رئيس الدولة ورئيس وزراء باكستان يبحثان علاقات التعاون بين البلدين والتطورات الإقليمية
المال والإعلام والعنف:
هكذا غيّر ترامب وبرلسكوني الحياة السياسية الفرنسية
-- تمكن برلسكوني من بيع حزبه للإيطاليين وأكد أن الشيوعيين يأكلون الرّضع
-- تقطع شعارات دخولهما المسرح مع التشاؤم الذي أصاب إيطاليا عام 1994 والولايات المتحدة عام 2016
-- لم يطبع الرجلان بلديهما فقط وانما أثرا أيضًا على السياسة الفرنسية وغيّرا جميع رموزها
-- اثنان من أصحاب المليارات، يجسّدان الرأسمالية المنتصرة في الثمانينات
-- تكمن قوة هذه التجارب السياسية في وصفة بسيطة أولها كسر القواعد القديمة للحياة السياسية
لم يؤثر سيلفيو برلسكوني مثل دونالد ترامب على بلديهما فقط. لقد أثرا أيضًا على فرنسا، الذي تعصف به أزمة سياسية عميقة منذ أكثر من عقد من الزمان. هذان الوجهان الدوليان، أحدهما أوروبي والآخر أمريكي، طبعا حياتنا السياسية بظاهرة الانبهار والنفور، والتي انتهى بها الأمر إلى تغيير رموزها. اثنان من أصحاب المليارات، التجسيد الحيّ للرأسمالية المنتصرة في الثمانينات، لم ينطلقا من الصفر أيضًا. كلاهما صنع ثروته في البناء والعقارات. وكل منهما وثّق، قبل الدخول في السياسة، صداقات، وأحيانًا معارف حمائية في المعسكر المقابل. ولطالما كان سيلفيو برلسكوني في حماية بيتينو كراكسي، الذي أصدر القوانين الضرورية لتوسيع إمبراطوريته الإعلامية. كما عملت جامعة ميلانو للحزب الاشتراكي الإيطالي بجد لبناء ثروات برلسكوني وشركاته وتعزيزها، فينينفيست أو ميدياست. و”ميلانو 2”، المدينة النموذجية في ضواحي ميلانو، هي رمز لهذه العلاقات المعقدة. أما بالنسبة لدونالد ترامب، الملياردير الشهير في مانهاتن، فنراه يقف لالتقاط صورة مع هيلاري وبيل كلينتون، في زواجه من ميلانيا.
إن شعارات دخولهما المسرح تقطع مع التشاؤم الذي أصاب إيطاليا عام 1994، وكذلك الولايات المتحدة عام 2016: يتحدث برلسكوني عن “معجزة إيطالية جديدة”، ويعلن ترامب “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. لا تدين هذه الشعارات بأي شيء للصدفة، وليست خارج النظام تمامًا: فهي مستمدة من التاريخ المعاصر للبلدين المعنيين، رموز مفيدة لمبادرتهما. يشير برلسكوني إلى إعادة إعمار إيطاليا، ويعود ترامب إلى عهد ريغان.
برلسكوني عاشق الموسيقى، ترامب المصارع
في لورو، يرسم باولو سورينتينو برلسكوني كمسنّ مثير للشفقة، يطمئن نفسه من خلال إثبات أنه لا يزال قادرًا على بيع شقة لشخص غريب تمامًا يتم اختياره عشوائيًا من الدليل. هذا السعي المحموم للهروب من ماضيه، للهروب من صورته، يكاد يكون مجازيًا لمجتمعاتنا ككل، حيث يبيع الإنسان منتجًا لناخبه. وعودته التي لا تعد ولا تحصى، مثل عدد القضايا المرفوعة ضده، تذكرنا بالرئيس الفرنسي الاسبق نيكولا ساركوزي.
لم يرفض ايل كافالييري أبدًا استخدام موهبته من اجل الفرجة والعرض، ولا تلك التي أثبتها، كبائع (بدأ ببيع المكانس الكهربائية قبل التحول إلى العقارات). مطرب في رحلات بحرية في بداية مسيرته، لعب على موهبته الموسيقية بالذهاب إلى حد الادعاء بأنه كتب الاناشيد المتتالية للأحزاب السياسية التي ترأسها. كان برلسكوني أيضًا رئيسًا لنادي ميلان لكرة القدم، وكان بحكم الأمر الواقع على رأس أندية المشجعين المفيدة جدًا لاحقا.
لقد استثمر دونالد ترامب نفسه في تلفزيون الواقع والشبكات الاجتماعية. وريث شركة عائلية في مجال العقارات، اكتسب شهرة أكبر في صحافة المشاهير بعد زواجه من إيفانا، زوجته الأولى، عام 1977. بعد ذلك، أثبت نجاحه في مجموعة من البرامج الترفيهية، أو بأنه قادر على الصعود للحلبة في مباراة مصارعة عام 2007.
كان اختزال النقاش العام إلى نقاش حول شخصهم، سمة مميزة لحملاتهم الانتخابية، حيث اتهم الرجلان خصومهما بـ “الخوف من النقاش” أو، ربما، “بالرغبة في الغش”. ومع ذلك، فإن كلا منهما يتنزّل في نمط أكثر تعقيدًا من النمط الذي يترك الهيمنة للباث. وهو أيضًا تغيير في التفاعلات مع المواطنين يروجان له، تغيير يسبقهما ويتجاوزهما، لكنهما من يكشفاه ويسرّعانه.
صناعة الحدث من لا شيء
يحلل بيير موسو، منذ عام 1997، “لحظة برلسكوني” كعبور من بناء مجموعة اتصالات (فينينفيست / ميدياست)، إلى بناء هيمنة سياسية. عام 1994، أثناء انتصار ائتلافه، توج سيلفيو برلسكوني تشكيلتين يمينيتين راديكاليتين – رابطة الشمال بزعامة أومبرتو بوسي، والحركة الاجتماعية الإيطالية -اليمين القومي، التي أصبحت أليانزا ناسيونالي، بقيادة جيانفرانكو فيني -كحزبين حكومييين، ظاهرة مرت دون أن يلاحظها أحد نسبيًا امام أسئلة حول “التلفزة الشعبوية” أو “تليكراسي».
