الديموقراطيون في أمريكا
كيف نهزم ترامب في نوفمبر... تلك هي المشكلة...!
-- مفهوم الخطة التي تربط بين القضايا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، حقق تقدما سريعا
-- انعطف الحزب أيديولوجيا إلى اليســـار، ومقترحـــات طموحة حتى عند المعتدلين
-- سيلتزم الجناح التقدمي بمرشح الوسط خاصةً إذا كان جو بايدن
-- فوز ترامب رفّع من مستوى معركة بيرني ساندرز وأفكاره
-- مقترحات بايدن أكثر يساريّة مما اقترحه أوباما عام 2008
-- أولوية الديمقراطيين: تعيين مرشح قيمته الوحيدة هي قدرته على هزم ترامب
-- انعطف الحزب أيديولوجيا إلى اليسار، ومقترحات طموحة حتى عند المعتدلين
-- لقد فشل المترشحون الذين طرحواالبرامج الأكثر ابتكارا وانسجاما وحماسة
كيف نهزم دونالد ترامب في نوفمبر؟ مع أي مرشح، وأي برنامج، وأي خط أيديولوجي؟ في كتابها “الديموقراطيون في أمريكا: ساعة الاختيارات في مواجهة ترامب (منشورات فايارد)، الذي صدر الأسبوع الماضي، تقدم الدكتورة في العلوم السياسية سيليا بيلين، المتخصصة في الولايات المتحدة والعلاقات العابرة للأطلسي، وباحث زائر في معهد بروكينغز، في حوار اجراه فريدريك أوتران، نموذجا للقراءة أدق وأعمق من مقولات الانقسام بين تقدمي ومعتدل، التي تعتبرها شديدة التبسيط. * من اجل هذا الكتاب، تابعت المترشحين والناخبين الديمقراطيين طيلة أشهر خلال “الانتخابات التمهيدية غير المرئية”، اي قبل البدء الفعلي للانتخابات التمهيدية... لماذا هذا الاختيار؟ - بدا لي أن الحوار السياسي سيطر عليه شخص دونالد ترامب، وطريقته الجديدة في ممارسة السياسة. وهذا يميل إلى محو كل نقاش موضوعي، وحصر التحليلات في مستوى السطحية والسوقية المرهقة للجميع.
ومع ذلك، فمنذ بداية هذه الفترة من “الانتخابات التمهيدية غير المرئية”، والتي تحدّد فترة الحملة الطويلة التي تسبق أولى المحطات الانتخابية، شهدنا ظهور مناقشات عميقة ومثيرة جدا للاهتمام بين الديمقراطيين، لكنها طُمست بالتغطية الإعلامية المهووسة لدونالد ترامب.
لقد اخترت الاهتمام بهذه المناقشات من زاوية الأفكار، وأيضًا من زاوية عديد الشخصيات التي تبشّر بها.
* أنت تعتبرين أيضًا أن هذه التمهيدية الديمقراطية يمكنها تغذية الأفكار في أماكن أخرى، وخاصة في فرنسا ...
تقدم الولايات المتحدة نوعًا من المختبر لأزمة الديمقراطيات الغربية، برئاسة رئيس ينفذ سياسة قومية وشعبوية. في الولايات المتحدة، تعتبر هذه اللحظة غريبة بعض الشيء بما أنها تتعلق بالترامبية، وهي نسخة خاصة بترامب. لكننا نجد نفس هذه الخلفية القومية والشعبوية في الديمقراطيات الأخرى، من خلال صعود اليمين المتطرف في فرنسا وإيطاليا وألمانيا مع البريكسيت. وهذه الموجة تزحف، ولأول مرة، يمكننا أن نلاحظ مباشرة كيف سيكون رد فعل المعارضين، وفي هذه الحالة الديمقراطيين.
* ملاحظتك الأولى هي أن المعلقين السياسيين ووسائل الإعلام يميلون إلى تبسيط النقاش الذي يعيشه الحزب الديمقراطي، بين “تقدميين” و”معتدلين...”
