فقدان المعايير يؤدي إلى تقدم أطروحاته:

هكذا يفوز اليمين المتطرف بمعركة الأفكار...!

هكذا يفوز اليمين المتطرف بمعركة الأفكار...!

-- من صفات كوركوف أنه يحرص على تحديد مفاهيمه ولا يقع في دائرة النميمة والإدانة
-- إن مناهضة الساركوزية للفكر وصورها الرمزية لها سمات مشتركة مع الترامبية
-- فقدان المعايير يؤدي إلى تقدم أطروحات اليمين المتطرف
-- شرح منهجي للعمليات التي أدت إلى الانتصار الفكري لليمين المتطرف في فرنسا
-- اليسار الذي يستسلم للتقاطعات المشوشة  مـع المحافظين المتطرفين أصبــح عاجــزًا


«الارتباك الكبير -هكذا يفوز اليمين المتطرف في معركة الأفكار”، الذي كتبه فيليب كوركوف، يقدم نظرة عامة مثيرة للاهتمام لعالم الأفكار الحالي وميله إلى الاستسلام، طوعًا أم كرها، لمنطق اليمين المتطرف.    عالم اجتماع، ومؤلف العديد من الكتب، لم يخفِ فيليب كوركوف أبدًا التحالف الذي مارسه دائمًا بين الخطاب الأكاديمي والخطاب المناضل، وهو تمرين مارسه منذ بداية دراسته في علم الاجتماع ومن حيث التزامه السياسي.   

في البداية، كان عضوًا في مركز الدراسات والبحوث والتربية الاشتراكية، تيار الإدارة الذاتية لـ “الحزب الاشتراكي في ايبيناي”، بقيادة جان بيير شوفنمان وديدييه موتشان، مرّ عبر حركة المواطنين، وانضم إلى الخضر، ثم التحق بالرابطة الشيوعية الثورية، وبالتالي الحزب الجديد المناهض للرأسمالية، وأخيراً الاتحاد الأناركي.     يتبنى فيليب كوركوف تطوره -وهو محق –ولكنه يتبنى أيضًا تناقضاته. وتبقى الحقيقة أنه من التسعينات إلى اليوم، يظل أحد أكثر الممثلين الفرنسيين رمزية للفكر النقدي، وأنه يتمسك بتوضيح ما يعرضه بتوسّع واسهاب، وفي هذه الحالة، حول انتشار خلط وتشويش مستوطن في الفضاء العام.

منظّر ينتقد المرتبكين
    إنه كمنظّر نقدي، يطرح هذا العمل الجديد المهيب الذي هو الارتباك الكبير. ومن الواضح أن جودة نوع العمل الذي قام به كوركوف في هذا الكتاب الجديد تقاس بجودة العرض ووضوح الكتابة، ولكن أيضًا بعدد الحواشي والمراجع التي تؤكد دراسة متأنية وموسّعة جدا للموضوع. وليست هناك حاجة للموافقة على كل أطروحاته للانتباه والاعتراف بذلك. لكل هذا، يسعى الكتاب الى أن يشرح “كيف ينتصر اليمين المتطرف في معركة الأفكار».

    انطلاقا من أفكارهم وليس من القيل والقال أو الانطباع البسيط، يحاول كوركوف إن لم يكن تحديد التولّد الاجتماعي لتحوّل كبير نحو اليمين لفضاءاتنا العامة، على الأقل، تأسيس جينيالوجيا ممكنة. يعمل عرضه على دفعات متتالية. الثلاثي الأول الذي تم فحصه، قد يبدو مختلفًا الى درجة أننا نشك في أنهم متباينون تمامًا: جاك جوليارد وفريديريك لوردون وماثيو بوك كوتيه. لكوركوف علاقة بعيدة بما يكفي مع مفهوم الأمة الى درجة أن هجومه على هذا الثلاثي، الذين يراهم من المرتبكين، مكتوم بقدر ما هو حاسم لفهم بقية الكتاب.

