مدفوع بواقع جيوسياسي متغير
هل ينتظر قطاع الدفاع في أوروبا «عصراً ذهبياً»؟
يشهد قطاع الدفاع في أوروبا تحولات متسارعة، مدفوعة بواقع جيوسياسي متغير، حيث تتصاعد الضغوط على الحكومات الأوروبية لتعزيز إنفاقها العسكري في مواجهة تنامي التهديدات الأمنية، خاصة بعد التوترات المتزايدة في أوكرانيا والتقلبات في العلاقات عبر الأطلسي.
دفع هذا المشهد المستثمرين إلى إعادة النظر في استراتيجياتهم، مع تزايد الرهانات على شركات الدفاع الكبرى، مما انعكس على أداء أسهمها في الأسواق المالية.
ويسجل القطاع أوروبا أداءً إيجابياً، مع قيام المستثمرين بزيادة رهاناتهم على أن الحكومات في مختلف أنحاء القارة سوف تضطر إلى تعزيز الإنفاق العسكري وتحمل المزيد من العبء عن أمنها، وهو ما انعكس على أسهم شركات مثل راينميتال (أكبر شركة دفاعية في ألمانيا) والتي ارتفعت بنحو 80 بالمئة منذ بداية العام.
تستفيد شركات دفاع أوروبية مختلفة من هذا الزخم، مثل أسهم تاليس المدرجة في باريس، وأسهم بي إيه إي سيستمز، وكذلك أسهم ساب السويدية.
في هذا السياق، نقل تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية عن كبير استراتيجيي السوق في زيوريخ، جاي ميلر، قوله "من الواضح أن هناك حاجة إلى إنفاق دفاعي محدد وهناك رغبة في تمويل هذا من منظور المستثمر".
تعززت هذه التحركات بعد قمة الأحد للزعماء الأوروبيين في لندن، حيث تقود المملكة المتحدة وفرنسا محاولات لإنقاذ آمال التوصل إلى اتفاق سلام في أوكرانيا بعد الخلاف المتفجر بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي يوم الجمعة.
ويواجه الزعماء الأوروبيون ضغوطا متزايدة لتعزيز الإنفاق الدفاعي بعد أن رفضت إدارة ترامب تقديم ضمانات أمنية أميركية، والتي تعتبر على نطاق واسع بمثابة رادع ضروري لأي عدوان روسي في المستقبل.
وقال الخبير في شركة جيفريز، موهيت كومار، إن المستثمرين مقتنعون بأن "أوروبا ليس لديها خيار سوى زيادة الإنفاق الدفاعي"، وفق الصحيفة البريطانية.
ويدرس صناع السياسات الأوروبيين عدة خيارات لزيادة الإنفاق، بما في ذلك إنشاء بنك أوروبي لإعادة التسلح للاستفادة من مجمع الادخار الأوروبي على غرار البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية.
وفي هذا السياق، اقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إنشاء صندوق جديد يمكنه أن يحشد ما يقرب من 800 مليار يورو (842 مليار دولار) للاستثمارات الدفاعية بالاتحاد الأوروبي، بما في ذلك المساعدات العسكرية لأوكرانيا.
وتصاعدت الضغوط على الاتحاد الأوروبي لزيادة الإنفاق الدفاعي والمساعدات لأوكرانيا بشكل كبير بعدما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الاثنين، أنها ستعلق مؤقتا المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا.
وأضافت رئيسة المفوضية "نحن في عصر إعادة التسلح، وأوروبا مستعدة لتعزيز إنفاقها الدفاعي بشكل كبير".
ثقة متزايدة بقطاع الدفاع
من برلين، يقول خبير العلاقات الاقتصادية الدولية، محمد الخفاجي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن تصريحات القادة الأوروبيين بشأن زيادة الإنفاق الدفاعي لها تأثير إيجابي واضح على شركات الدفاع، مشيراً إلى عدة شواهد تدعم هذا الاتجاه.
من بين أهم تلك الشواهد ما يتعلق بالارتفاع الذي شهدته أسهم شركات الدفاع، مشيراً في الوقت نفسه لارتفاع أسهم تلك الشركات بنسب متفاوتة منذ بدء الحرب في أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير من العام 2022، وبما يعكس ثقة المستثمرين في هذا القطاع.
وكانت دفاتر الطلبات لبعض شركات الدفاع الأوروبية قد وصلت بالفعل إلى مستويات قياسية في أعقاب بدء الحرب في أوكرانيا في العام 2022.
تضاف إلى تلك الشواهد أيضاً زيادة العقود والمبيعات، باعتبار أن الارتفاع في ميزانيات الدفاع ينعكس على زيادة العقود العسكرية، مستشهداً بتخصيص ألمانيا 100 مليار يورو لتعزيز جيشها، مما يؤدى إلى ارتفاع الطلب على دبابات ليوبارد التي تنتجها شركة Rheinmetall على سبيل المثال.
كما يلفت إلى أن التطورات في قطاع الدفاع لم تقتصر على المبيعات فقط، بل شملت استثمارات واسعة في البحث والتطوير، خصوصاً في مجالات الذكاء الاصطناعي العسكري، الطائرات بدون طيار، والحروب الإلكترونية، موضحاً في الوقت نفسه أيضاً أن السياسة الدفاعية الجديدة تعزز الاندماجات بين شركات الدفاع الأوروبية، كما هو الحال في مشروع FCAS (نظام القتال الجوي المستقبلي)، الذي يجمع بين فرنسا وألمانيا وإسبانيا، ما يسهم في تحقيق تكامل صناعي أوروبي أقوى في هذا المجال.