- يبدو لي أن هذا النقاش ‘تقدمي مقابل معتدل’ لا يعكس جيدًا تنوع الأفكار التقدمية والمبتكرة التي تشقّ اليسار الأمريكي. من الواضح أن شبكة القراءة هذه مغرية لأن هناك مبارزة تظهر بين، من ناحية، بيرني ساندرز التقدمي، ومن الجهة الأخرى جو بايدن المعتدل، أو مايكل بلومبرغ. لكن عندما ننظر إلى مقترحات بايدن، نجد انها فعلا أكثر يساريّة مما اقترحه باراك أوباما عام 2008. هناك انعطاف أيديولوجي للحزب باتجاه اليسار، ونحو مقترحات أكثر طموحًا، حتى عند الذين نصفهم بالمعتدلين.
* اذن، بمعنى ما، فاز بيرني ساندرز والشريحة التقدمية بالمعركة الإيديولوجية؟
- أفضل مثال على ذلك هو رفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولارًا. عام 2016، عرضت هيلاري كلينتون 12 دولارًا فقط، ولكن تحت ضغط ساندرز، كان عليها أن توافق على عدم معارضة زيادة محتملة إلى 15 دولارًا يقرّها الكونغرس.
بعد أربع سنوات، قام بلومبرغ، الذي من الواضح أنه ليس على خط اليسار، بوضع 15 دولارًا في برنامجه. وهذا يدل على أن أفكار بيرني ساندرز تطورت بأقصى سرعة داخل الحزب الديمقراطي.
الصفقة الخضراء الجديدة، مثال آخر يضع الجميع داخلها كل الأفكار التي يريدونها في هذا المجال، لكن مفهوم الخطة الطموحة التي تربط بين القضايا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، حقق تقدما سريعا جدا، مدفوعًا بساندرز والناشطين الشباب من اجل المناخ الذين يدعمونه.
منذ 40 عامًا وهو في السياسة، تحدث ساندرز عن الطبقات العاملة والفقراء، لم يكن مسموعا لمدة طويلة، الا ان فوز ترامب قد رفّع من مستوى معركته وأفكاره. لأنه بسبب الهزيمة، اكتشف الديموقراطيون درجة الابتئاس التي عليها أمريكا البيض، الفقيرة، والمهملة، والتي أصبحت معادية للنظام، ومعادية للنخبة، وبالتالي معادية لكلينتون، وبالتالي اتجهت إلى ترامب.
*من خلال دراسة النقاشات على مدى طويل داخل الديمقراطيين العام الماضي، ما الذي أثارك ولفت انتباهك؟
- ما أدهشني هو أن النقاش مع اقتراب عام 2020 كان يتدور إلى حد كبير حول طريقة فهم ظاهرة ترامب وانتخابه عام 2016. ووفق زاوية التحليل التي نعتمدها لفوزه، ومن خلال تطور المجتمع الأمريكي، فإننا لا نطور نفس الطموحات، ونفس الاستراتيجية لعام 2020.
يقوم التحليل الأول على اعتبار 2016 حادثًا، “انحراف تاريخي”، يقول جو بايدن، الذي يعتقد أن “” جملة من العوامل والظروف أوصلت للسلطة شخصا ما كان يجب أن يُنتخب. لذلك لا يد من هزم ترامب، وهذا هو الطموح الوحيد، لكي تكون قادرًا على استعادة روح أمريكا.
التفسير الرئيسي الآخر لعام 2016، يقول، على العكس، بأن تلك الانتخابات كشفت عن أزمة الرأسمالية الأمريكية، وهي أزمة اجتماعية اقتصادية عميقة قادت الطبقات الوسطى الأدنى والشعبية إلى التمرد ضد نظام لم يعد يعمل لصالحهم... وكان اتساع التفاوت والهوة هو الذي أوصل الشعبوي ترامب إلى السلطة، وهو الوحيد الذي كان في ذلك الوقت يقدم شبه إجابة.
* بمزيد التدقيق في التفاصيل، حدّدت مجموعتين فرعيتين أخريين، قامتا بتحليلهما الخاص لفوز ترامب ...
- هناك أولاً، من أسميهم “الوسط المتطرف”، وهم الذين يعتبرون أن الانقسام يسار /يمين قد هرم، وأن عام 2016 كان اساسا أزمة ديمقراطية بسبب الاستقطاب المفرط. هذا الاتجاه، الذي يجسده بشكل خاص بيت بيتيغيغ، يدعو إلى وسطية جديدة أكثر حداثة، وإلى اتحاد يعاد اكتشافه. رمى بيت بيتيغيغ المنديل يوم الأحد، لكن فكرة الأزمة الديمقراطية ستستمر، ولا شك في أن مترشحين آخرين سيتناولونها.