منذ عام 1974، في ميلانو، شرع سيلفيو برلسكوني في دعم صعوده كرجل أعمال من خلال الاستثمار المستمر في وسائل الإعلام. ننسى أيضًا أن الإيطالي ساهم في تغييرات في المشهد السمعي البصري الفرنسي. في 1985-1986، تمكن برلسكوني من أن يكون جزءً من التحالف الرأسمالي الذي أنشأ قناة الخامسة، وذلك بفضل تصويت نواب الحزب الاشتراكي فقط في الجمعية الوطنية. كان إسراف كل من برلسكوني ثم ترامب، هي الشاشة التي موّهت أسباب وعواقب استثمارهما في السياسة، والأسوأ من ذلك نجاحهما. ونحن نعلم عن ظهر قلب تجاوزات ترامب السلوكية، لكننا نتذكر الآن أقل تلك التي قام بها برلسكوني، حيث اقترح يومًا على مارتن شولتز، زعيم الحزب الاشتراكي الاوروبي في البرلمان الأوروبي، “تخصيص دور كابو في إنتاج إيطالي حول معسكرات الاعتقال».
عام 2012، أعلن “لقد اتُهمت بكل شيء ما عدا أن أكون مثليًا”، بعد أن أعلن أن “حب النساء أفضل من أن أكون مثليًا”، أو القيام بإشارة “قرون” لأحد نظرائه في المجلس الأوروبي. وعند استقباله لرئيس دولة أجنبية، أخبره علانية أنه “أجمل بكثير من عشيق زوجته”. واجتذب كل ظهور له في برلمان ستراسبورغ، عددًا يقارب عدد المصورين وأجهزة التلفزيون في مهرجان كان. هذه الطريقة في صناعة حدث من لا شيء، وعلى حساب الوظيفة، أثارت بلا شك إعجاب العديد من السياسيين الفرنسيين والأوروبيين.
عمليات الاستحواذ
السياسي، وتعميق الانقسام
هناك نوع من تأثير الإزميل على ديمقراطياتنا عندي ظهور برلسكوني ثم ترامب في الحياة السياسية لبلديهما، ثم في الحياة السياسية الدولية. التأثير الأول، هو الانبهار بصعودهما واستخدام خطابهما أو أسلوبهما في الاتصال. ثم يأتي الثاني، وهو الافراط في إضفاء الطابع الشخصي، والمغالاة في شخصنة الجدل، والذي ينتهي بتجاهل الديناميكيات الاجتماعية لإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية. وعلى مدار خمسة وعشرين عامًا، ورغم العمل الصارم الذي تقوم به الصحافة الفرنسية في إيطاليا، ركزت معظم التعليقات السياسية على شخص برلسكوني وعلى تلفزيوناته، دون استيعاب تعقيد الظاهرة التي يجسدها.
ويجب ألا ننسى أن تشويه سمعة الطبقة السياسية في الجمهورية الأولى، طبقة المسيحية الديمقراطية، والحزب الاشتراكي الإيطالي، وأحزاب الوسط الحكومية الصغيرة، هي التي أدت إلى نزول برلسكوني إلى الساحة. وبالمثل، فإن السجل الكارثي لفترتي ولاية جورج دبليو بوش، وتصدّعات الأزمة التي لم تحل بفترتي ولاية أوباما، وفّرتا الوقود السياسي والانتخابي الذي احتاجه ترامب. لذلك حل برلسكوني محل المسيحية الديمقراطية والحزب الاشتراكي الإيطالي، وأسقط ترامب، عام 2016، قيادات الحزب الكبير القديم، ثم هزم هيلاري كلينتون، أبرز ممثلة لخط الحزب الديمقراطي لأكثر من ربع قرن.
ولادة أو انبعاث اليمين الإيطالي منذ بداية التسعينات، وركود الحياة الاقتصادية الإيطالية في ظل حكومات برلسكوني، يبدو قد حجبته المغامرات والفضائح والسلوك الغريب أحيانًا لزعيم الحكومة الإيطالية.
إن برلسكوني كان في حضانة الحزب الاشتراكي الإيطالي بزعامة بيتينو كراكسي، الذي أدين بالفساد وتوفي في المنفى ويكرّمه برلسكوني بانتظام، وقد حوّل العديد من كوادره إلى فورزا ايطاليا. في نفس الوقت، استحوذ على إيل جورنال عام 1992، الصحيفة التاريخية الـ “ديسترا” الإيطالية، التي أسسها ويديرها إندرو مونتانيلي، لتصبح ملكًا لأخيه بيترو برلسكوني.
وترك جيانفرانكو فيني يحلم بإمكانية خلافته على رأس الحكومة الإيطالية، وحاول الاستحواذ على حركة أليانزا ناسيونالي، حليفته منذ عام 1994. أنتجت النزعة المانوية الصاخبة والاستفزازية والمخزية لبرلسكوني (“الشيوعيون يأكلون الرضع”) أو ترامب (على “أنتيفاس”، آل كلينتون) تصعيدًا متوقعًا من العديد من المراقبين أو المعارضين. غير ان كل منهما كان أكثر من نتاج هذه المانوية، من خلال تكوين تحالفات اجتماعية وسياسية وحزبية حقيقية. اعتمد دونالد ترامب بشكل كبير على بريتبارت نيوز، وهي وسيلة إعلام يمينية متطرفة، وقام بمحاولة استحواذ على “مؤتمر العمل السياسي المحافظ”، والذي أمر خلاله بـ “طرد” جميع خصومه. وبشكل علني اقصى برلسكوني فيني عام 2010.
المال والإعلام والعنف، هي الكلمات الرئيسية لمغامرتين ابهرتا العديد من القيادات السياسية الفرنسية. كما ساعد استعراض وضعهما كمليارديرات في ترسيخ فكرة أن الثروة والسلطة مترادفان، وأن علاقة السبب والنتيجة تربط الاثنين. وهكذا، فإنه ينسب لنيكولا ساركوزي مبكرا نية “كسب المال” بعد الإليزيه. والأمر نفسه ينطبق على هوسه بعلاقة مميزة مع بعض وسائل الإعلام والصحفيين.
