ثقافة الإلغاء في روما القديمة:

هذا ما تقوله «لعنة الذاكرة»، عما بعد ترامب...!

هذا ما تقوله «لعنة الذاكرة»، عما بعد ترامب...!

-- مثال روما بالنسبة للولايات المتحدة يحوم مثل تحذير، ومحو ترامب وجعله أسطورة
-- كان الشعب الروماني يعشق العقوبة القصوى للحكام الفاشلين: الإزالة
-- في حماسهم للقضاء على بعض الشخصيات العامة، حافظ الرومان عن غير قصد على أساطير العديد ممن قاموا بلعنهم
-- درس تعلمته ألمانيا بشكل مؤلم بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تتعلمه الولايات المتحدة أبدًا في أعقاب الحرب الأهلية
-- يبدو رحيل دونالد  ترامب إلى مارا لاغو وكأنه نوع  من المنفى


في السنوات الأخيرة، رسم عدد رهيب جدا من التحليلات والمقالات والاستهزاء على تويتر، مقارنة بين تراجع الولايات المتحدة و “سقوط روما».
    وغالبًا ما يتم تقديم هذه المقارنة في شكل مزحة، وهي مع ذلك ليست بدون أساس: إمبراطورية شاسعة جدًا بحيث يصبح من المستحيل حكمها بفعالية، خاضعة لثقل كبريائها وأساطيرها الخاصة؛ جمهورية تنازلت عن السيطرة على مستقبلها لسلطة تنفيذية منفردة؛ حكومة بدأت بغض الطرف عن الأوبئة والمجاعات ولم تتمكن في النهاية من وضع حد لها.

مثال روما يحوم مثل تحذير. وبغض النظر عن هذا الادعاء، فمع احتلال محاكمة عزل الرئيس السابق دونالد ترامب عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم مؤخرًا، يبدو أن هناك حقًا درسًا يمكن تعلمه من تاريخ روما.   كانت الإمبراطورية الرومانية مهووسة في بعض الأحيان بفكرة محو الحكام غير المحبوبين أو الفاسدين من التاريخ العام بمجرد أن يصبحوا خارج السلطة. الا ان محاولات الرومان القيام بذلك تُظهر أن الرغبة حقًا في التخلص من إرث القادة السيئين، فمن الأفضل محاسبتهم بدلاً من مجرد محاولة محوهم من الذاكرة الشعبية.
   ومن شأن إجراء قانوني منهجي وشفاف، أن يحقق كل ما لا يمكن أن ينجزه مجرد حذف، ويجب أن نكون قادرين على عرض وتوضيح ما فعلوه إذا كنا نريد نسيانهم.

الرومان خبراء
 في إلغاء الشخصيات
   في روما القديمة، بعد وفاة الحاكم أو غيره من الشخصيات العامة، المروعة بشكل خاص، يمكن للسلطات تنفيذ مجموعة من التدابير تسمى -حرفيًا لعنة الذاكرة -والتي تتكون أساسًا من محو الشخص المعني من الأرشيف التاريخي.
  المصطلح في حد ذاته ليس قديمًا، لكن الأكاديميين يستخدمونه للإشارة إلى هذه الممارسة المنهجية لـ… لنقل، الإلغاء.
   من تدمير التماثيل أو قطع رؤوسها أو “إعادة نحتها”، إلى إزالة إزميل الأسماء على النقوش أو العملات المعدنية، ومن خلال تنظيم نيران عامة احتفالية لتدمير الوثائق والصور، بدا الشعب الروماني وكأنه يعشق، وفقًا للعديد من الروايات، ممارسة العقوبة النهائية للقادة الذين فشلوا: الإزالة.

   في الحالة المحددة لـ “الإمبراطور السيئ” -ويبدو أن هناك عددًا كبيرًا منهم -يمكن أن تتخذ تدابير اللعنة أشكالًا عديدة. بعد وفاة، سواء كانت طبيعية أم لا، يحرم مجلس الشيوخ الروماني الحكام الذين انتهكوا بشكل خطير المعايير القانونية والاجتماعية من المراسم الدينية العامة -الوضع الإلهي. ويعني اتخاذ مثل هذا القرار، أنه لا يمكن بناء أي نصب تذكاري على شرفهم (آسف، لا توجد مكتبة إمبراطورية لك، كومود)، علاوة على ذلك، سيتم تفكيك أي مبنى تم تشييده لهذا الغرض خلال فترة حكمهم أو استخدامه لأغراض أخرى.

  وبالمثل، يتم حجب العلامات الإمبراطورية لحكمهم أو دفنها أو تدميرها أو تغييرها. انتبهوا بشكل خاص إلى التماثيل النصفية الرومانية في المرة القادمة التي تزورون فيها متحفًا: إذا بدت لكم نسب الوجه “غريبة” بعض الشيء، فقد تتعاملون مع تمثيل مكرر لكاليغولا باسم أوغست.
  بالإضافة إلى إزالة الآثار الجسدية للشخص “الملعون”، غالبًا ما يجد أفراد الأسرة والأصدقاء والعبيد المخلصون أنفسهم مُعدمين أو منفيين أو مدفوعين للانتحار أو، في الحالات الأقل فظاعة، مجبرين على تغيير لقبهم العائلي.
   حتى هؤلاء الأشخاص من الدرجة الثانية، لم يكونوا محصنين ضد نوع من اللعنة بحكم الواقع. ومن الأمثلة التي لا تُنسى بشكل خاص تمثال جوليا ماميا، والدة الإمبراطور سيفيروس ألكسندر (222-235)، التي غُرز وجهها بعد نهاية عهد ابنها، لإظهار تغيير في السياسة على الأرجح. كان الغرض من لعن الأصدقاء والعائلة، هو القضاء على جميع العلاقات الاجتماعية للمتوفى.

