لفهم أفضل لديبلوماسيتها منذ الثمانينات:

فرنسا: الـ «كي دورسيه» كما لو كنت هناك...!

فرنسا: الـ «كي دورسيه» كما لو كنت هناك...!

-- لا يخفي كتاب «الدبلوماسية الفرنسية» الصعوبات والتحولات التي واجهتها الدبلوماسية الفرنسية خلال الثلاثين إلى الأربعين سنة الماضية
-- يسعى كريستيان ليكسن في كتاب إثنوغرافيا الـ«كي دورسيه»، للهروب من التحليل الوظيفي البحت، للسؤال عن فنون الممارسة الدبلوماسية اليومية
--  في جواز سفر دبلوماسي لا ينقص أسلوب جيرار أرود الروح الاستفزازية، وهي نادرة لدى الدبلوماسيين


أصبحت مذكرات الدبلوماسيين وكتب الصحفيين حول كلفة النزوات والأهواء الذاتية، والخلل في سير الـ “كي دورسيه”، مؤلفات كلاسيكية في المكتبات، سواء في بحوث أو روايات أو حتى قصص مصوّرة ، وفي جودة متفاوتة في كثير من الأحيان. وهذا هو السبب في أن هذه المنشورات، التي ليست دائمًا متفردة، مخصصة بشكل عام لجمهور مأسور، ولا تشكل في حد ذاتها حدثا بارزا بشكل خاص.   ولكن، في كثير من الجوانب، ليس هذا هو حال الأعمال المعروضة هنا، وذلك لعدة أسباب.

أسرار الدبلوماسية كما يراها سفير محنك
   في البداية، كان لجواز سفر جيرار أرود الدبلوماسي، الذي نُشر في نهاية العام الماضي، تأثيرًا معينًا، بالنظر إلى السيرة الغنية والصراحة المعروفة لمؤلفه، بعد أن عرف الـ “كي دورسيه” ما يقرب من أربعين عامًا -كما يشير العنوان الفرعي لكتابه -حتى أصبح سفيرًا محترمًا في تل أبيب ونيويورك (في البعثة الفرنسية في الأمم المتحدة) وواشنطن.
   هذا الذي يعتبره البعض أطلنطيًا أو حتى محافظًا جديدًا في الدبلوماسية الفرنسية، التي هي تقليديًا ديغولية-ميترانية (إذا كان لا يزال للمصطلحين معنى عام 2020)، يضيف إلى شهادته انتقادات لاذعة لحكومة الولايات المتحدة بزعامة دونالد ترامب.    في البداية، وبطريقة كلاسيكية، عاد الدبلوماسي جيرار أرود، خريج البوليتكنيك والمدرسة الوطنية للإدارة (اللقب الأول أكثر ندرة بكثير من الثاني في عالم الدبلوماسية المقولب)، إلى مسيرته المهنية التي استمرت سبعة وثلاثين عامًا في مناصب عليا في الوظيفة العمومية الفرنسية: أولا كسكرتير سفارة بسيط (في تل أبيب) ، ثم مستشارا في واشنطن (الإقامة الأولى) ، ليصبح ، بعد فترة وجيزة لم تقنعه قضاها بالشؤون الأوروبية في كي دورسيه ، المستشار الدبلوماسي لوزير الدفاع فرانسوا ليوتارد، منصب في الديوان يسمح عادة بتسريع المسيرة المهنية. ثم: نائب الممثل الدائم لفرنسا لدى الناتو، ومديرا للشؤون الاستراتيجية، والأمن ونزع السلاح في كاي دورسيه، ثم سفير فرنسا لدى إسرائيل، ونائب الأمين العام لوزارة الخارجية، وممثل فرنسا في مجلس الأمن الدولي، وأخيرًا، السفير لدى الولايات المتحدة من يوليو 2014 إلى يونيو 2019، مما اتاح له فرصة أن يكون في الصفوف الأولى خلال عملية التسليم بين إدارتي أوباما وترامب المتعارضتين تمامًا.
   في عرضه بشكل متفاوت لمواقعه المختلفة، يخصص جيرارد أرود في الواقع الجزء الرئيسي من كتابه الحي والمُجسَّد -والذي لا يشكل مذكرات بالمعنى الدقيق للكلمة -لتجربته الأمريكية، حيث يذهب إلى حد اقتراحه في الفصول الأخيرة افكارا (جيدة بشكل خاص، رغم أنها غالبًا ما تكون محل خلاف) حول العلاقات العابرة للأطلسي، وكذلك على خصوصيات السياسة الخارجية الأمريكية في عهد أوباما وترامب.