    أدى التركيز، على الأمة وجعلها صنما يُعبد من قبل الأولين -جوليارد ولوردون -إلى توحيد “قومية متطرفة محافظة” استوردها الثالث من كيبيك. قد يبدو تفسير نصوصهم نسبيًا جزئيًا، لكن حدس كوركوف حول “ضبابية المعايير السياسية”، يصبح أكثر وضوحًا من خلال وضعها في منظورها من قبل عالم الاجتماع، الذي يوضح بالتالي كيف أن فقدان المعايير هذا يؤدي إلى تقدم أطروحات اليمين المتطرف.

اليمين الجديد، الجمهوريون القوميون، إلخ
   لئن ثبت الاحترام الفكري من جانب فيليب كوركوف، لألان دي بينويست، مفكر اليمين الجديد، فإن المكانة التي يمنحها له في عملية التشويش تبدو مبالغ فيها إلى حد ما. في المقابل، إنه يشكك في تطورات أخرى، منها تطورات أحد مؤسسي التيار الذي انتمى إليه في شبابه، وهو جان -بيير شوفنمان، أو مارسيل غوشيه، تمشيا مع اعمال دانيال ليندنبرغ أو عمل لوديفين بانتيجني. ويرى كوركوف أن هذا التطور يرمز إلى التحول إلى اليمين، وكيف كان يعمل بشكل ثابت لأكثر من عقدين من الزمن من خلال استهداف جان بيير شوفنمان ونظريته القومية-الجمهورية (أو “السيادية القومية”، حسب جوستين لاكروا).

   وهكذا، في عرضه حول تأثير الارتباك، حدد كوركوف كلاً من حركة المواطنين التي انتمى إليها، ومؤسسة 2 مارس (مؤسسة مارك بلوخ السابقة) أو تيار جمعية مناهضة العولمة أتاك، بقيادة برنارد كاسن، المدير السابق للوموند ديبلوماتيك والمؤسس المشارك للمنتديات الاجتماعية الدولية؛ كما يشير إلى تطور إليزابيث ليفي، راعية كوزور، التي سيعلم قارؤها الجاهل بأنها كانت قريبة من الدوائر التروتسكية منذ ما يزيد قليلاً عن عقدين. إلا أن العرض تعثر في وقت ما بين هجمات 11 سبتمبر 2001، وسقوط بغداد في 9 أبريل 2003.

    لحظة تشمل الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2002، وحادثة “21 أبريل” الشهيرة، وهي الفترة التي شهدت تشابك العديد من أبطال حملة شوفنمان في نقاش أثّر فيه المحافظون الجدد الأمريكيون. ففي حين قال بعض المؤيدين السابقين لـ “تشي” “لا” لـ “لا للحرب”، التي عبّرت عنها الشعوب الأوروبية والثنائي الفرنسي الألماني، أظهر آخرون واقتربوا من دعاة العولمة. وهذا بلا شك ضعف نسبي في عرض كوركوف، الذي يشير مع ذلك إلى مفارقة أكثر راهنيّة، وأكثر إثارة للاهتمام على الفور، التقاء شخصيات مثل جاك جوليارد مع الشوفانمية الحالية.

من الساركوزية إلى
“اليسار الترامبي”: تحلّل؟
   يتم تحليل الساركوزية ببراعة سواء من حيث تشوّش العلامات المرتبطة بالانفتاح على اليسار، والقطيعة التي تقرّب بين اليمين وأقصى اليمين على وجه الخصوص. إن مناهضة الساركوزية للفكر، وصورها الرمزية (التي يسميها كوركوف “النقد المفرط”) لها سمات مشتركة مع الترامبية، لكن النقد المفرط يؤثر على دوائر أخرى غير تلك التي غزاها الرئيس الأمريكي السابق.
   ويشير كوركوف أيضًا إلى الترفيه، مع “لي غينيول دو لانفو”(دمى الاخبار بالعربية)، الذي ينتقده بسبب الشخصنة المفرطة للنقد، أو نقد وسائل الإعلام الذي يلامس أحيانًا التآمرية في منشورات مثل للقراءة لا يقرا وخطة ب. ويرى فيها كوركوف، من نواحٍ معينة، منطلقات نظريات المؤامرة، التي أصبحت الآن تستوطن الإنترنت.