ويسعى المستشار الألماني المنتظر فريدريش ميرز إلى الإسراع بإقرار زيادة بمليارات اليورو لميزانية الدفاع في البلاد. وهو يريد الحصول على موافقة الحزب الديمقراطي الاجتماعي من يسار الوسط لاستخدام البرلمان المنتهية ولايته للتصويت على التعديل الدستوري المطلوب لتعزيز الإنفاق العسكري بما يزيد على 100 مليار يورو. وقال روبن وينكلر، الخبير الاقتصادي في دويتشه بنك: "يبدو أن هناك تحولاً نموذجياً يحدث في ألمانيا"، وفق الصحيفة البريطانية.
ومع ذلك، حذر بعض المحللين من أن رد الفعل الأولي للسوق كان مبالغا فيه مطلع الأسبوع الجاري، نظرا لأن السياسة المالية الأوروبية كانت تميل إلى التقدم ببطء، في حين تم توزيع الإنفاق المقترح على مدى عدة سنوات.
وقال توماس ويلديك الخبير الاقتصادي في شركة تي رو برايس لإدارة الأصول: "من المرجح أن يكون ارتفاع الإنفاق الدفاعي بطيئا وثابتا، وليس على النحو الذي تتوقعه الأسواق".
عقبات اقتصادية وسياسية
من بروكسل، يقول خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:
شركات الدفاع ومصانع الأسلحة الأوروبية ستكون المستفيد الأول في حال موافقة رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي على إنشاء جيش موحد وزيادة نسبة الإنفاق العسكري إلى 4 أو 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء.
من بين التحديات الكبرى في حال اتخاذ هذا القرار هو قدرة المصانع الأوروبية على تلبية الطلبات العسكرية المتزايدة للدول الأعضاء، وهو أمر قد يكون صعباً في المدى القريب.
الدول الأعضاء ستظل تعتمد على شراء الأسلحة من الولايات المتحدة وربما من دول أخرى، نظراً لأن الطاقة الإنتاجية الحالية للمصانع الأوروبية لا تكفي لتغطية هذه الاحتياجات بشكل فوري. يشير بركات إلى أن ثمة تساؤلات حول مدى توفر المواد الأولية اللازمة لتصنيع الأسلحة داخل الاتحاد الأوروبي، معتبراً أن هذا قد يشكل عائقاً إضافياً، موضحاً أن الأنشطة العسكرية للدول الأعضاء حالياً مرتبطة بأنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي تعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا العسكرية الأميركية، ما يجعل الانتقال إلى نظام دفاعي أوروبي موحد أمراً معقداً وليس بالسلاسة المتوقعة.
ويلفت خبير الشؤون الأوروبية في الوقت نفسه إلى العقود الموقعة بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً تلك المتعلقة بشراء الطائرات الحربية الأمريكية، لا سيما أن هذه العقود غالباً ما تمتد لسنوات طويلة وتشمل ليس فقط توريد الطائرات، بل أيضاً تصنيع بعض أجزائها داخل المصانع الأوروبية، مما يجعل من الصعب على الدول الأوروبية فك الارتباط الكامل مع الولايات المتحدة في هذا المجال
كما يقول إن هذه العقود لا تقتصر على شراء الطائرات، بل تشمل أيضاً اتفاقيات صيانة للطائرات الحربية ولأنظمة الأسلحة المتطورة، مثل الصواريخ العابرة للقارات وغيرها، مما يزيد من تعقيد مسألة تقليل الاعتماد الأوروبي على الولايات المتحدة.
ويضيف: "مسألة تقليل الاعتماد الأوروبي على الولايات المتحدة في المجالات العسكرية والصناعية تحتاج إلى حلول عملية ومعقدة، نظرًا لتشابك المصالح والالتزامات طويلة الأجل بين الطرفين".
إنفاق أعلى
ويزعم مسؤولو الدفاع في أوروبا منذ فترة طويلة أن الإنفاق على الأسلحة ينبغي أن يكون أعلى، كما أن احتمال إلغاء الولايات المتحدة لدعمها جعل السياسيين ينتبهون إلى هذا الأمر، بحسب تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية.
ونقل التقرير عن الخبير الاقتصادي في بنك بيرينبرغ الاستثماري، هولجر شميدينج، قوله: "يتعين على أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص ــ ومن المرجح أن تفعل ذلك ــ زيادة الإنفاق الدفاعي لأنفسها وكذلك لأوكرانيا بما يتجاوز الخطط الأخيرة. وقد تعهدت المملكة المتحدة والنرويج بالفعل بتقديم دعم إضافي لأوكرانيا. ومن المرجح أن تفعل ألمانيا ذلك قريبا".
أعلن رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر الأسبوع الماضي أن المملكة المتحدة ستزيد إنفاقها على الدفاع إلى ما يعادل 2.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، أي قبل ثلاث سنوات من المخطط له وبزيادة عن 2.3 بالمئة. وسيتم تمويل الزيادة في الإنفاق على الأسلحة من خلال خفض مثير للجدل للغاية في إنفاق المساعدات الدولية .
ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأوروبيين إلى زيادة الإنفاق الدفاعي السنوي إلى أكثر من 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لمواجهة التهديد من روسيا . ويجري المستشار الألماني الجديد المحتمل فريدريش ميرز أيضًا محادثات لدفع زيادة الإنفاق الدفاعي.
وقال محللون في جي بي مورغان إن أحداث الأسبوعين الماضيين "عززت" أطروحتهم حول دورة إعادة التسليح الأوروبية، مع سعي القادة إلى تصنيع المزيد من معداتهم العسكرية واستيراد كميات أقل من الولايات المتحدة.
وقالوا في مذكرة، حسبما نقلت وكالة رويترز للأنباء: "هناك 30 دولة أوروبية في حلف شمال الأطلسي ونتوقع أن يلتزم العديد منها قريبا بإنفاق دفاعي أعلى كثيراً".