أخيرًا، يتجسد التفسير الأخير، الأكثر تشاؤما لحالة الولايات المتحدة، في جميع الذين يعتقدون أن ترامب قد تم جلبه إلى السلطة لمصلحة نظام عنصري، يتسم بنقص هيكلي في تمثيلية الأقليات أيّا كانت -عرقية، عنصرية، دينية، جندرية. وحسب رأيهم، جزء كامل من أمريكا محروم من السلطة السياسية ويعاني من هيمنة طبقة عديمة التمثيلية. إنهم يريدون إعادة تشكيل النموذج الأمريكي للمجتمع واستكمال التحول الاجتماعي لأمريكا. ويحمل هذه الرؤية شباب تقدمي وفي غاية الحماس والتعبئة، ويقدمون مقترحات طموحة للغاية، ويجسدون حركة المقاومة ضد دونالد ترامب. وسيكون لهؤلاء النشطاء ثقلهم، سياسيًا، في الحملة.
*إذا كان بشكل مؤكد محملا لكل هذا الثراء، الا يرسم ايضا هذا التنوع في التحليل والأيديولوجيا الانقسامات العميقة لحزب يبدو موحداً فقط برغبته في التغلب على ترامب؟
- تماما. بالنسبة للعديد من الديمقراطيين، الأولوية هي تعيين مرشح تكون قيمته الوحيدة هي قدرته على هزم ترامب، أيا كانت أجندته، وأفضل مثال على ذلك هو مايك بلومبرغ. لم يبدأ المعركة بعد، ولم يثبت أي شيء من حيث قدرته على الفوز، وليس هناك ما يميزه في برنامجه عن المترشحين الآخرين، باستثناء توجهات أكثر ملاءمةً لرجال الاعمال... برنامجه هو الفوز... وهذا الهوس بالفوز على ترامب يهدد بشلّ نقاش الأفكار ...
*... مع انها لم تكن بمثل هذه الوفرة كما هي اليوم
- إن انتخاب ترامب وسياسته القائمة على القطع مع جميع الرموز الأمريكية، وجميع التقاليد الأمريكية، جعلت بطريقة ما المستحيل ممكنا حتى بالنسبة للمعارضة الديمقراطية. لقد أصبحت الأفكار، التي كانت محصورة حتى الآن على شرائح هامشية صغيرة تقدمية، اصبحت مواضيع حقيقية للحوار، مثل تجريم عبور الحدود، أو التعويضات للأمريكيين السود. هناك أيضًا، بالطبع، ظهور “الصفقة الخضراء الجديدة”، وهي خطة استثمارية اجتماعية وبيئية ضخمة، وفكرة “الرعاية الصحية للجميع”، يحملها المرشحان الأكثر تقدمية والتي كان من المستحيل الدفاع عنها قبل أربع سنوات. وتتنزل الفكرة الجديدة حول ضريبة الثروة، التي عمّمتها إليزابيث وارين، في نفس المنطق.
ففي نظر بعض الديمقراطيين، أثبت ترامب أنه بالإمكان اقتراح كل شيء، والنظر في كل شيء امام حالة الطوارئ الاجتماعية والمناخية التي تواجهها الولايات المتحدة. لكن هذه الاستراتيجية لا تخلو من مخاطر، لأن هذه المقترحات، ولئن أصبحت ذات مصداقية بالنسبة لعدد متزايد من الديمقراطيين، فإنها تبقى عصيّة على التخيّل بالنسبة لجزء كبير من الجماهير.
*هي العودة إلى النقاش الأبدي الذي يحرّك الديمقراطيين: هل يجب أن نخوض حملة في الوسط أم على اليسار؟
- هذا هو السؤال الرئيسي: كيف نربح؟ من خلال طمأنة غالبية الأمريكيين بخطاب يُجمّع، وبالتالي دون مجازفة؟ أو عن طريق اقتراح مشروع طموح للغاية، يقوم على استقطاب أشخاص لا يصوتون عادة لشعورهم بأنه لم يعرض عليهم شيئًا أبدًا؟
هذا هو النقاش الأساسي الذي يرجّ الديمقراطيين: هل يجب أن يسعوا الى استعادة الناخبين الذين انتقلوا عام 2016 الى المعسكر الجمهوري، أم أن يلهبوا قواعدهم في محاولة لبناء أغلبية جديدة؟
لقد اختار الجمهوريون منذ فترة طويلة تعبئة قواعدهم. فعل ريغان ذلك، وكذلك فعل جورج دبليو بوش مع الإنجيليين، ونجح ترامب تمامًا في القيام بذلك، من خلال تعبئة القوميين وأنصار الهوية أيضًا. وقد تخلى تماما عن فكرة التموقع في الوسط.