   إن نقد فريديريك لوردون، مثل أصدقائه في صحيفة لوموند ديبلوماتيك، سيرج حليمي وبيير ريمبير، نقد راديكالي تمامًا من حيث الجوهر والأسلوب. وهكذا كتب فيليب كوركوف عن مدونة لوردون “مضخة فينانس”، أن الأمر يتعلق بـ “تشكيل استياء برجوازي صغير باسم “الشعب” من خلال وضعية الغطرسة المفرطة للمهيمن نتيجة تجربة عضو من البورجوازية الثقافية قادم من البرجوازية الاقتصادية”. وهو ما يتوافق، تقريبا، مع سلوك لوردون في قلب نوي ديبو عام 2016.

   وبحسب كوركوف، فإن خطأ بعض اليسار، فيما يتعلق بنظريات المؤامرة، سيجسده لوردون الذي جعل من نفسه رسول “تشويه انتقاد المؤامرة».    ومن ميزات كوركوف، أنه يحرص على تعريف مفاهيمه، ولا يسقط في النميمة أو التنديد حتى وهو يشير إلى الذين تبدو له مواقفهم أو تطورهم أو أخطائهم المحتملة، من أكثر علامات التشويش والخلط التي يشجبها. ويبدو أن خطاب بعض اليسار حول الليبرالية الجديدة القائم على الشيطنة يثير الشكوك بالنسبة له، بقدر ما تبدو تأثيرات الليبرالية الجديدة التي يسميها “ما بعد الفاشية”، نسبية قياسا للقضية الأولى (الليبرالية الجديدة).

   ويشير كوركوف أيضًا، إلى الخلط وارتباك نظرية المؤامرة أثناء حركة “السترات الصفراء”، أو أثناء جائحة كوفيد -19 مع الحركة المناهضة للكمامات على وجه الخصوص. وهكذا، في مناسبات عديدة، تمكنت المؤامرة، وفقًا لكوركوف، من اختراق اليسار، بما في ذلك الاشتراكيون أثناء قضية دومينيك شتراوس كان، أو مع تطوّر كلود أليغر، الناخب المعلن لنيكولا ساركوزي عام 2012، والمشكك في المناخ كما هو معروض حتى في المكتبات. كما ان فرنسا المتمردة نفسها متهمة.

   وببراعة حقيقية، يتم تناول مسألة الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية أيضًا في قطب أقصى اليسار من الفضاء العام. وحول هذه النقطة الأخيرة، يستهدف المسؤولية الفكرية لفريديريك يوردون، الذي لا يشك، بأي حال من الأحوال، في عدم معاداته للسامية، في بناء خطاب خطير، لأنه هش، يجعل من معاداة السامية إحدى طرق عدم أهلية الاحتجاج على النظام الاجتماعي السائد. وفي كل هذه المواضيع، يتحدث كوركوف محقا عن “الاستقطاب المانوي” الذي يجعل اليسار عاجزا.

   تمت الإشارة أيضًا للأخطاء الترامبية لجزء من اليسار. في الواقع، تعامل كوركوف بحذر مع “الترامبية اليسارية الغريبة على الطريقة الفرنسية”. واستهدف مواقف إغناسيو راموني ولوران بوفيه وجان لوك ميلينشون وإيمانويل تود وجان كلود ميتشيا وأرنو مونتبورغ ... لخلطهم، حسب قوله، انتصار ترامب بتحليلات من نوع “انتصار الشعب ضد النخب”، “الأعداء هم (تقريبًا) أصدقائي”، أو حتى “القومي هو الخير، والعولمي هو الشر”، كل ذلك كان سيؤدي إلى خلط خطير مع اليمين المتطرف. ودعونا نضيف إلى ظاهرة ترامب، التي وصفها كوركوف، ظاهرة قديمة أخرى لم تتم معالجتها: دور برلسكوني والبرلسكونية طيلة أربعين عامًا في أوروبا، والتي، من اليسار الميتراني إلى اليمين الساركوزي في فرنسا، طبعت الفضاء العام برموز جديدة، وكانت عواقبها هائلة وحاسمة.