الاجماع بين القوى المتراجعة
منذ منتصف الثمانينات، وخاصة في فرنسا، تغلغلت الرموز المتأصلة في التطلع إلى الاجماع في البلاد. وتدريجيا، ظهرت مساحة للقوى “الشعبوية”. ويُخفي الوفاق بين القوى السياسية المتراجعة أشكالًا مختلفة من الشعبوية. ويرتبط التركيز على الأشخاص وسلوكهم أيضًا بالأهمية التي يفترضها الاجماع، والتي ينوي برلسكوني وترامب إبرازها من خلال الجدل السريالي أحيانًا. وفعلا، في إيطاليا عاشت “الحزبية” وفقدت الأحزاب التقليدية مصداقيتها. وفي الولايات المتحدة، استفاد طرف ثالث، حزب الإصلاح، في الأعوام 1992 و1996 و1998 من عدم الرضا عن الحزبين.
ولئن كان صحيحًا أن مجلس نواب الجمهورية الإيطالية ظل لفترة طويلة مسرحًا للفضائح أو العروض التي على حدود التحضر الجمهوري الأساسي، إن لم يكن، حسن الذوق، فإن ظهور إمبراطورية الإعلام البرلسكونية دفع بهذه العادات المشبوهة الى أجهزة التلفزيون من خلال تضخيمها. وانتهت البرامج الحوارية التلفزيونية لبرلسكوني بالانتشار على قنوات الراي العمومية. وكان دونالد ترامب، من جانبه، رائدًا في تلفزيون الواقع، لا سيما بعبارته الشهيرة “أنت مطرود”، وسرعان ما تبنّى تويتر باعتباره المحرك الرئيسي لتعبيره. ويشترك الاثنان في الاستمتاع بوضع أنفسهما في الصورة والمشهد، بدون فلتر.
لكل هذا، تكمن قوة هذه التجارب السياسية في وصفة بسيطة إلى حد ما: كان عليهما أولاً كسر القواعد القديمة للحياة السياسية. ومحى سيلفيو برلسكوني تمامًا إرث الطبقة السياسية قبل عام 1992، بينما كان يبني خليطًا أكثر دقة مما يبدو بين العناصر القديمة والجديدة. لقد خاطب نواة انتخابية قوية، متجاوزا في بعض الأحيان أبجديات العقلانية، جاعلا من الناخب مستهلكًا. كما شخصن سلطته إلى أقصى الحدود، ملتفّا أو ساعيا للالتفاف على مؤسسات مثل العدالة، وفي تحدٍ للشرعية في بعض الحالات. لقد انقلب على الانقسامات القائمة بمانوية لا حدود لها، وبتمويه حقيقة عمله ونتائجه.
في أمريكا التي تضررت بشدة من أزمة 2008-2009، فعل دونالد ترامب نفس الشيء. لا يترك النظام الانتخابي الأمريكي أي مجال تقريبًا لصعود سياسي يتجاهل الحزبين الكبيرين -الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي -وقد قاس ترامب حدود تجربة روس بيرو، المرشح الرئاسي مرتين أو جيسي “ذا بودي” فينتورا، انتخب حاكم مينيسوتا عام 1998 عن حزب بيرو، حزب الإصلاح، ومنذئذ أصبح منظّرًا يغازل نظريات المؤامرة... وربما يكون نجاح فينتورا الباهر مساء منتصف المدة عام 1998، قد أطلق شكلاً من أشكال الترامبية قبل اوانها، ونبّه إلى احتمال حدوث اختراق لمرشحين في قطيعة مع استبلشمنت الحزبين الرئيسيين.
نحن نعلم أن برلسكوني وترامب هما، أولاً وقبل كل شيء، باعثي عقارات. وليس من قبيل الصدفة أن يكون الأمريكي مرتاحًا جدًا لدور باعث الجدار على الحدود المكسيكية (“ابن ذلك الجدار”)، الذي سجله متواضع من حيث البناء. وعند حدوث كارثة لاكويلا عام 2009، كان برلسكوني هو من أخذ زمام المبادرة في إعادة بناء المدينة بعد الزلزال الذي أودى بحياة 290 شخصًا، وذهب إلى حد تنظيم حفل تلفزيوني لتسليم المفاتيح لأصحابها، حفل مشكوك في مذاقه. ولئن تعثر كل من ترامب وبرلسكوني في أزمة صحية أو كارثة طبيعية، فإنهما يكشفان عن الأهمية المتزايدة للقرارية في الحياة السياسية، اتخاذ القرار الذي جسده ماتيو رينزي لبعض الوقت، ويمكن العثور عليه أيضًا في الموقف السياسي لنيكولا ساركوزي أو لاحقًا مانويل فالس.
برامج حوارية، وشبكات اجتماعية، احداث متنوعة، وصحافة شعبية ...
لم يعد من النادر أن نرى هذا السياسي أو ذاك في برنامج “لا تلمس جهاز تلفزيوني” لسيريل حنون. نفسهم كانوا عام 1994، فزعين ومنزعجين بسبب ابتذال برامج بداية عصر برلسكوني. ففور ظهورهم على الهواء، تتالى سلسلة من التغريدات الفظة والعنيفة، والتي تترجم بلا شك تحدٍ عنيف للقواعد الديمقراطية.
لقد استسلم اليمين الفرنسي منذ فترة طويلة لأبواق البرلسكونية، دون أن يكون لديه مع ذلك الموارد المادية والإعلامية لتقليده بالكامل. عام 1994، لم يخف وزير حكومة إدوارد بالادور، آلان مادلين، حماسه أمام نجاح الائتلاف الذي أوصل سيلفيو برلسكوني إلى السلطة. وعام 1995، شكل حزب التجمع من أجل الجمهورية الوحيد في البرلمان الأوروبي مجموعة مع البرلسكونيين المنتخبين في يونيو 1994. وعام 2001، كرر نفس الحماس امام انتصار نفس الائتلاف. وتحدث إدوارد بالادور عن “مثال يحتذى”. كما دعا كلود غواسغن، جاك شيراك إلى “استلهام” تجربة برلسكوني.