*إن الهدف الأساسي من كتابك، من خلال الخوض في “التمهيدية غير المرئية” هذه، هو التركيز على نقاش الأفكار، وليس على جانب “سباق الخيل” بين المترشحين. الآن وقد بدأت الانتخابات التمهيدية، كيف تنظرين إلى الحملة؟
في الوقت الحالي، يدعم كل بطله، لذا فإن العقول ملتهبة، وكل يعتقد أنه لا يوجد انتصار ممكن باستثناء مرشحه. أميل إلى الاعتقاد بأن الجناح التقدمي سيلتزم بمرشح الوسط بسهولة تامة، خاصةً إذا كان جو بايدن. فلئن كان هذا الأخير هو الأقل إثارة على الإطلاق، فانه يظل ربما الأقدر على إنشاء هذا التحالف الديمقراطي الكبير، لأنه سيكون بالتأكيد قادراً على تقديم ضمانات للجميع. اما إذا فاز بيرني ساندرز، من الواضح أن الامر سيكون أكثر صعوبة، لكن جميع المترشحين، بمن فيهم جو بايدن، التزموا بدعمه. وعندما سئلت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، عن هذه النقطة مؤخرًا، أجابت بنعم دون أدنى تردد.
في نظري، لا يزال هناك ارتياب وشك: ترشّح بلومبرغ. بما أنه لم يخض هذه الانتخابات التمهيدية غير المرئية عام 2019، لم يكن عليه الإجابة بشكل متكرر خلال النقاشات والمناظرات، على عكس المترشحين الآخرين، على مسألة التجمّع وراء الفائز المستقبلي، أيا كان.
إن بلومبرغ هو حالة خاصة، ولا يلعب بنفس القواعد. لقد ولّد دخوله الحملة مستوى غير مسبوق من العدائية. طريقته في مهاجمة ساندرز، والعكس بالعكس، هي فريدة من نوعها. وهذا يثير تساؤلات حول دعم كل منهما للآخر، إذا أصبح أحدهما هو المرشح.
* غير مسبوق، وموضوع ترحيب واشادة في العام الماضي، تقلص تنوع المترشحين الديمقراطيين إلى حد كبير قبل “الثلاثاء الكبير”، كيف تحلّلين ذلك؟
حقيقة أن السباق يدور حول شخصيتين توافقيتين في أسلوبهما، بيرني ساندرز من جانب، وجو بايدن من الأخرى، لعله المفاجأة الرئيسية لهذه المحطات الانتخابية الأولى. لقد فشل المترشحون الذين طرحوا البرامج الأكثر ابتكارا وانسجاما وحماسة، وخاصة بيت بيتيغيغ وإليزابيث وارين. وأعتقد أن هناك سببان لذلك: أولاً، كان هناك الكثير من المترشحين عند الانطلاق، بحيث لم يكن هناك متّسع من الوقت لمعرفة مترشحين آخرين غير الذين سبق التعرّف عليهم، بايدن وساندرز.
السبب الثاني هو دون شك القلق من رؤية إعادة انتخاب ترامب. فبالنسبة للعديد من الناخبين، الذين تمزّقهم اصلا استراتيجية الاختيار (استعادة الناخبين الذين التحقوا بترامب أو تعبئة القواعد)، لا يمكن ان يطرحوا على أنفسهم أيضًا مسألة معرفة ما إذا كان المرشح الذي سيختارونه تحاصره المخاطر لأنه امرأة، ولأنه شاب أو مثلي، أمريكي من أصل أفريقي ... أعتقد أن الخوف العميق من إعادة انتخاب ترامب قد أضر بجميع الترشّحات التي تترجم التنوع، والتي أصبحت عاملا مزعجا اضافيا في اتخاذ القرار. لقد فضلت غالبية الناخبين اللجوء إلى فئة معروفة و”مؤهلة لتُنتخب”، فئة الرجال البيض وكبار السن.