   المؤلف معروف جيدًا، خاصة في عالم الصحافة، بسبب تغريدته (“بعد البريكسيت وهذه الانتخابات، كل شيء ممكن الآن، انه عالم ينهار”) بثها خلال السهرة الانتخابية في نوفمبر 2016 والتي توّجت دونالد ترامب، ضد كل التوقعات، الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية.    أي دبلوماسي، ولو سفيرا رفيع المستوى، كان سيعاقب فورا من قبل بلده على مثل هذا الانتهاك للحياد الذي تتطلبه وظيفة التمثيل. لم يكن هذا هو الحال مع جيرار أرود، الذي سيبقى في منصبه حتى عام 2019. ويرى البعض، من بين الدبلوماسيين الفرنسيين، أنه استفاد في الحقيقة من مجموعة عوامل وظروف، فبعد أن طلبت مارين لوبان من الوزير لو دريان استدعاءه إلى باريس بعد تغريدته، لم يستجب الوزير حتى لا يستسلم لضغوط رئيسة الجبهة الوطنية.

   وأخيرًا، إن أسلوب أرود ممتع للقراءة، ولا تنقصه الروح الاستفزازية، وهو أمر نادر لدى دبلوماسي. وهكذا يمكننا ان نبتسم عندما يكتب عن التقدم الوظيفي في وزارة الخارجية: “إن إعلامك بوظيفة شاغرة قبل الآخرين والحصول على موافقة السفير، كان دائمًا، في كي دورسيه، الطريق الصحيح للدبلوماسي ليذهب إلى حيث يريد؛ ثم عليك إقناع إدارة شؤون الموظفين بأنهم اصحاب هذه الفكرة، لكن الأمر ليس صعبًا للغاية. وفي كل الاحوال، هذه هي الطريقة التي أدرت بها حياتي المهنية، في إدارة حيث يعرف الجميع بعضهم البعض، وحيث تنتشر المعلومات بسرعة، هذا إذا كان لديك أصدقاء وتتمتّع بسمعة حسنة».     كما نرى، فإن الاستفزاز يلامس أيضًا الكبرياء والرضا عن النفس. وهذا أمر نادر جدا في مذكرات السفراء، اذ سمح جيرارد أرود لنفسه بانتقادات حادة إلى حد ما، مع الانتباه للصياغة، لبعض وزرائه المتعاقبين (حول نقاشه معهم في السيارة الرسمية أثناء التنقل): “يحوّل دومينيك دو فيلبان حجرة الركاب بسرعة إلى محادثة شاسعة يتناول فيها الجميع الكلمة؛ لا يقول لوران فابيوس شيئًا ويقرأ بصمت، ويعدّ ميشيل بارنييه ملفاته بجد؛ وكان فيليب دوست بلازي يعلق على مجلة باري-ماتش».