كوركوف وإريجون وموف
   في كثير من الأحيان، تكون المناظرات الفرنسية حول “الشعبوية اليسارية” منحازة بسبب حقيقة أن قلة من الناس قد قرأوا أنطونيو غرامشي، أو الأعمال الرئيسية لإرنستو لاكلاو وشانتال موف، أو أعمال مؤسسي بوديموس، حزب اليسار الراديكالي الإسباني.
   إن نقدهم صارم بقدر ما هو محفّز، وخالٍ من الإيحاءات الافترائية المعتادة الآن في النقاش العام. ولفهم “الشعبوية اليسارية”، علينا العودة إلى كتاب لاكلاو وموف “الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية” الذي يفتح، على وجه الخصوص، منظورا يحمل مشروعا “لديمقراطية راديكالية وتعددية”، من خلال الأخذ في الاعتبار تعددية الحركات الاجتماعية، وانطلاقا من مناهضة النزعة الجوهرية.

   في الآونة الأخيرة، تناولت شانتال موف، مع إينيغو إيريخون، الهيمنة على أنها مسألة خطاب. وما تنتقده، في نهاية المطاف، بعد عرض مدعوم، ولكنه مثير بقدر ما يستحق النقاش، هو في الواقع الميل الذي يعتقد كوركوف أنه يكشف عن “ميل متناقض” ما بعد حداثي نحو جوهرية اللحظة”، بالإضافة إلى حقيقة أن “الوحدة” حولت تدريجيا الى مصاص دماء ما كان يشكل قوة أطروحات موف ولاكلو عام 1985: المرجع الليبرتاري. ومع ذلك، لنلاحظ أن إينيغو إيريخون، المؤلف المشارك لكتاب الشعبوية اليسارية، مخلص تمامًا لهذه الإشارة في ممارسته السياسية في البرلمان الإسباني، على رأس التحالف الصغير ماس بايس -إكو (الخضر الإسبان).

بوصلة مثيرة للاهتمام
   ان الملاحظة، المفصلة والمدعّمة على نطاق واسع، هي هنا: اليسار بكل انواعه، المستقطب، المانوي، الذي يستسلم لـ “التقاطعات المشوشة مع المحافظين المتطرفين”، أصبح عاجزًا. ومع ذلك، بالنسبة لكوركوف، هناك حاجة ملحة لإعادة اختراع “يسار تحرري يتمتع ببعد روحي، من خلال إعادة الاستثمار في مسألة معنى وقيم الوجود».
   ومع هذا التأليف المهيب، فإنه يوفر نافذة فكرية ونظرية منعشة في لحظة معرضة لتقاطعات خطرة بين اليسار واليمين، وتثقلها حياة فكرية وسياسية لا تقوم على الراديكالية الديمقراطية بل بمطر يومي من الخلافات العبثية، ومحاكمات أيديولوجية سيئة الأحكام، واشتباكات، وتغريدات بغيضة، وهرسلة ومضايقات رقمية، وخصوصا، العجز التام للسياسة، ومن باب أولى، لأي حركة محرّرة. ان كتابه وثيقة تنويرية، وبوصلة مفيدة، ودعوة إلى نقاش مدني مستنير بالعقل.

*عضو مرصد الراديكاليات السياسية في مؤسسة
جان جوريس، باحث في العلوم السياسية، متخصص في اليمين والأبعاد الثقافية للسياسة، ومؤلف العديد من البحوث منها “إلى اللقاء غرامشي”
(منشورات سارف 2015).