-- انعطف الحزب أيديولوجيا إلى اليســـار، ومقترحـــات طموحة حتى عند المعتدلين
-- سيلتزم الجناح التقدمي بمرشح الوسط خاصةً إذا كان جو بايدن
-- فوز ترامب رفّع من مستوى معركة بيرني ساندرز وأفكاره
-- مقترحات بايدن أكثر يساريّة مما اقترحه أوباما عام 2008
-- أولوية الديمقراطيين: تعيين مرشح قيمته الوحيدة هي قدرته على هزم ترامب
-- انعطف الحزب أيديولوجيا إلى اليسار، ومقترحات طموحة حتى عند المعتدلين
-- لقد فشل المترشحون الذين طرحواالبرامج الأكثر ابتكارا وانسجاما وحماسة
كيف نهزم دونالد ترامب في نوفمبر؟ مع أي مرشح، وأي برنامج، وأي خط أيديولوجي؟ في كتابها “الديموقراطيون في أمريكا: ساعة الاختيارات في مواجهة ترامب (منشورات فايارد)، الذي صدر الأسبوع الماضي، تقدم الدكتورة في العلوم السياسية سيليا بيلين، المتخصصة في الولايات المتحدة والعلاقات العابرة للأطلسي، وباحث زائر في معهد بروكينغز، في حوار اجراه فريدريك أوتران، نموذجا للقراءة أدق وأعمق من مقولات الانقسام بين تقدمي ومعتدل، التي تعتبرها شديدة التبسيط. * من اجل هذا الكتاب، تابعت المترشحين والناخبين الديمقراطيين طيلة أشهر خلال “الانتخابات التمهيدية غير المرئية”، اي قبل البدء الفعلي للانتخابات التمهيدية... لماذا هذا الاختيار؟ - بدا لي أن الحوار السياسي سيطر عليه شخص دونالد ترامب، وطريقته الجديدة في ممارسة السياسة. وهذا يميل إلى محو كل نقاش موضوعي، وحصر التحليلات في مستوى السطحية والسوقية المرهقة للجميع.
ومع ذلك، فمنذ بداية هذه الفترة من “الانتخابات التمهيدية غير المرئية”، والتي تحدّد فترة الحملة الطويلة التي تسبق أولى المحطات الانتخابية، شهدنا ظهور مناقشات عميقة ومثيرة جدا للاهتمام بين الديمقراطيين، لكنها طُمست بالتغطية الإعلامية المهووسة لدونالد ترامب.
لقد اخترت الاهتمام بهذه المناقشات من زاوية الأفكار، وأيضًا من زاوية عديد الشخصيات التي تبشّر بها.
* أنت تعتبرين أيضًا أن هذه التمهيدية الديمقراطية يمكنها تغذية الأفكار في أماكن أخرى، وخاصة في فرنسا ...
تقدم الولايات المتحدة نوعًا من المختبر لأزمة الديمقراطيات الغربية، برئاسة رئيس ينفذ سياسة قومية وشعبوية. في الولايات المتحدة، تعتبر هذه اللحظة غريبة بعض الشيء بما أنها تتعلق بالترامبية، وهي نسخة خاصة بترامب. لكننا نجد نفس هذه الخلفية القومية والشعبوية في الديمقراطيات الأخرى، من خلال صعود اليمين المتطرف في فرنسا وإيطاليا وألمانيا مع البريكسيت. وهذه الموجة تزحف، ولأول مرة، يمكننا أن نلاحظ مباشرة كيف سيكون رد فعل المعارضين، وفي هذه الحالة الديمقراطيين.
* ملاحظتك الأولى هي أن المعلقين السياسيين ووسائل الإعلام يميلون إلى تبسيط النقاش الذي يعيشه الحزب الديمقراطي، بين “تقدميين” و”معتدلين...”
- يبدو لي أن هذا النقاش ‘تقدمي مقابل معتدل’ لا يعكس جيدًا تنوع الأفكار التقدمية والمبتكرة التي تشقّ اليسار الأمريكي. من الواضح أن شبكة القراءة هذه مغرية لأن هناك مبارزة تظهر بين، من ناحية، بيرني ساندرز التقدمي، ومن الجهة الأخرى جو بايدن المعتدل، أو مايكل بلومبرغ. لكن عندما ننظر إلى مقترحات بايدن، نجد انها فعلا أكثر يساريّة مما اقترحه باراك أوباما عام 2008. هناك انعطاف أيديولوجي للحزب باتجاه اليسار، ونحو مقترحات أكثر طموحًا، حتى عند الذين نصفهم بالمعتدلين.
