كارتلات الإسمنت والنفط في لبنان نموذجاً...هكذا تختلط السياسة بالتجارة
لايزال المجتمع الدولي يجهل الدوافع التي تحرك السياسيين اللبنانيين، ويركز المانحون المحتملون على سوء الإدارة الاقتصادية، والإرادة السياسية، لكنهم لا يلتفتون إلى المصالح التجارية المشبوهة التي تحفظ شعبية زعماء الطوائف.
ويقول الكاتبان جاكوب بوسول وديفيد وود، في مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، إنه عندما عاد سعد الحريري، رجل الأعمال الأكثر إثارة للجدل، إلى منصب رئيس الوزراء في أكتوبر -تشرين الأول بعد عام من الاحتجاجات، التي أرغمت حكومته على الاستقالة، كان ذلك بمثابة إشارة محبطة على العودة إلى العمل مثل المعتاد.
ومثل الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، ورث الحريري إمبراطورية عن والده قطب العقارات دون أن يخشى المزج بين التجارة والسياسة.
وعلى غرار ترامب أيضاً، يتمتع الحريري وزعماء الطوائف الآخرون في لبنان بدعم قواعد تشبه حماسة الترامبية. فهو ليس وحده في هذا الميدان. ومنذ انتهاء الحرب الأهلية، مزج زعماء البلاد بين التجارة والسياسة، مستغلين مواقعهم لشراء ولاء مناصريهم.
وتستنزف الكارتلات التجارية بفضل العلاقة بالسياسة، الإعانات الحكومية، والأصول المربحة للدولة، والكلفة الزائدة للمنتجات والخدمات الأساسية. ويستفيد الموالون من شبكات المحسوبيات الفاسدة، ويربطون مزيداً من الناخبين بزعمائهم.
واليوم، يعاني لبنان أسوأ ركود منذ عقود، ويتعافى من انفجار مدمر، وترغم الضغوط السياسية الجديدة كارتلات لبنان على فعل أي شيء للبقاء، إلا تغيير مواقعها.
ويتزايد إفلاس الجمهور اللبناني والحكومة، ما لا يبقي إلا القليل أمام النخب الفاسدة لتنهبه. وتوافق الكارتلات التجارية على تنازلات قصيرة الأمد لتتجنب إصلاحاً دائماً، أملاً في إعادة تنشيط شبكات المحسوبيأت الراكدة، في المستقبل.
وبعد ثلاثة عقود من الاستغلال، نادراً ما ينتظر المستهلكون اللبنانيون مقابلاً للمال الذي يدفعونه.ولا يُبالي معظمهم بالانقطاع اليومي للتيار الكهربائي، وبنقص المياه، وبأغلى فاتورة هاتف في المنطقة.ويلفت الكاتبان إلى أن الابتزاز المؤسسي يضرب عميقاً في القطاع الخاص، أين تحتكر قلة من الكارتلات كل شيء من زجاجة المياه، إلى مزارع البطاطا. لكن حتى النخب السياسية التجارية الجشعة، لا يمكنها تجاهل الانهيار الاقتصادي، الذي بدد القوة الشرائية للمستهلكين.
في هذه السنة، وللمرة الأولى خلال جيل، بدأ اللبنانيون يدفعون أسعاراً معقولة ثمن الإسمنت الذي يعتبر من التجارات المحببة لدى الكارتلات.
ويسيطر سياسيون وشركاءهم على ثلاث شركات لإنتاج الإسمنت في لبنان، هي سيمنتري ناشيونال إس. أي إل، ولافارج هولسيم ليمتد، وإسمنت سيبلين إس. أي. إل. ومنذ التسعينات، حالت التعريفات الجمركية دون المنافسة الأجنبية، ما أجبر المستهلكين على شراء الإسمنت اللبناني بأسعار مرتفعة.
لكن في أغسطس (آب)، وافق مزودو الإسمنت اللبناني على خفض أسعارهم بمعدل 30 دولاراً للطن الواحد.
وكان ذلك خفضاً ملحوظاً عن المئة دولار للطن، أي ثلاثة أضعاف سعر الطن من الإسمنت في السوق العالمية، وانسجاماً مع المعدلات التي تعمل بها الشركات في الخارج.
وهددت حكومة تصريف الأعمال بنجاح برفع التعريفات المفروضة على استيراد الإسمنت لتضمن موافقة الكارتلات على سقف للأسعار، وفق ما صرح به المدير العام السابق لوزارة المال آلان بيفاني، في نوفمبر -تشرين الثاني الماضي. ويعتبر بيفاني أن هذه كانت إحدى “النجاحات الصغيرة” لحكومة حسان دياب خلال فترة عملها القصيرة.
ولسوء الحظ، لا يشعر الجميع بالتفاؤل بالسقف الجديد لسعر الإسمنت. فالاتفاق يُعمل به على أساس شهري فقط، ويواجه معارضة قوية من الصناعة الرافضة للتنافس.
وأوضح نافذ ذوق، الاقتصادي والاستراتيجي البارز في الأسواق الناشئة في أوكسفورك إيكونوميكس في نوفمبر-تشرين الثاني، أنه “عندما تعرضت الكارتلات للضغط، عمدت إلى خفض أسعارها. لكنها جعلت الأمر صعباً على الحكومة وقاومت قدر المستطاع».
وفي مقابل وضع سقف لسعر الإسمنت، نجحت هذه الصناعة في الحفاظ على نظام التعريفات، ذلك أنها ستواجه إذا أزيل، منافسة فعلية.وبكلام آخر، فإن الكارتلات ربما وافقت على خفض الأسعار في الوقت الحاضر، لكن شروط السوق لا تزال هي ذاتها، عند الكارتل الذي قد يعود لاستغلال الشعب اللبناني مجدداً.
وعلى غرار الإسمنت، تستورد ثلاث شركات ذات ارتباطات طائفية، النفط إلى لبنان. وتاريخياً، سُمح لهذه الشركات بأن تلعب دور الوسيط بين الحكومة والدول المصدرة.وتقول جيسيكا عبيد، وهي مسشارة مستقلة للطاقة، إن احتكار قلة لقطاع النفط يحقق أرباحاً مغرية.
وتضيف “كيف تُبرم العقود؟، ذلك سؤال كبير، لكن من المؤكد أنهم يستفيدون من نسبة عالية” من السوق اللبنانية.
ووسط الضربات السياسية والاقتصادية، يجد قادة الطوائف في لبنان أنفسهم على المحك. لكن طالما بقيت إقطاعاتهم التجارية سليمة، فإنهم لن يستسلموا.