ما يكشفه السياسيون خاصة، هو افتتانهم بالمدى الذي اخذه التلفزيون في الحياة السياسية. بعد ذلك وبسرعة كبيرة، تبنى اليمين الفرنسي الوصفة البرلسكونية: الانفتاح والقطيعة. نيكولا ساركوزي وسيلفيو برلسكوني غير معروفين بصداقتهما المتبادلة، لكن من الواضح أن صعوده السياسي بين 2005 و2007 استعار رموز وصفات فورزا إيطاليا عام 1993. وما ينقص اليمين الفرنسي هو الربط بين قوة مجموعة، مثل فينينفيست / ميدياست، وتجسيد قادر على إعادة إنتاج النمط البرلسكوني.
ظهر ترامب في الساحة السياسية مثل برلسكوني. لقد أذهل جزءً من اليمين، ولكن من الغريب اليسار الفرنسي أيضًا، ويبدو هذا الأخير أكثر اهتمامًا بنتائج مركز اقتراع في أوهايو منه بنتائج ليموزين.
اندماج المستهلك والناخب
كان سبب الاضطراب العميق في حياتنا السياسية هو النظام الأولي للجمهورية الخامسة والهيمنة التي مُنحت لرئيس الجمهورية، خاصة بعد عام 1962، ولكنها أدت تدريجياً إلى تحول رئيس الدولة إلى صانع المطر حيث تتمثل مهمته في معرفة كل شيء وحل كل شيء. وفي سياق تدهور اقتصادي، اثار صانع المطر الغضب، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، تمكن من تجنيد عدد كبير من المتعاطفين في نوع من محكمة شعبية كبرى لعيوب ومآزق الحكومات السابقة.
مع برلسكوني، تم بيع الحلم بجميع أشكاله: رحلات بحرية سياحية، ووعود رائعة بان إيطاليا تشهد ولادة “جيل الألف يورو”. ظهوره، مثل السطوة التي تمارس على جزء من صحافة المشاهير أسفل وما وراء جبال الألب، يسحر. إن قرب “ميمي” مارشان، إمبراطورة صحافة المشاهير، من الرئيس ماكرون، يؤكد هذا الاتجاه الثقيل الذي، لئن كان قديماً، فقد ارتفع بشكل مذهل بفضل الاستخدامات القادمة من شركة برلسكوني. منذ عام 2007، سعى المرشحون الرئاسيون إلى ان يكونوا على الصفحة الأولى لأكشاك الصحف بدلاً من التفاعل مع القوى الاجتماعية في البلاد... لقد اندمج المستهلك والناخب. في نهاية فترته الرئاسية، وقع نيكولا ساركوزي فريسة عدة قضايا قانونية، كما يشتبه في رغبته في العودة إلى الساحة السياسية، ونتيجة لذلك نتحدث عن “برلسكونته”. لقد استطاع نيكولا ساركوزي الاعتماد على أصدقاء يمتلكون وسائل إعلام، ولكنه ليس صاحب وسائل إعلام، ان ما يميزه عن برلسكوني: انه ليس سيد التدفقات.
يعمل برلسكوني وترامب بنفس الطريقة: جملة، تعبير جدلي يركز عليهما الانتباه، وفي كل مرة يهدمان ما بدا أنه توافق وإجماع في الحياة السياسية والاجتماعية حتى ذلك الحين. بدعوى التحدث لأغلبية صامتة، فهما يحددان شروط النقاش، حتى ان لم يكن هذا الاخير ذا أهمية كبرى أو لم يكن حاسما بالنسبة للبلد. وأدى وصول تويتر إلى زيادة هيجان المناقشات التي بدأت. واليوم، يحتاج المرء فقط إلى النظر إلى الشبكة الاجتماعية المعنية ليرى أن الرموز الترامبية قد طبعت القوس السياسي بأكمله.
يستخدم كل من برلسكوني وترامب المانوية الجامحة. برلسكوني، كما يشرح بيير موسو، أسس إمبراطوريته الإعلامية وأنتج نوعًا من الأيديولوجية التي تحل محل الثقافات الشيوعية والكاثوليكية التي دخلت في أزمة. واعتمد على كراكسي لفرض قنواته التلفزيونية امام قنوات الراي العمومية، وقطّر كلامه ووعوده، وأحلامه، منتقلا بسعادة من المجال التجاري إلى المجال الرمزي. وفي فترة انهيار الهويات السياسية، من المضر، بقدر ما هو منطقي، أن نرى الممثلين المنتخبين للجمهورية، والقادة السياسيين، يندفعون إلى هواتفهم الذكية للتغريد والتعليق فورا على أي خبر عابر: وكلما كان هذا الاخير فظيعًا، كان التفسير عنيدا، ومتسرعا دائمًا، وغالبًا ما يكون غير دقيق، وفي النهاية، غير لائق.
إن القاسم المشترك بين ترامب وبرلسكوني هو أنهما ظهرا في أوقات الأزمات العالمية. أحلام، مانوية، وعود تجارية، تبسيط شديد للخطاب تتراكم كلها، وكما يشرح بيير موسو، تمكن برلسكوني من “بيع حزبه” للإيطاليين.
من عام 2004 إلى عام 2014، كان برنامج “المبتدئ” على شبكة” ان بي سي”، نوعًا من “لوفت ستوري” محترف، يجمع معًا في نفس الجناح من برج ترامب، متنافسين يطمحون للانضمام إلى شركة ترامب. دونالد ترامب، المنتج المشارك لهذا البرنامج التلفزيوني، “يطرد” المرشحين بشكل فجّ (“أنت مطرود”) وينتقل إلى مواضع المنتجات. باختصار، في فرنسا، تم إنشاء نسخة من العرض عام 2015، وفي دور ترامب، نائب حركة الجمهورية الى الامام المستقبلي، برونو بونيل.
في فرنسا، لم يتم الوصول إلى درجة “الكمال” في المشروع البرلسكوني. ومع ذلك، لا يزال الانبهار بالشاشة الصغيرة، كشكل من أشكال ثقافة الصدام، والبوز، مما يشير إلى زيادة العنف اللفظي في النقاش السياسي. وتختلط في فرنسا رموز الاداء والادانة والذم والسب. لقد سحر برلسكوني وترامب بشكل يتجاوز ما يمكن تصوره، وقد ساعدا في غرس رموز عنيفة وقاتلة في المجتمع... حتى الكارثة؟
عضو مرصد الراديكاليات السياسية في مؤسسة جان جوريس، باحث في العلوم السياسية، متخصص في اليمين والأبعاد الثقافية للسياسة، ومؤلف العديد من البحوث منها “الى اللقاء غرامشي” (منشورات سارف 2015).