* اذن، بمعنى ما، فاز بيرني ساندرز والشريحة التقدمية بالمعركة الإيديولوجية؟
- أفضل مثال على ذلك هو رفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولارًا. عام 2016، عرضت هيلاري كلينتون 12 دولارًا فقط، ولكن تحت ضغط ساندرز، كان عليها أن توافق على عدم معارضة زيادة محتملة إلى 15 دولارًا يقرّها الكونغرس.
بعد أربع سنوات، قام بلومبرغ، الذي من الواضح أنه ليس على خط اليسار، بوضع 15 دولارًا في برنامجه. وهذا يدل على أن أفكار بيرني ساندرز تطورت بأقصى سرعة داخل الحزب الديمقراطي.
الصفقة الخضراء الجديدة، مثال آخر يضع الجميع داخلها كل الأفكار التي يريدونها في هذا المجال، لكن مفهوم الخطة الطموحة التي تربط بين القضايا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، حقق تقدما سريعا جدا، مدفوعًا بساندرز والناشطين الشباب من اجل المناخ الذين يدعمونه.
منذ 40 عامًا وهو في السياسة، تحدث ساندرز عن الطبقات العاملة والفقراء، لم يكن مسموعا لمدة طويلة، الا ان فوز ترامب قد رفّع من مستوى معركته وأفكاره. لأنه بسبب الهزيمة، اكتشف الديموقراطيون درجة الابتئاس التي عليها أمريكا البيض، الفقيرة، والمهملة، والتي أصبحت معادية للنظام، ومعادية للنخبة، وبالتالي معادية لكلينتون، وبالتالي اتجهت إلى ترامب.
*من خلال دراسة النقاشات على مدى طويل داخل الديمقراطيين العام الماضي، ما الذي أثارك ولفت انتباهك؟
- ما أدهشني هو أن النقاش مع اقتراب عام 2020 كان يتدور إلى حد كبير حول طريقة فهم ظاهرة ترامب وانتخابه عام 2016. ووفق زاوية التحليل التي نعتمدها لفوزه، ومن خلال تطور المجتمع الأمريكي، فإننا لا نطور نفس الطموحات، ونفس الاستراتيجية لعام 2020.
يقوم التحليل الأول على اعتبار 2016 حادثًا، “انحراف تاريخي”، يقول جو بايدن، الذي يعتقد أن “” جملة من العوامل والظروف أوصلت للسلطة شخصا ما كان يجب أن يُنتخب. لذلك لا يد من هزم ترامب، وهذا هو الطموح الوحيد، لكي تكون قادرًا على استعادة روح أمريكا.
التفسير الرئيسي الآخر لعام 2016، يقول، على العكس، بأن تلك الانتخابات كشفت عن أزمة الرأسمالية الأمريكية، وهي أزمة اجتماعية اقتصادية عميقة قادت الطبقات الوسطى الأدنى والشعبية إلى التمرد ضد نظام لم يعد يعمل لصالحهم... وكان اتساع التفاوت والهوة هو الذي أوصل الشعبوي ترامب إلى السلطة، وهو الوحيد الذي كان في ذلك الوقت يقدم شبه إجابة.
* بمزيد التدقيق في التفاصيل، حدّدت مجموعتين فرعيتين أخريين، قامتا بتحليلهما الخاص لفوز ترامب ...
- هناك أولاً، من أسميهم “الوسط المتطرف”، وهم الذين يعتبرون أن الانقسام يسار /يمين قد هرم، وأن عام 2016 كان اساسا أزمة ديمقراطية بسبب الاستقطاب المفرط. هذا الاتجاه، الذي يجسده بشكل خاص بيت بيتيغيغ، يدعو إلى وسطية جديدة أكثر حداثة، وإلى اتحاد يعاد اكتشافه. رمى بيت بيتيغيغ المنديل يوم الأحد، لكن فكرة الأزمة الديمقراطية ستستمر، ولا شك في أن مترشحين آخرين سيتناولونها.