فحص بالأشعة السينية
 لوزارة الخارجية
   دراسة شبه رسمية (كتب مقدمتها وزير الخارجية الحالي جان إيف لو دريان) قام بتحريرها موريس فايس (أستاذ مميّز في تاريخ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية في باريس) وحرّره فريق من المؤرخين ومختصون في العلوم السياسية، “الدبلوماسية الفرنسية”، جاءت لتكمل هذه الشهادة بشكل مفيد (الذاتية بالضرورة) مع فحص بالأشعة السينية مفصل للغاية للأجهزة والاقسام والوظائف المختلفة الموجودة في كاي دورسيه. ذلك يمكننا اعتبار هذا الكتاب نوعًا من الملخص العملي للقراء العاديين لمذكرات جيرارد أرود، الذي لم يتولى فقط ادارة المناصب الخارجية ولكن أيضًا داخل المديريات المركزية المرموقة لـ “وزارة الخارجية: ادارة الشؤون الأوروبية، مركز التحليل والتوقّع، وكذلك إدارة الشؤون الاستراتيجية، المقدّسة.    عبر فصول قوية ودقيقة بشكل خاص، يرسم المؤلفون ملامح، ويعيدون تشكيل تاريخ وضخامة هذه الوزارة الكبرى، التي كانت في السابق الأقوى، على وجه الخصوص مقارنة مع بيرسي اليوم.
   يرسم المؤرخون وعلماء السياسة والدبلوماسيون والمؤلفون والمؤلفات، بلمسات صغيرة، صورة كاملة جدًا للـ “كي دورسيه”، لا سيما من خلال التحليل الوصفي لكل قسم وجهاز يسمح للآلية الدبلوماسية بالدوران يوميًا، سواء من وجهة نظر القاعدة أو من أعلى التسلسل الهرمي السياسي، بما إن المفاوضات وصنع القرار اصبحت أكثر فأكثر من صلاحيات قصر الإليزيه، بينما يلعب الدبلوماسيون دورًا يتنزل أكثر في التمثيل، والاعلام، وتنسيق العمل الخارجي لفرنسا، ولكن مع تقلص متزايد في الزخم.    لا يخفي الكتاب الصعوبات والتحولات التي واجهتها الدبلوماسية الفرنسية خلال الثلاثين إلى الأربعين سنة الماضية.

فقد خضعت لإصلاحات غير مسبوقة ، سواء في هيكلها التنظيمي (دمج وزارة التعاون عام 2000 ، ثم الادارة الخارجية للخزانة عام 2016) أو في حركتها وعملها ، وكذلك في اختيار الموارد البشرية والوظائف (التجديد، على سبيل المثال، عن طريق تعيين زوجين عام 2016 في منصب في كرواتيا ، يتناوب الزوج والزوجة بين منصبي السفير والمستشار) ومع ذلك ، استطاعت هذه الإدارة، التي تضمّ ما يقارب 15 الف شخص، التأقلم  بتقليص مواردها المادية بشكل كبير ( رغم انها وزارة لا تسرف في الانفاق بحساب الميزانية، لكنها لا تعرف كيف تدافع عن نفسها بشكل جيد في بيرسي).
   وهكذا، بعد تحليل معمّق لهيئات صنع القرار، يقترح كتاب “الدبلوماسية الفرنسية”، بانوراما واسعة لخدمات “الإدارة” (كما أسلفنا في ظل النظام القديم)، أي في باريس، ولكن أيضًا في الخارج (بطريقة، مع ذلك، أقل توسّعا للأسف)، وكذلك وسائل العمل الدبلوماسي.  وأخيرًا، يتحدث بطريقة مثيرة وممتعة عن الجوانب المختلفة للسياسة الخارجية (الأمن الخارجي، والتنسيق الأوروبي، والعمل المتعدد الأطراف، والتأثير على السياسات، والتمثيل الاقتصادي، والمساعدة الإنمائية، وما إلى ذلك)، موضحا التغييرات في الاستراتيجية الفرنسية منذ 1980.

الغوص في الحياة
 اليومية للدبلوماسيين
    أخيرًا، كتاب “إثنوغرافيا الـ كي دورسيه”، بقلم  كريستيان ليكيسن - أستاذ العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية في باريس، والمدير السابق لمركز الدراسات والبحوث الدولية- مستعيرا منهجية برونو لاتور في إثنوغرافيته عن مجلس الدولة (مصنع القانون) ، يقترح نهجًا مثيرًا للاهتمام جدا للبحث في الأنثروبولوجيا السياسية (مستوحى أيضًا من جورج بالاندييه ومارك أبوليس) ، يقضي بالتدقيق عن كثب - من خلال ملاحظات الاجتماعات في باريس وفي السفارات طيلة عدة سنوات - الممارسات اليومية للدبلوماسيين من أجل فهم معناها وقيمتها المضافة على الساحة الدولية التي يعتبرها البعض (برتران بادي على وجه الخصوص) أقل تركيزًا على العلاقات التقليدية من دولة إلى أخرى، ولكن مطبوعة أكثر بثقل المجتمع المدني الدولي (المنظمات غير الحكومية ، وسائل الإعلام ، الرأي العام ، إلخ).
   وفي مقدمة نظرية ومنهجية منيرة للغاية، يشرح كريستيان ليكيسن، لماذا يبدو أن تحليل السياسة الخارجية، كسياسة عامة تنفذها ممارسات الدبلوماسيين، يبدو أقل رواجا في الأوساط البحثية في العلوم السياسية. غالبا ما تحال إلى بروتوكولات تعتبر من عصر آخر، على ارتباط بالأحداث الاجتماعية والمعارض التجارية، انتهى المطاف بالدبلوماسية إلى ان ينظر اليها الباحثون على أنها شيء تقليدي، لا يمثل اهتماما خاصا.