-- تقطع شعارات دخولهما المسرح مع التشاؤم الذي أصاب إيطاليا عام 1994 والولايات المتحدة عام 2016
-- لم يطبع الرجلان بلديهما فقط وانما أثرا أيضًا على السياسة الفرنسية وغيّرا جميع رموزها
-- اثنان من أصحاب المليارات، يجسّدان الرأسمالية المنتصرة في الثمانينات
-- تكمن قوة هذه التجارب السياسية في وصفة بسيطة أولها كسر القواعد القديمة للحياة السياسية
لم يؤثر سيلفيو برلسكوني مثل دونالد ترامب على بلديهما فقط. لقد أثرا أيضًا على فرنسا، الذي تعصف به أزمة سياسية عميقة منذ أكثر من عقد من الزمان. هذان الوجهان الدوليان، أحدهما أوروبي والآخر أمريكي، طبعا حياتنا السياسية بظاهرة الانبهار والنفور، والتي انتهى بها الأمر إلى تغيير رموزها. اثنان من أصحاب المليارات، التجسيد الحيّ للرأسمالية المنتصرة في الثمانينات، لم ينطلقا من الصفر أيضًا. كلاهما صنع ثروته في البناء والعقارات. وكل منهما وثّق، قبل الدخول في السياسة، صداقات، وأحيانًا معارف حمائية في المعسكر المقابل. ولطالما كان سيلفيو برلسكوني في حماية بيتينو كراكسي، الذي أصدر القوانين الضرورية لتوسيع إمبراطوريته الإعلامية. كما عملت جامعة ميلانو للحزب الاشتراكي الإيطالي بجد لبناء ثروات برلسكوني وشركاته وتعزيزها، فينينفيست أو ميدياست. و”ميلانو 2”، المدينة النموذجية في ضواحي ميلانو، هي رمز لهذه العلاقات المعقدة. أما بالنسبة لدونالد ترامب، الملياردير الشهير في مانهاتن، فنراه يقف لالتقاط صورة مع هيلاري وبيل كلينتون، في زواجه من ميلانيا.
إن شعارات دخولهما المسرح تقطع مع التشاؤم الذي أصاب إيطاليا عام 1994، وكذلك الولايات المتحدة عام 2016: يتحدث برلسكوني عن “معجزة إيطالية جديدة”، ويعلن ترامب “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. لا تدين هذه الشعارات بأي شيء للصدفة، وليست خارج النظام تمامًا: فهي مستمدة من التاريخ المعاصر للبلدين المعنيين، رموز مفيدة لمبادرتهما. يشير برلسكوني إلى إعادة إعمار إيطاليا، ويعود ترامب إلى عهد ريغان.
برلسكوني عاشق الموسيقى، ترامب المصارع
في لورو، يرسم باولو سورينتينو برلسكوني كمسنّ مثير للشفقة، يطمئن نفسه من خلال إثبات أنه لا يزال قادرًا على بيع شقة لشخص غريب تمامًا يتم اختياره عشوائيًا من الدليل. هذا السعي المحموم للهروب من ماضيه، للهروب من صورته، يكاد يكون مجازيًا لمجتمعاتنا ككل، حيث يبيع الإنسان منتجًا لناخبه. وعودته التي لا تعد ولا تحصى، مثل عدد القضايا المرفوعة ضده، تذكرنا بالرئيس الفرنسي الاسبق نيكولا ساركوزي.
لم يرفض ايل كافالييري أبدًا استخدام موهبته من اجل الفرجة والعرض، ولا تلك التي أثبتها، كبائع (بدأ ببيع المكانس الكهربائية قبل التحول إلى العقارات). مطرب في رحلات بحرية في بداية مسيرته، لعب على موهبته الموسيقية بالذهاب إلى حد الادعاء بأنه كتب الاناشيد المتتالية للأحزاب السياسية التي ترأسها. كان برلسكوني أيضًا رئيسًا لنادي ميلان لكرة القدم، وكان بحكم الأمر الواقع على رأس أندية المشجعين المفيدة جدًا لاحقا.
لقد استثمر دونالد ترامب نفسه في تلفزيون الواقع والشبكات الاجتماعية. وريث شركة عائلية في مجال العقارات، اكتسب شهرة أكبر في صحافة المشاهير بعد زواجه من إيفانا، زوجته الأولى، عام 1977. بعد ذلك، أثبت نجاحه في مجموعة من البرامج الترفيهية، أو بأنه قادر على الصعود للحلبة في مباراة مصارعة عام 2007.
كان اختزال النقاش العام إلى نقاش حول شخصهم، سمة مميزة لحملاتهم الانتخابية، حيث اتهم الرجلان خصومهما بـ “الخوف من النقاش” أو، ربما، “بالرغبة في الغش”. ومع ذلك، فإن كلا منهما يتنزّل في نمط أكثر تعقيدًا من النمط الذي يترك الهيمنة للباث. وهو أيضًا تغيير في التفاعلات مع المواطنين يروجان له، تغيير يسبقهما ويتجاوزهما، لكنهما من يكشفاه ويسرّعانه.
صناعة الحدث من لا شيء
يحلل بيير موسو، منذ عام 1997، “لحظة برلسكوني” كعبور من بناء مجموعة اتصالات (فينينفيست / ميدياست)، إلى بناء هيمنة سياسية. عام 1994، أثناء انتصار ائتلافه، توج سيلفيو برلسكوني تشكيلتين يمينيتين راديكاليتين – رابطة الشمال بزعامة أومبرتو بوسي، والحركة الاجتماعية الإيطالية -اليمين القومي، التي أصبحت أليانزا ناسيونالي، بقيادة جيانفرانكو فيني -كحزبين حكومييين، ظاهرة مرت دون أن يلاحظها أحد نسبيًا امام أسئلة حول “التلفزة الشعبوية” أو “تليكراسي».