أخيرًا، يتجسد التفسير الأخير، الأكثر تشاؤما لحالة الولايات المتحدة، في جميع الذين يعتقدون أن ترامب قد تم جلبه إلى السلطة لمصلحة نظام عنصري، يتسم بنقص هيكلي في تمثيلية الأقليات أيّا كانت -عرقية، عنصرية، دينية، جندرية. وحسب رأيهم، جزء كامل من أمريكا محروم من السلطة السياسية ويعاني من هيمنة طبقة عديمة التمثيلية. إنهم يريدون إعادة تشكيل النموذج الأمريكي للمجتمع واستكمال التحول الاجتماعي لأمريكا. ويحمل هذه الرؤية شباب تقدمي وفي غاية الحماس والتعبئة، ويقدمون مقترحات طموحة للغاية، ويجسدون حركة المقاومة ضد دونالد ترامب. وسيكون لهؤلاء النشطاء ثقلهم، سياسيًا، في الحملة.
*إذا كان بشكل مؤكد محملا لكل هذا الثراء، الا يرسم ايضا هذا التنوع في التحليل والأيديولوجيا الانقسامات العميقة لحزب يبدو موحداً فقط برغبته في التغلب على ترامب؟
- تماما. بالنسبة للعديد من الديمقراطيين، الأولوية هي تعيين مرشح تكون قيمته الوحيدة هي قدرته على هزم ترامب، أيا كانت أجندته، وأفضل مثال على ذلك هو مايك بلومبرغ. لم يبدأ المعركة بعد، ولم يثبت أي شيء من حيث قدرته على الفوز، وليس هناك ما يميزه في برنامجه عن المترشحين الآخرين، باستثناء توجهات أكثر ملاءمةً لرجال الاعمال... برنامجه هو الفوز... وهذا الهوس بالفوز على ترامب يهدد بشلّ نقاش الأفكار ...
*... مع انها لم تكن بمثل هذه الوفرة كما هي اليوم
- إن انتخاب ترامب وسياسته القائمة على القطع مع جميع الرموز الأمريكية، وجميع التقاليد الأمريكية، جعلت بطريقة ما المستحيل ممكنا حتى بالنسبة للمعارضة الديمقراطية. لقد أصبحت الأفكار، التي كانت محصورة حتى الآن على شرائح هامشية صغيرة تقدمية، اصبحت مواضيع حقيقية للحوار، مثل تجريم عبور الحدود، أو التعويضات للأمريكيين السود. هناك أيضًا، بالطبع، ظهور “الصفقة الخضراء الجديدة”، وهي خطة استثمارية اجتماعية وبيئية ضخمة، وفكرة “الرعاية الصحية للجميع”، يحملها المرشحان الأكثر تقدمية والتي كان من المستحيل الدفاع عنها قبل أربع سنوات. وتتنزل الفكرة الجديدة حول ضريبة الثروة، التي عمّمتها إليزابيث وارين، في نفس المنطق.
ففي نظر بعض الديمقراطيين، أثبت ترامب أنه بالإمكان اقتراح كل شيء، والنظر في كل شيء امام حالة الطوارئ الاجتماعية والمناخية التي تواجهها الولايات المتحدة. لكن هذه الاستراتيجية لا تخلو من مخاطر، لأن هذه المقترحات، ولئن أصبحت ذات مصداقية بالنسبة لعدد متزايد من الديمقراطيين، فإنها تبقى عصيّة على التخيّل بالنسبة لجزء كبير من الجماهير.
*هي العودة إلى النقاش الأبدي الذي يحرّك الديمقراطيين: هل يجب أن نخوض حملة في الوسط أم على اليسار؟
- هذا هو السؤال الرئيسي: كيف نربح؟ من خلال طمأنة غالبية الأمريكيين بخطاب يُجمّع، وبالتالي دون مجازفة؟ أو عن طريق اقتراح مشروع طموح للغاية، يقوم على استقطاب أشخاص لا يصوتون عادة لشعورهم بأنه لم يعرض عليهم شيئًا أبدًا؟
هذا هو النقاش الأساسي الذي يرجّ الديمقراطيين: هل يجب أن يسعوا الى استعادة الناخبين الذين انتقلوا عام 2016 الى المعسكر الجمهوري، أم أن يلهبوا قواعدهم في محاولة لبناء أغلبية جديدة؟
لقد اختار الجمهوريون منذ فترة طويلة تعبئة قواعدهم. فعل ريغان ذلك، وكذلك فعل جورج دبليو بوش مع الإنجيليين، ونجح ترامب تمامًا في القيام بذلك، من خلال تعبئة القوميين وأنصار الهوية أيضًا. وقد تخلى تماما عن فكرة التموقع في الوسط.
