مستوى الدعم لكييف هو أبعد من مهمة محدودة

كيف غيّرت الحرب الأوكرانية استراتيجية أمريكا تجاه روسيا؟

كيف غيّرت الحرب الأوكرانية استراتيجية أمريكا تجاه روسيا؟


أوضح الزميل البارز في برنامج أوراسيا ضمن “معهد أبحاث السياسة الخارجية”، نيكولاي غفوسديف، كيف طرأ تحولان كبيران على استراتيجية واشنطن الكبرى تجاه موسكو بعد حرب أوكرانيا، حيث لم تعد الولايات المتحدة تسعى إلى إعطاء أولوية للتعاون مع روسيا، ولا تتوقع منع تعاون أكبر بين روسيا والصين.
مستوى الدعم العسكري والاقتصادي والمالي لكييف هو أبعد من مهمة محدودة هادفة إلى إضعاف إمكانات روسيا
لقد أصبح دعم أوكرانيا حيوياً كجزء من استراتيجية شاملة مصممة لتقويض القدرات الروسية. هذه التطورات ستشكل وتقيد الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة خلال العقد التالي.

تأرجح طويل المدى
خلال الأعوام الثلاثين الماضية، تأرجحت السياسة الأمريكية تجاه موسكو بين أمل أن تصبح روسيا ما بعد الحقبة السوفيتية شريكاً للولايات المتحدة، ومخاوف من قدرة روسيا على إحباط التفضيلات الأمريكية لأوروبا والشرق الأوسط. جرت جهود “إعادة ضبط” العلاقات الروسية-الأمريكية خلال الولاية الأولى لإدارة أوباما، على خلفية الانتخابات الأوكرانية التي أوصلت فيكتور يانوكوفيتش إلى السلطة في كييف، ومساعيه لخلق توازن بين رغبة أوكرانيا باندماج اقتصادي أعظم مع أوروبا، وإعادة طمأنة روسيا بشأن أجندتها الأمنية. حين وفرت ثورة ميدان 2014 رفضاً شعبياً لنظام يانوكوفيتش، أصبح جهد أوباما لإعادة ضبط العلاقات غير قابل للاستدامة وفق غفوسديف. رداً على دفع متجدد للاندماج مع الغرب من قبل الحكومات الأوكرانية التي أعقبت حكم يانوكوفيتش، لجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى القوة الصريحة للسيطرة على القرم وإثارة الاضطرابات في جنوب شرق أوكرانيا لزعزعة استقرار البلاد وفرض الفدرلة عليها. بدءاً من تلك النقطة، لم يعد بالإمكان الدفاع سياسياً عن الشراكة بين الولايات المتحدة وروسيا.
مع ذلك، وخلال السنوات الأخيرة لإدارة أوباما، وولاية إدارة ترامب والسنة الأولى من إدارة بايدن، كانت السياسة تجاه روسيا عالقة بين أولئك المدافعين عن رد أقوى ضد الكرملين، وأولئك الساعين إلى إيجاد سبل لإدارة التنافس والحد من المواجهة، على قاعدة أن واشنطن كانت بحاجة إلى التركيز أكثر على إيران والصين. مع تكثيف الولايات المتحدة العقوبات على طهران مثلاً، هي قبلت ضمناً بأن الطاقة الروسية ستملأ الثغرات حتى ولو عنى ذلك تعزيزاً لموارد موسكو. وكان لا يزال يُنظر إلى روسيا حينها كشريك ضروري في أي تحالف طويل المدى هدفه إيجاد توازن ضد صعود الصين. لكن غزو روسيا المفتوح لأوكرانيا في فبراير 2022 أنهى الجدل.

كيف بات تفكير واشنطن؟
حتى من دون بيان رسمي عن السياسة الجديدة، الإشارات السياسية في غاية الوضوح: لم تعد الولايات المتحدة تعتقد أنه من الممكن المضي قدماً في أي أجندة شراكة مع روسيا، أقله تحت حكم بوتين، كما أن روسيا المتمتعة بمزيج من إمكانات القوة الناعمة والصلبة والحادة تولد عقبات أمام الولايات المتحدة. بالتالي، تسعى الولايات المتحدة، عبر العقوبات والسياسات التجارية والأدوات المالية والدعم العسكري الصريح لأوكرانيا، إلى تقويض أدوات الحكم الروسية. إذا لم يكن بإمكان روسيا أن تكون، من وجهة نظر واشنطن، شريكاً، فعندها يجب تحجيمها إلى مكانة منافس.
تابع غفوسديف أن تقليص إمكانات روسيا كقوة عظيمة يحتل الأولوية أمام منع أو تثبيط تحقيق وفاق بين موسكو وبكين. في الجوهر، إن الولايات المتحدة مستعدة للقبول بأن الصين قد تكسب دفعاً موقتاً من الحصول على موارد روسية طبيعية بكلفة منخفضة، وبأن بكين يمكن أن تقدم بشكل جزئي شريان حياة لموقع موسكو. الرهان هو على أن تدهور إمكانات روسيا في المدى البعيد يقلص مستوى الدعم الذي يمكن أن تتوقعه بكين من شراكتها مع موسكو. وإضافة إلى محاولة تقليص مستويات روسيا العامة من القوة الوطنية، يبدو أن الولايات المتحدة ملتزمة بإعادة تجديد طويل المدى للدولة الأوكرانية.

أوكرانيا الجديدة...
 أكثر من مجرد دولة
إن مستوى الدعم العسكري والاقتصادي والمالي لكييف هو أبعد من مهمة محدودة هادفة إلى إضعاف إمكانات روسيا ويصب في صالح بناء أوكرانيا كدولة على خط المواجهة في القرن الواحد والعشرين ضد روسيا التي تعتبر الآن معادية بلا هوادة. يتماشى ذلك مع هدف حصول أوكرانيا المعاد تجديدها على مجموعة من القدرات المماثلة لما تملكه كوريا الجنوبية وتايوان أو إسرائيل. بكلمات أخرى، تريد واشنطن أوكرانيا قادرة على استدامة درجة مؤثرة من الإمكانات العسكرية والتكنولوجية وتتمتع بقاعدة اقتصادية لدعم موقعها. حسب غفوسيدف، الفكرة هي أن أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة ستتزايد.

رهان أمريكا
مع إعلان الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي والورقة الدفاعية البيضاء ذات الصلة التي تتصور شبكة من الشراكات لربط حوض آسيا-الهادئ بالمنطقة اليورو-أطلسية، مع تحديد الدفاع عن أوكرانيا كهدف مركزي في هذا الجهد، تتحرك أوكرانيا لتولي دور أكثر مركزية في الشؤون الجيوسياسية كما ستصبح جزءاً من جهود أمريكا وحلفائها لاحتواء التحدي الصيني بشكل مستقل عن التأثير المحتمل على العلاقات الأمريكية مع موسكو. إن الدعم الأمريكي لأوكرانيا والجهد المتزامن لإضعاف إمكانات روسيا يفوق أي منافع محتملة قد تحصل عليها واشنطن من علاقة تعاونية مع موسكو، ومخاطر حدوث وفاق روسي-صيني أوثق هي أقل إلحاحاً من احتواء جهود روسيا لتعديل نظام ما بعد الحرب الباردة بالقوة. تراهن الولايات المتحدة الآن على أن تشكيل تحالف بين شركائها الأوروبيين والآسيويين لإحباط الطموحات الروسية في أوكرانيا سيترجم بتحالف دائم، يمكن أن يقوّض الصين في المستقبل.