منذ عام 1974، في ميلانو، شرع سيلفيو برلسكوني في دعم صعوده كرجل أعمال من خلال الاستثمار المستمر في وسائل الإعلام. ننسى أيضًا أن الإيطالي ساهم في تغييرات في المشهد السمعي البصري الفرنسي. في 1985-1986، تمكن برلسكوني من أن يكون جزءً من التحالف الرأسمالي الذي أنشأ قناة الخامسة، وذلك بفضل تصويت نواب الحزب الاشتراكي فقط في الجمعية الوطنية. كان إسراف كل من برلسكوني ثم ترامب، هي الشاشة التي موّهت أسباب وعواقب استثمارهما في السياسة، والأسوأ من ذلك نجاحهما. ونحن نعلم عن ظهر قلب تجاوزات ترامب السلوكية، لكننا نتذكر الآن أقل تلك التي قام بها برلسكوني، حيث اقترح يومًا على مارتن شولتز، زعيم الحزب الاشتراكي الاوروبي في البرلمان الأوروبي، “تخصيص دور كابو في إنتاج إيطالي حول معسكرات الاعتقال».
عام 2012، أعلن “لقد اتُهمت بكل شيء ما عدا أن أكون مثليًا”، بعد أن أعلن أن “حب النساء أفضل من أن أكون مثليًا”، أو القيام بإشارة “قرون” لأحد نظرائه في المجلس الأوروبي. وعند استقباله لرئيس دولة أجنبية، أخبره علانية أنه “أجمل بكثير من عشيق زوجته”. واجتذب كل ظهور له في برلمان ستراسبورغ، عددًا يقارب عدد المصورين وأجهزة التلفزيون في مهرجان كان. هذه الطريقة في صناعة حدث من لا شيء، وعلى حساب الوظيفة، أثارت بلا شك إعجاب العديد من السياسيين الفرنسيين والأوروبيين.
عمليات الاستحواذ
السياسي، وتعميق الانقسام
هناك نوع من تأثير الإزميل على ديمقراطياتنا عندي ظهور برلسكوني ثم ترامب في الحياة السياسية لبلديهما، ثم في الحياة السياسية الدولية. التأثير الأول، هو الانبهار بصعودهما واستخدام خطابهما أو أسلوبهما في الاتصال. ثم يأتي الثاني، وهو الافراط في إضفاء الطابع الشخصي، والمغالاة في شخصنة الجدل، والذي ينتهي بتجاهل الديناميكيات الاجتماعية لإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية. وعلى مدار خمسة وعشرين عامًا، ورغم العمل الصارم الذي تقوم به الصحافة الفرنسية في إيطاليا، ركزت معظم التعليقات السياسية على شخص برلسكوني وعلى تلفزيوناته، دون استيعاب تعقيد الظاهرة التي يجسدها.
ويجب ألا ننسى أن تشويه سمعة الطبقة السياسية في الجمهورية الأولى، طبقة المسيحية الديمقراطية، والحزب الاشتراكي الإيطالي، وأحزاب الوسط الحكومية الصغيرة، هي التي أدت إلى نزول برلسكوني إلى الساحة. وبالمثل، فإن السجل الكارثي لفترتي ولاية جورج دبليو بوش، وتصدّعات الأزمة التي لم تحل بفترتي ولاية أوباما، وفّرتا الوقود السياسي والانتخابي الذي احتاجه ترامب. لذلك حل برلسكوني محل المسيحية الديمقراطية والحزب الاشتراكي الإيطالي، وأسقط ترامب، عام 2016، قيادات الحزب الكبير القديم، ثم هزم هيلاري كلينتون، أبرز ممثلة لخط الحزب الديمقراطي لأكثر من ربع قرن.
ولادة أو انبعاث اليمين الإيطالي منذ بداية التسعينات، وركود الحياة الاقتصادية الإيطالية في ظل حكومات برلسكوني، يبدو قد حجبته المغامرات والفضائح والسلوك الغريب أحيانًا لزعيم الحكومة الإيطالية.
إن برلسكوني كان في حضانة الحزب الاشتراكي الإيطالي بزعامة بيتينو كراكسي، الذي أدين بالفساد وتوفي في المنفى ويكرّمه برلسكوني بانتظام، وقد حوّل العديد من كوادره إلى فورزا ايطاليا. في نفس الوقت، استحوذ على إيل جورنال عام 1992، الصحيفة التاريخية الـ “ديسترا” الإيطالية، التي أسسها ويديرها إندرو مونتانيلي، لتصبح ملكًا لأخيه بيترو برلسكوني.
وترك جيانفرانكو فيني يحلم بإمكانية خلافته على رأس الحكومة الإيطالية، وحاول الاستحواذ على حركة أليانزا ناسيونالي، حليفته منذ عام 1994. أنتجت النزعة المانوية الصاخبة والاستفزازية والمخزية لبرلسكوني (“الشيوعيون يأكلون الرضع”) أو ترامب (على “أنتيفاس”، آل كلينتون) تصعيدًا متوقعًا من العديد من المراقبين أو المعارضين. غير ان كل منهما كان أكثر من نتاج هذه المانوية، من خلال تكوين تحالفات اجتماعية وسياسية وحزبية حقيقية. اعتمد دونالد ترامب بشكل كبير على بريتبارت نيوز، وهي وسيلة إعلام يمينية متطرفة، وقام بمحاولة استحواذ على “مؤتمر العمل السياسي المحافظ”، والذي أمر خلاله بـ “طرد” جميع خصومه. وبشكل علني اقصى برلسكوني فيني عام 2010.
المال والإعلام والعنف، هي الكلمات الرئيسية لمغامرتين ابهرتا العديد من القيادات السياسية الفرنسية. كما ساعد استعراض وضعهما كمليارديرات في ترسيخ فكرة أن الثروة والسلطة مترادفان، وأن علاقة السبب والنتيجة تربط الاثنين. وهكذا، فإنه ينسب لنيكولا ساركوزي مبكرا نية “كسب المال” بعد الإليزيه. والأمر نفسه ينطبق على هوسه بعلاقة مميزة مع بعض وسائل الإعلام والصحفيين.