*إن الهدف الأساسي من كتابك، من خلال الخوض في “التمهيدية غير المرئية” هذه، هو التركيز على نقاش الأفكار، وليس على جانب “سباق الخيل” بين المترشحين. الآن وقد بدأت الانتخابات التمهيدية، كيف تنظرين إلى الحملة؟
في الوقت الحالي، يدعم كل بطله، لذا فإن العقول ملتهبة، وكل يعتقد أنه لا يوجد انتصار ممكن باستثناء مرشحه. أميل إلى الاعتقاد بأن الجناح التقدمي سيلتزم بمرشح الوسط بسهولة تامة، خاصةً إذا كان جو بايدن. فلئن كان هذا الأخير هو الأقل إثارة على الإطلاق، فانه يظل ربما الأقدر على إنشاء هذا التحالف الديمقراطي الكبير، لأنه سيكون بالتأكيد قادراً على تقديم ضمانات للجميع. اما إذا فاز بيرني ساندرز، من الواضح أن الامر سيكون أكثر صعوبة، لكن جميع المترشحين، بمن فيهم جو بايدن، التزموا بدعمه. وعندما سئلت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، عن هذه النقطة مؤخرًا، أجابت بنعم دون أدنى تردد.
في نظري، لا يزال هناك ارتياب وشك: ترشّح بلومبرغ. بما أنه لم يخض هذه الانتخابات التمهيدية غير المرئية عام 2019، لم يكن عليه الإجابة بشكل متكرر خلال النقاشات والمناظرات، على عكس المترشحين الآخرين، على مسألة التجمّع وراء الفائز المستقبلي، أيا كان.
إن بلومبرغ هو حالة خاصة، ولا يلعب بنفس القواعد. لقد ولّد دخوله الحملة مستوى غير مسبوق من العدائية. طريقته في مهاجمة ساندرز، والعكس بالعكس، هي فريدة من نوعها. وهذا يثير تساؤلات حول دعم كل منهما للآخر، إذا أصبح أحدهما هو المرشح.
* غير مسبوق، وموضوع ترحيب واشادة في العام الماضي، تقلص تنوع المترشحين الديمقراطيين إلى حد كبير قبل “الثلاثاء الكبير”، كيف تحلّلين ذلك؟
حقيقة أن السباق يدور حول شخصيتين توافقيتين في أسلوبهما، بيرني ساندرز من جانب، وجو بايدن من الأخرى، لعله المفاجأة الرئيسية لهذه المحطات الانتخابية الأولى. لقد فشل المترشحون الذين طرحوا البرامج الأكثر ابتكارا وانسجاما وحماسة، وخاصة بيت بيتيغيغ وإليزابيث وارين. وأعتقد أن هناك سببان لذلك: أولاً، كان هناك الكثير من المترشحين عند الانطلاق، بحيث لم يكن هناك متّسع من الوقت لمعرفة مترشحين آخرين غير الذين سبق التعرّف عليهم، بايدن وساندرز.
السبب الثاني هو دون شك القلق من رؤية إعادة انتخاب ترامب. فبالنسبة للعديد من الناخبين، الذين تمزّقهم اصلا استراتيجية الاختيار (استعادة الناخبين الذين التحقوا بترامب أو تعبئة القواعد)، لا يمكن ان يطرحوا على أنفسهم أيضًا مسألة معرفة ما إذا كان المرشح الذي سيختارونه تحاصره المخاطر لأنه امرأة، ولأنه شاب أو مثلي، أمريكي من أصل أفريقي ... أعتقد أن الخوف العميق من إعادة انتخاب ترامب قد أضر بجميع الترشّحات التي تترجم التنوع، والتي أصبحت عاملا مزعجا اضافيا في اتخاذ القرار. لقد فضلت غالبية الناخبين اللجوء إلى فئة معروفة و”مؤهلة لتُنتخب”، فئة الرجال البيض وكبار السن.