محو ترامب وجعله أسطورة
   ربما سبق ان قمتم بأنفسكم بعملية الربط بين لعنة الرومان واهتماماتنا الحالية. في روما القديمة، غالبًا ما أدت لعنة الذاكرة إلى إلغاء المراسيم الإمبراطورية غير الشعبية، وهو ما انعكس في العدد شبه القياسي من المراسيم التي وقعها الرئيس الأمريكي المنتخب حديثًا جو بايدن، والتي كان معظمها يهدف إلى عكس سياسات دونالد ترامب.

   لنتحدث أيضًا عن التعليق الدائم لحسابات ترامب على تويتر والشبكات الاجتماعية الأخرى، وهو محو يستمر في البيئة المبنية لمدننا، حيث سعى العديد من القادة المحليين إلى إزالة اسم ترامب من بعض المباني في نيويورك وفي مدن أخرى. في الواقع، قبل وقت طويل من إلغاء نيويورك لعقودها، بدأت منظمة ترامب فعلا في إزالة اسم ترامب بهدوء من بعض الممتلكات، وحتى من زي الموظفين، كما لو أن الإداريين فهموا أن الارتباط باسمه لم يعد جيدًا للأعمال.    يبدو رحيل ترامب إلى مارا لاغو وكأنه نوع من المنفى -كانت جزيرة كابري مكانًا مميزا للإبعاد والنفي للرومان -وبحكم الواقع، مع جيرانه الذين يأملون أن يجد ملاذًا في مكان آخر، يبدو مصطلح “المنفى” ملائما تمامًا.  

  ومع ذلك، في حماسهم للقضاء على بعض الشخصيات العامة، حافظ الرومان عن غير قصد على أساطير العديد من الأشخاص الذين قاموا بلعنهم. في بعض الأحيان، شجع الغاء ذكرى زعماء غير أكفاء أو محتقرين حتى المتملقين والمقلدين. وأصبحت الشخصيات الملغاة رموزا لشهداء.

شهود على الواقع
   بالإضافة إلى ذلك، من وجهة نظر عملية، كانت للصور والمنحوتات المحجوبة عن الأنظار العامة عادة غريبة تتمثل في النجاة من مصير العصور القديمة. يؤكد إريك فارنر في كتابه “التشويه والتحول -لعنة الذاكرة والبورتريه الإمبراطوري الروماني”، أن عددًا من تماثيل كاليغولا التي تم تخزينها “في أماكن آمنة”، “محفوظة جيدًا بشكل مدهش».
   وبالمثل، عندما تم مجرد دفن التماثيل بدلاً من تدميرها أو حرقها، غالبًا ما تم اكتشافها (أعيد اكتشافها) في الحفريات بعد قرون، واعتبرت قطعا نادرة وأكثر قيمة.

   هذا بالضبط هو عكس التأثير المطلوب عندما يتم اللجوء إلى اللعنة: المنبوذ الذي يصبح أيقونة. يعد الأباطرة مثل نيرون وكاليغولا، وقد تعرض كل منهما الى لعنة الذاكرة، من بين بعض الشخصيات الأكثر شهرة من العصور القديمة.
   ويرجع ذلك جزئيًا إلى المؤرخين، سواء كانوا في الماضي أو الحاضر، الذين لم يتمكنوا من مقاومة إغراء المبالغة في الجرائم والفجور والتجاوزات المزعومة للمحكوم عليهما، الى حدّ نسيان أي مصداقية أو سياق تاريخي. القصص التي وفقًا لها عيّن كاليغولا حصانه سيناتورا أو أن نيرون اضطهد المسيحيين الأوائل (وكل منها غير صحيحة)، تمثل إعادة كتابة للتاريخ، عملت فقط على دعم وتعزيز أسطورتهما.

   يعلّمنا فشل الرومان في هذا المجال أنه في أوقات الصراع السياسي، لا يكفي محو اللعنة لتحقيق التنفيس الجماعي. في حين أنه إذا كان لزاما إعادة التفاوض حول الأماكن العامة والذاكرة الاجتماعية، فإن مجرد إزالة الرمزيات التذكيرية لا يكفي لمحو الضرر الذي الحقه القادة السيئون وانصارهم.
   والأفضل أن نعكس مرآة لهذه الشخصيات ولأنفسنا، من خلال عملية قانونية شفافة تكشف الحقائق وتتحدى التطرف ونظريات المؤامرة لـ “الدولة العميقة”، ولكنها تضمن أيضًا عدم إفلات الأفعال السيئة من العقاب.

   هذا درس تعلمته ألمانيا بشكل مؤلم بعد الحرب العالمية الثانية، وقد يجادل البعض بأن الولايات المتحدة لم تتعلمه أبدًا في أعقاب الحرب الأهلية. بدلاً من محوها تمامًا، نحتاج إلى أن يكتب المؤرخون بصدق عن تلك الحقبة، وأن يكونوا بمثابة شهود، وأن يصفوا بشكل ملموس ما حدث ولماذا.
   وبدلاً من دفنهم، نحتاج إلى وجهة نظر عن قادتنا، سواء كانوا جيدين أو سيئين. وجهة نظر يمكن أن تكون في مكان ما بين اللعنة وسير القديسين في هذا الفضاء الشاسع الذي نسميه الواقع.

أستاذة مساعدة للعهد الجديد والمسيحية المبكرة وعلم الآثار الرومانية في جامعة ميامي، فلوريدا.