الاجماع بين القوى المتراجعة
منذ منتصف الثمانينات، وخاصة في فرنسا، تغلغلت الرموز المتأصلة في التطلع إلى الاجماع في البلاد. وتدريجيا، ظهرت مساحة للقوى “الشعبوية”. ويُخفي الوفاق بين القوى السياسية المتراجعة أشكالًا مختلفة من الشعبوية. ويرتبط التركيز على الأشخاص وسلوكهم أيضًا بالأهمية التي يفترضها الاجماع، والتي ينوي برلسكوني وترامب إبرازها من خلال الجدل السريالي أحيانًا. وفعلا، في إيطاليا عاشت “الحزبية” وفقدت الأحزاب التقليدية مصداقيتها. وفي الولايات المتحدة، استفاد طرف ثالث، حزب الإصلاح، في الأعوام 1992 و1996 و1998 من عدم الرضا عن الحزبين.
ولئن كان صحيحًا أن مجلس نواب الجمهورية الإيطالية ظل لفترة طويلة مسرحًا للفضائح أو العروض التي على حدود التحضر الجمهوري الأساسي، إن لم يكن، حسن الذوق، فإن ظهور إمبراطورية الإعلام البرلسكونية دفع بهذه العادات المشبوهة الى أجهزة التلفزيون من خلال تضخيمها. وانتهت البرامج الحوارية التلفزيونية لبرلسكوني بالانتشار على قنوات الراي العمومية. وكان دونالد ترامب، من جانبه، رائدًا في تلفزيون الواقع، لا سيما بعبارته الشهيرة “أنت مطرود”، وسرعان ما تبنّى تويتر باعتباره المحرك الرئيسي لتعبيره. ويشترك الاثنان في الاستمتاع بوضع أنفسهما في الصورة والمشهد، بدون فلتر.
لكل هذا، تكمن قوة هذه التجارب السياسية في وصفة بسيطة إلى حد ما: كان عليهما أولاً كسر القواعد القديمة للحياة السياسية. ومحى سيلفيو برلسكوني تمامًا إرث الطبقة السياسية قبل عام 1992، بينما كان يبني خليطًا أكثر دقة مما يبدو بين العناصر القديمة والجديدة. لقد خاطب نواة انتخابية قوية، متجاوزا في بعض الأحيان أبجديات العقلانية، جاعلا من الناخب مستهلكًا. كما شخصن سلطته إلى أقصى الحدود، ملتفّا أو ساعيا للالتفاف على مؤسسات مثل العدالة، وفي تحدٍ للشرعية في بعض الحالات. لقد انقلب على الانقسامات القائمة بمانوية لا حدود لها، وبتمويه حقيقة عمله ونتائجه.
في أمريكا التي تضررت بشدة من أزمة 2008-2009، فعل دونالد ترامب نفس الشيء. لا يترك النظام الانتخابي الأمريكي أي مجال تقريبًا لصعود سياسي يتجاهل الحزبين الكبيرين -الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي -وقد قاس ترامب حدود تجربة روس بيرو، المرشح الرئاسي مرتين أو جيسي “ذا بودي” فينتورا، انتخب حاكم مينيسوتا عام 1998 عن حزب بيرو، حزب الإصلاح، ومنذئذ أصبح منظّرًا يغازل نظريات المؤامرة... وربما يكون نجاح فينتورا الباهر مساء منتصف المدة عام 1998، قد أطلق شكلاً من أشكال الترامبية قبل اوانها، ونبّه إلى احتمال حدوث اختراق لمرشحين في قطيعة مع استبلشمنت الحزبين الرئيسيين.
نحن نعلم أن برلسكوني وترامب هما، أولاً وقبل كل شيء، باعثي عقارات. وليس من قبيل الصدفة أن يكون الأمريكي مرتاحًا جدًا لدور باعث الجدار على الحدود المكسيكية (“ابن ذلك الجدار”)، الذي سجله متواضع من حيث البناء. وعند حدوث كارثة لاكويلا عام 2009، كان برلسكوني هو من أخذ زمام المبادرة في إعادة بناء المدينة بعد الزلزال الذي أودى بحياة 290 شخصًا، وذهب إلى حد تنظيم حفل تلفزيوني لتسليم المفاتيح لأصحابها، حفل مشكوك في مذاقه. ولئن تعثر كل من ترامب وبرلسكوني في أزمة صحية أو كارثة طبيعية، فإنهما يكشفان عن الأهمية المتزايدة للقرارية في الحياة السياسية، اتخاذ القرار الذي جسده ماتيو رينزي لبعض الوقت، ويمكن العثور عليه أيضًا في الموقف السياسي لنيكولا ساركوزي أو لاحقًا مانويل فالس.
برامج حوارية، وشبكات اجتماعية، احداث متنوعة، وصحافة شعبية ...
لم يعد من النادر أن نرى هذا السياسي أو ذاك في برنامج “لا تلمس جهاز تلفزيوني” لسيريل حنون. نفسهم كانوا عام 1994، فزعين ومنزعجين بسبب ابتذال برامج بداية عصر برلسكوني. ففور ظهورهم على الهواء، تتالى سلسلة من التغريدات الفظة والعنيفة، والتي تترجم بلا شك تحدٍ عنيف للقواعد الديمقراطية.
لقد استسلم اليمين الفرنسي منذ فترة طويلة لأبواق البرلسكونية، دون أن يكون لديه مع ذلك الموارد المادية والإعلامية لتقليده بالكامل. عام 1994، لم يخف وزير حكومة إدوارد بالادور، آلان مادلين، حماسه أمام نجاح الائتلاف الذي أوصل سيلفيو برلسكوني إلى السلطة. وعام 1995، شكل حزب التجمع من أجل الجمهورية الوحيد في البرلمان الأوروبي مجموعة مع البرلسكونيين المنتخبين في يونيو 1994. وعام 2001، كرر نفس الحماس امام انتصار نفس الائتلاف. وتحدث إدوارد بالادور عن “مثال يحتذى”. كما دعا كلود غواسغن، جاك شيراك إلى “استلهام” تجربة برلسكوني.
ما يكشفه السياسيون خاصة، هو افتتانهم بالمدى الذي اخذه التلفزيون في الحياة السياسية. بعد ذلك وبسرعة كبيرة، تبنى اليمين الفرنسي الوصفة البرلسكونية: الانفتاح والقطيعة. نيكولا ساركوزي وسيلفيو برلسكوني غير معروفين بصداقتهما المتبادلة، لكن من الواضح أن صعوده السياسي بين 2005 و2007 استعار رموز وصفات فورزا إيطاليا عام 1993. وما ينقص اليمين الفرنسي هو الربط بين قوة مجموعة، مثل فينينفيست / ميدياست، وتجسيد قادر على إعادة إنتاج النمط البرلسكوني.