   منخرطا كمعارض لهذه الرؤية، سعى كريستيان ليكيسن، الى الهروب من التحليل الوظيفي البحت -حتى وان كان العمل الذي حرره موريس فايس، والذي شارك فيه ليكسن أيضًا، يشكل أساسًا ضروريا لفهم مختلف مهام المهنة الدبلوماسية (أعمال المستشارية والتأثير الاقتصادي والعمل الثقافي الخ) – للسؤال عن “فنون الممارسة” (باستعارة تعبير ميشيل دي سيرتو في كتابه اختراع الحياة اليومية) لدى دبلوماسيين فرنسيين على أساس يومي.
   ان فهم ممارساتهم ومهنتهم يسمح، وفق ليكيسن، بتحليل البعد الإجرائي للسياسة العامة الدبلوماسية ببراعة، وبعبارة أخرى، الصناعة الإدارية للسياسة الخارجية الفرنسية، التي يجري تحليلها عادة بسهولة أكبر ً في بُعدها السياسي البحت (الذي تعبّر عنه ممارسة وزراء الخارجية ورؤساء الجمهورية).

   من خلال فصول مدعّمة ومبنية بذكاء ، فإن” إثنوغرافيا كي دورسيه” يضع حجرًا مهمًا لمعرفة الآلة الدبلوماسية الفرنسية: المسيرة المهنية للأعوان (وأهمية المرور بالدواوين الوزارية وأبرز المناصب الخارجية) ، العلاقة بالسلطة السياسية ( التي تساهم في تنسيب التناوب بين اليسار واليمين لصالح التمييز، أحيانًا ما يكون موضع خلاف،  ولكن دائمًا ما يعمل، بين ، من ناحية ، الديغوليين-الميترانيين، المتعلقين بالاستقلالية تجاه الحليف الأمريكي وبأهمية السياسة العربية والأفريقية لفرنسا ، وخاصة الفرنكوفونية ، ومن ناحية أخرى ، المحافظون الجدد الذين يستلهمون من الرابطة الأطلسية الضرورية، وانعدام الثقة تجاه التصورات التقليدية التي عفا عليها الزمن في عالم معولم ، الحياة داخل السفارة (تتميز بهرمية قوية ووظيفة منعزلة إلى حد ما تقتصر على صياغة برقيات دبلوماسية لا تتم قراءتها أو متابعتها دائمًا) ، دور من “يقول” (ثقل التواصل والعلاقات العامة ، والميل إلى الامتثال الاعمى) ، وأماكن النفوذ والتأثير (التركيز بشكل خاص على الخريطة الذهنية للدبلوماسيين الفرنسيين ، المقولبين بشدة من خلال تكوينهم وسيرتهم المهنية ، ولكن يزداد انفتاحهم على الاستلهام الخارجي).

   موصى بقراءتها بشدة، بالنسبة للمتخصص والمواطن العادي الفضولي لمعرفة أسرار الدبلوماسية، فإن هذه القراءات تتميّز عن الكتب الصحفية السريعة التي تتناول عموما الـ “كي دورسيه” في شكل نوادر (في معظم الأحيان قاسية) تفوح منها رائحة الفضيحة (أحدثها، الوجه الخفيّ للكي دورسيه، تحقيق حول وزارة تنحرف، بقلم فانسن جوبرت عام 2016 والذي حقق بعض النجاح).



 

Daftar Situs Ladangtoto Link Gampang Menang Malam ini Slot Gacor Starlight Princess Slot