بعد أن كان يُلقب «بأوباما الفرنسي» و الطفل المُعجزة :

ماكرون يَضْعُفُ على الساحة الدولية و يُعتبر أحد مُهندسي التراجع الفرنسي


منذ اجتماع قاعة السفراء في قصر الإليزيه، لم يُبدِ إيمانويل ماكرون أي قلق. قبل أربعة أيام من إعلان سقوط حكومة بايرو، وأمام اثني عشر شريكًا أوروبيًا من «ائتلاف الراغبين»، الذين قدموا إلى باريس في الرابع من سبتمبر للدفاع عن قضية أوكرانيا التي تتعرض لهجوم روسي، بدا الرئيس الفرنسي «القائد الأكثر هدوءًا» بين الحضور، وفقًا لنظيره الفنلندي ألكسندر ستاب. وقال الرئيس فولوديمير زيلينسكي لفريقه: «أثق بإيمانويل، سيدير الوضع»، في محاولة لطمأنة القلقين من الضعف السياسي لهذا الحليف الرئيسي. 
يوم الاثنين، «أقر» الرئيس الفرنسي بتصويت البرلمانيين الذين رفضوا، بأغلبية كبيرة، منح ثقتهم لرئيس ماتينيون. هذه الانتخابات، التي تبدو وكأنها عقوبة، تُطيل أمد عدم الاستقرار السياسي الفرنسي الذي بدأ قبل خمسة عشر شهرًا بقرار رئاسي بحل الجمعية الوطنية، في حين أن السياق الجيوسياسي، المتسم بالحروب واضطرابات النظام العالمي وصعود الشعبوية، يتطلب من أوروبا التحرك على الساحة الدولية. قبل تقديم استقالته، لخّص فرانسوا بايرو الخطر في بيانه السياسي العام. 

وأعلن: «اليوم، مصير فرنسا، قوة متوسطة الحجم من حيث عدد السكان، ولكن ذات رسالة عالمية «...»، مُهدد بسبب عجزنا اليومي. بالنسبة لأمة، مسألة النفوذ أمرٌ حيوي»، مُعددًا قيمًا، مثل حقوق الإنسان وحرية الفكر، «المهددة في كل مكان». وتابع: «كيف يمكن لفرنسا الدفاع عن هذه المجموعة من القيم، وإعطائها معنى مع الاتحاد الأوروبي ومن خلاله، إذا ثبت ضعفها، وإذا فقدت مصداقية سيادتها؟» .