ظهر ترامب في الساحة السياسية مثل برلسكوني. لقد أذهل جزءً من اليمين، ولكن من الغريب اليسار الفرنسي أيضًا، ويبدو هذا الأخير أكثر اهتمامًا بنتائج مركز اقتراع في أوهايو منه بنتائج ليموزين.
اندماج المستهلك والناخب
كان سبب الاضطراب العميق في حياتنا السياسية هو النظام الأولي للجمهورية الخامسة والهيمنة التي مُنحت لرئيس الجمهورية، خاصة بعد عام 1962، ولكنها أدت تدريجياً إلى تحول رئيس الدولة إلى صانع المطر حيث تتمثل مهمته في معرفة كل شيء وحل كل شيء. وفي سياق تدهور اقتصادي، اثار صانع المطر الغضب، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، تمكن من تجنيد عدد كبير من المتعاطفين في نوع من محكمة شعبية كبرى لعيوب ومآزق الحكومات السابقة.
مع برلسكوني، تم بيع الحلم بجميع أشكاله: رحلات بحرية سياحية، ووعود رائعة بان إيطاليا تشهد ولادة “جيل الألف يورو”. ظهوره، مثل السطوة التي تمارس على جزء من صحافة المشاهير أسفل وما وراء جبال الألب، يسحر. إن قرب “ميمي” مارشان، إمبراطورة صحافة المشاهير، من الرئيس ماكرون، يؤكد هذا الاتجاه الثقيل الذي، لئن كان قديماً، فقد ارتفع بشكل مذهل بفضل الاستخدامات القادمة من شركة برلسكوني. منذ عام 2007، سعى المرشحون الرئاسيون إلى ان يكونوا على الصفحة الأولى لأكشاك الصحف بدلاً من التفاعل مع القوى الاجتماعية في البلاد... لقد اندمج المستهلك والناخب. في نهاية فترته الرئاسية، وقع نيكولا ساركوزي فريسة عدة قضايا قانونية، كما يشتبه في رغبته في العودة إلى الساحة السياسية، ونتيجة لذلك نتحدث عن “برلسكونته”. لقد استطاع نيكولا ساركوزي الاعتماد على أصدقاء يمتلكون وسائل إعلام، ولكنه ليس صاحب وسائل إعلام، ان ما يميزه عن برلسكوني: انه ليس سيد التدفقات.
يعمل برلسكوني وترامب بنفس الطريقة: جملة، تعبير جدلي يركز عليهما الانتباه، وفي كل مرة يهدمان ما بدا أنه توافق وإجماع في الحياة السياسية والاجتماعية حتى ذلك الحين. بدعوى التحدث لأغلبية صامتة، فهما يحددان شروط النقاش، حتى ان لم يكن هذا الاخير ذا أهمية كبرى أو لم يكن حاسما بالنسبة للبلد. وأدى وصول تويتر إلى زيادة هيجان المناقشات التي بدأت. واليوم، يحتاج المرء فقط إلى النظر إلى الشبكة الاجتماعية المعنية ليرى أن الرموز الترامبية قد طبعت القوس السياسي بأكمله.
يستخدم كل من برلسكوني وترامب المانوية الجامحة. برلسكوني، كما يشرح بيير موسو، أسس إمبراطوريته الإعلامية وأنتج نوعًا من الأيديولوجية التي تحل محل الثقافات الشيوعية والكاثوليكية التي دخلت في أزمة. واعتمد على كراكسي لفرض قنواته التلفزيونية امام قنوات الراي العمومية، وقطّر كلامه ووعوده، وأحلامه، منتقلا بسعادة من المجال التجاري إلى المجال الرمزي. وفي فترة انهيار الهويات السياسية، من المضر، بقدر ما هو منطقي، أن نرى الممثلين المنتخبين للجمهورية، والقادة السياسيين، يندفعون إلى هواتفهم الذكية للتغريد والتعليق فورا على أي خبر عابر: وكلما كان هذا الاخير فظيعًا، كان التفسير عنيدا، ومتسرعا دائمًا، وغالبًا ما يكون غير دقيق، وفي النهاية، غير لائق.
إن القاسم المشترك بين ترامب وبرلسكوني هو أنهما ظهرا في أوقات الأزمات العالمية. أحلام، مانوية، وعود تجارية، تبسيط شديد للخطاب تتراكم كلها، وكما يشرح بيير موسو، تمكن برلسكوني من “بيع حزبه” للإيطاليين.
من عام 2004 إلى عام 2014، كان برنامج “المبتدئ” على شبكة” ان بي سي”، نوعًا من “لوفت ستوري” محترف، يجمع معًا في نفس الجناح من برج ترامب، متنافسين يطمحون للانضمام إلى شركة ترامب. دونالد ترامب، المنتج المشارك لهذا البرنامج التلفزيوني، “يطرد” المرشحين بشكل فجّ (“أنت مطرود”) وينتقل إلى مواضع المنتجات. باختصار، في فرنسا، تم إنشاء نسخة من العرض عام 2015، وفي دور ترامب، نائب حركة الجمهورية الى الامام المستقبلي، برونو بونيل.
في فرنسا، لم يتم الوصول إلى درجة “الكمال” في المشروع البرلسكوني. ومع ذلك، لا يزال الانبهار بالشاشة الصغيرة، كشكل من أشكال ثقافة الصدام، والبوز، مما يشير إلى زيادة العنف اللفظي في النقاش السياسي. وتختلط في فرنسا رموز الاداء والادانة والذم والسب. لقد سحر برلسكوني وترامب بشكل يتجاوز ما يمكن تصوره، وقد ساعدا في غرس رموز عنيفة وقاتلة في المجتمع... حتى الكارثة؟
عضو مرصد الراديكاليات السياسية في مؤسسة جان جوريس، باحث في العلوم السياسية، متخصص في اليمين والأبعاد الثقافية للسياسة، ومؤلف العديد من البحوث منها “الى اللقاء غرامشي” (منشورات سارف 2015).