس خارج الصورة ايضا. في يونيو 2020، في مقابلة طويلة مع المجلة السياسية والبرلمانية ركزت على ديغول، قال إن “هوسه بالاستقلال، بما في ذلك ضد قوى قوية على ما يبدو، هو شكل من أشكال التمرد البطولي الذي يجب أن يكون نموذجًا. لم يعتنق ديغول أبدًا فكرة اليد الخفية للسوق. الليبرالية منتج مستورد في فرنسا.   في الوقت الحالي، تبدو سياسة حركة فرنسا المتمردة أقرب إلى الممارسة الديغولية بشأن هذه القضايا من الأشخاص الذين يدعون الانتماء للجنرال”. انه يطالب معه “بتواطؤ لا يوصف بخصوص حب فرنسا، وبشكل ملموس، عرّفت نفسي بأنني ناشط استقلالي فرنسي”. ويضيف: “أنا أؤمن بدور الرجال العظماء أو النساء العظماء في التاريخ... السيادة الأوروبية مجرد وهم خطير».

ومع ذلك، هل سيسمح مثل هذا الالتقاء والتقارب بشأن استعادة السيادة الوطنية لكل هذه الشخصيات بالتوحد سياسيًا ومواجهة كل من إيمانويل ماكرون ومارين لوبان؟ تكمن الصعوبة الأولى في حقيقة أن مارين لوبان هي بوضوح الممثل الرئيسي للتيار السيادي على المستوى الانتخابي. بالإضافة إلى ذلك، فقد اقتربت بمرور الوقت من الجنرال ديغول، مفترضة “استمرارية” معه بينما يمثل إيمانويل ماكرون، من وجهة نظرها، “النقيض».
ذهبت للاحتفال عام 2020 في جزيرة سين بالذكرى الثمانين لنداء 18 يونيو. في عام 2020، في مقال مطوّل في المجلة السياسية والبرلمانية، اعتبرت رئيسة التجمع الوطني أنه من “الملح” أن “نستلهم” من الجنرال في الأزمة الصحية الحالية، مشددة على التعارض القائم من بين ديغول الذي وجهة نظرها “من فرنسا”، وإيمانويل ماكرون الذي “ليس من البلد” وانما “من طبقة اقتصادية، ومن أوساط المال، وفئة مغلقة».

ولا يبدو أن ميلينشون نفسه، بصفته شعبويًا جيدًا، يستبعدها من “القوس الجمهوري”، حيث أعلن عام 2019: “مارين لوبان، بصدد احراز تقدم نحو الإنسانية، ولن أشكو من ذلك في كل الاحوال، وأعضاؤها في الميدان مرحب بهم. «
أما بالنسبة لإيمانويل ماكرون، فهل يمكن تصنيفه بسهولة بين مناهضي السياديين؟ ألا يعلن نفسه على أنه ديغولي مثلهم؟ حتى أنه في الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2017 كان المرشح الذي أشار بوضوح إلى الجنرال واستمر في إعادة تأكيد هذا التقارب منذئذ. لقد أصر على الاحتفال بـ “عام ديغول” في 2020، مشيدًا “بالرجل الذي جسَّد بقوة وحيوية روح الأمة الفرنسية، وعرف كيف يجمع الفرنسيين معًا في الأوقات التي صنعت تاريخ جمهوريتنا، وجسد شكلاً من أشكال الصمود والإرادة، وهما سمتان من السمات المميزة جدًا للأمة الفرنسية عبر التاريخ».

 يعلي ماكرون أيضًا من شأن موضوع السيادة بشكل متزايد. طبعا، يدافع عن فكرة أنه لا يمكن حمايتها إلا في إطار السيادة الأوروبية. لكن مثل هذه الرؤية لا تستثني عنده الدفاع عن السيادة الوطنية. ففي خطاب موجه للفرنسيين 14 يونيو 2020، وبلهجة سيادية للغاية، دعا إلى إعادة بناء اقتصاد قوي بيئي وسيادي ومتضامن، وإلى الاستقلال التكنولوجي والرقمي والصناعي والزراعي. ولئن يدعو إلى تعزيز أوروبا المستقلة، وأوروبا الأكثر سيادة، فهو يربطها باستقلال فرنسا: “نتوحد حول الوطنية الجمهورية».

وزير المالية، برونو لو مير، الذي كان يعتبر في بداية الخماسية ليبراليًا إلى حد ما، أظهر حدود هذه الليبرالية من خلال معارضة عرض استحواذ شركة كوشي تارد الكندية على كارفور، أي للاستثمارات الأجنبية في قطاع التوزيع، باسم الدفاع عن السيادة الغذائية!  اذن، سيجد السياديون بعض الصعوبة في جعل السيادة العنصر المركزي للانقسام السياسي الذي يترجم تعارضهم مع كل من ماكرون ولوبان، خاصة أن كل واحد منهم، يفسر إرث الجنرال بطريقته الخاصة، ويدعي أنه يحتفظ بقطعته من الديغولية الحقيقية. فمن يستطيع أن يقول كيف كان ديغول نفسه سيعرّف السيادية اليوم؟

من جهة اخرى، إلى أي مدى يمكن أن تذهب بشكل ملموس حملة استعادة السيادة الوطنية في اتحاد أوروبي لديه عملته وبنكه المركزي ومؤسساته، والتي يبدو أن غالبية الفرنسيين غير نادمين عليها. أما “تفكيك العولمة”، فكيف نطبقه على أرض الواقع؟
أخيرًا، فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية لعام 2022، حتى مع الاعتراف بأن هؤلاء المرشحين السياديين المختلفين قد أقاموا تقاربا فيما بينهم، فسيعارضون بعضهم البعض في الجولة الأولى. وقد أظهر استطلاع هاريس أن مارين لوبان ستتأهل على الأرجح للجولة الثانية. وفي ظل هذه الظروف، إما أنها ستواجه إيمانويل ماكرون: في هذه الحالة، سيتعين على المرشحين السياديين الذين استبعدوا، التصويت لها إذا كانوا منطقيين مع اكراهات الانقسام الجديد، وبالتالي قبول أن التجمع الوطني هو الحزب المهيمن في المعسكر السيادي. في الواقع، ان الانتخابات الرئاسية ليست استفتاءً: إذا هُزم ماكرون، فسيتم انتخاب لوبان. فهل سيذهب السياديون الى نهاية هذا المنطق؟ وإما ان يكون مرشحًا سياديًا قريبًا من الجمهوريين هو الذي سيواجه مرشحة التجمع الوطني في الجولة الثانية. ومثل هذه المبارزة لا يمكن هيكلتها بشكل أساسي من خلال هذا الانقسام. وكما نرى، لئن فقد الانقسام بين اليسار واليمين سلطته التنظيمية، فإن الانقسام السيادي - العولمي-الأوروبي لن يكون قادرًا على الانتصار إلا إذا تم انتخاب مارين لوبان.

إن فرض السيادية كموضوع موحد ضد ماكرون وضد لوبان، وضد “العولمة” وضد “الشعبويين”، يبدو اذن استراتيجية غير مؤكدة وخطيرة. في الواقع، أعطى استطلاع هاريس، في الجولة الثانية من المبارزة بين ماكرون ولوبان، أغلبية ضئيلة تبلغ 52 بالمائة فقط في الجولة الأولى. على السياديين من جميع الأطياف الذين يدعون أنهم معادون للشعبويين أن يضعوا ذلك في الاعتبار!
مدير البحوث المميّز في المركز الوطني للبحث العلمي