رجل أوروبا المريض 
تنتظر فرنسا الآن حكومةً قادرةً على إقرار ميزانية، فتبدو في نظر جيرانها بمثابة «رجل أوروبا المريض». يُشكّل دينها الهائل، الذي يتجاوز 114% من ناتجها المحلي الإجمالي، مصدر قلقٍ للأسواق وشركائها على حدٍ سواء. تتبنى ألمانيا نظرةً قاسيةً للغاية تجاه الوضع السياسي الفرنسي. وقد أبدى المستشار فريدريش ميرز وإيمانويل ماكرون تفهمهما الواضح منذ انتخابات 23 فبراير في ألمانيا. لكن في برلين، يُسلّط المُعلّقون الضوء على مخاطر انتقال العدوى إلى أسواق الدين، مُجدّدين بذلك قلقَ بلدٍ يعتبر نفسه ركيزةً للاستقرار في منطقة اليورو. «هل ستُشعل فرنسا أزمةً في اليورو؟» عنوانٌ رئيسيٌّ لصحيفة تاجشبيغل اليومية يوم الاثنين. وتساءلت صحيفة زود دويتشه تسايتونغ في اليوم نفسه عن كيفية التعامل مع الحرب في أوكرانيا، والصراع التجاري مع الولايات المتحدة، وإعادة تسليح أوروبا، أو إصلاح الهجرة مع «حملة انتخابية دائمة» .
يُجادل إيمانويل ماكرون منذ أشهرٍ عديدة.لإعادة تسليح أوروبا. ولكن، في الوقت الذي يبدو فيه أن القارة العجوز قد أدركت ضرورة قيادة مجهود حربي للتحرر من حماية الولايات المتحدة - التي لم يعد دونالد ترامب يرغب في توليها - والدفاع عن نفسها ضد روسيا المهددة، قد لا تملك باريس الوسائل اللازمة لتحقيق طموحاتها. «نتيجة هذه السياسة غير المناسبة: ننظر بحسد إلى ألمانيا التي تعلن عن استثمارات بمئات المليارات من اليورو في جيوشها وبنيتها التحتية، وإلى اتحاد أوروبي يتطور «...» دون أن نتمكن من المشاركة فيه بفعالية أيضًا»، هذا ما أعرب عنه نحو خمسين اقتصاديًا وممثلًا عن عالم الاقتصاد، من بينهم فيليب أغيون وباتريك أرتوس وتوماس فيليبون، في مقال رأي نُشر في صحيفة «القارة الكبرى» بتاريخ 29 أغسطس.  
 لقد فقد إيمانويل ماكرون السيطرة على مجريات الأمور، وضعفه السياسي مؤكد، والدين لا يزال قائمًا. هذا يؤثر على قدرته على إسماع صوته، كما يلاحظ فرانسوا هايسبورغ، المستشار الخاص لمؤسسة الأبحاث الاستراتيجية. بعد أن كان نجمًا على الساحة الدولية، يُلقَّب عبر المحيط الأطلسي بـ»أوباما الفرنسي» و»الطفل المعجزة» في ألمانيا، يُوصف إيمانويل ماكرون الآن بأنه أحد مهندسي تراجع فرنسا، الأمر الذي يُقلق البعض ويُثير استياءً غير سار لدى آخرين. وقد لخَّصت مجلة دير شبيغل يوم الجمعة الوضع قائلةً: «لقد دمَّر الإصلاحي نفسه بنفسه»، ساخرةً من «الفجوة الشاذة بين الأقوال والأفعال: حتى الآن، لم تُقدِّم باريس لأوكرانيا سوى 6 مليارات يورو كمساعدات عسكرية، أي أقل من دول مثل الدنمارك وهولندا والسويد، التي لن تدَّعي أبدًا لعب دور على الساحة الدولية. لم تعد فرنسا قوة عظمى إلا في خطابات رئيسها».
قبل أسبوعين من انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، المقرر عقدها في 22 سبتمبر-أيلول في نيويورك، حيث من المتوقع أن يعترف الرئيس الفرنسي بدولة فلسطين، أملاً في إحياء حل الدولتين، بينما تقصف إسرائيل قطاع غزة بلا هوادة، يسعى المسؤولون الإسرائيليون المنتقدون لإيمانويل ماكرون إلى تشويه سمعة هذه المبادرة التي يقودها «رئيس لم يعد ذا أهمية». علاقة مختلة. خلال زيارة فولوديمير زيلينسكي وعدد من الممثلين الأوروبيين إلى واشنطن في 18 أغسطس-آب، أكد دونالد ترامب للرئيس الفرنسي صداقته. قال الرئيس الأمريكي بحماس من البيت الأبيض: «ماكرون، أحببته منذ اليوم الأول، وأحبه أكثر اليوم». لكن رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، الممثلة عن اليمين المتطرف، كانت، في نظر قطب العقارات، «مصدر إلهام». وتوقع دونالد ترامب قائلاً: «ستبقى في السلطة لفترة طويلة جدًا». في روما، يُنظر إلى الأزمة السياسية الفرنسية بنوع من البهجة. 
بعد أن نجحت الحكومة الإيطالية، التي يهيمن عليها اليمين المتطرف «فراتيلي دي إيطاليا»، في خفض العجز العام من 7.2% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2023 إلى 3.4% عام 2024، جعلت مطلب «الجدية» في الميزانية أحد ركائز سردية تكاد تقترب أحيانًا من الانتقام. ويصاحب هذا الموضوع تركيز دقيق على الاستقرار السياسي الإيطالي: فالسلطة التنفيذية الحالية، التي على وشك دخول عامها الرابع في السلطة، من بين من تولوا أطول فترة قيادة للبلاد منذ إعلان الجمهورية الإيطالية عام 1946 .هذا التفسير، الذي يرى أن إيطاليا الأقوى قد تبادلت الأدوار مع فرنسا التي تسودها الفوضى، هو جزء من معارضة أيديولوجية مصحوبة بعلاقة مختلة بين جورجيا ميلوني وإيمانويل ماكرون. الرئيس الفرنسي، الذي يُجسّد شكلاً من أشكال الغطرسة والمؤسسة المؤيدة لأوروبا، والذي استنكره أنصار الزعيم اليميني المتطرف، يُخالف نهج ميلوني، التي قدّمت نفسها، عند وصولها إلى السلطة، على أنها «غريبة». «آمل ألا تُثير هذه الأزمة الفرنسية في بلدنا ابتسامات رضا لدى بعض الدوائر الحكومية». حذّر رئيس الوزراء السابق باولو جينتيلوني «من الحزب الديمقراطي، يسار الوسط» في مقال له بصحيفة «لا ريبوبليكا» يوم الاثنين، قائلاً: «سيكون رد فعل طفوليًا ومدمرًا للذات»، مُذكّرًا بأنه في «إيطاليا ليس لدينا ما نستفيده من إضعاف بلد نرتبط به بألف مصلحة اقتصادية وثقافية.