رئيس الدولة: خلاصة تجربة حياة شخصية وعملية ثرية لقائد ملهم لم يعرف المستحيل
اختبار إرادة الناتو.. هل تبني أوروبا درعها الصاروخي بعيدًا عن واشنطن؟
في الأسبوع الماضي، اخترقت نحو عشرين طائرة مسيّرة روسية المجال الجوي البولندي، محطمة أوهام الاستقرار النسبي في الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي «الناتو».
الحادثة، التي أسقطت خلالها الدفاعات البولندية ثلاث أو أربع طائرات فقط، ارتفعت معها «دقات» الإنذار في العواصم الأوروبية، من وارسو إلى لندن وبروكسل، وسط إدراك متزايد أن موسكو لم تختبر الدفاعات فقط، بل أرادت ترك «بصمة» واضحة على قدرة الناتو واستعداده، وفقًا لصحيفة «الغارديان».
وحذر اثنان من أبرز معدّي المراجعة الدفاعية الإستراتيجية في المملكة المتحدة، من أن الحادثة الأخيرة ليست مجرد توغل عرضي، بل رسالة روسية صريحة.
من جانبها، أكدت فيونا هيل، المستشارة السابقة للبيت الأبيض وعضو الفريق الذي صاغ التوجهات الدفاعية البريطانية، أن أوروبا «لا بدَّ أن تقيّم حقيقة أن عليها بناء نظام صاروخي ودفاع جوي متكامل بنفسها»، في وقت يكتنف الغموض التزام الولايات المتحدة طويل الأمد تجاه أمن القارة. منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مجددًا، زادت الشكوك داخل الناتو؛ فرغم استمرار واشنطن بالتصريحات التقليدية عن التزامها بالدفاع الجماعي، فإن كلماتها لم تعد مصحوبة بأفعال ملموسة على الأرض.
ويردد خبراء أن الولايات المتحدة لن تزيد انتشارها العسكري في أوروبا لمجرد ردع هجمات بالطائرات المسيّرة، بينما يفضّل ترامب التركيز على الداخل الأمريكي، بل وحتى نشر القوات في مدن مثل شيكاغو.
بالنسبة للأوروبيين، فإن توغل الطائرات المسيّرة في بولندا جاء في توقيت بالغ الحساسية، قبيل مناورات «زاباد 2025» الروسية-البيلاروسية، والتي اعتاد الناتو اعتبارها إشارات تمهيدية لأيّ خطوات عدوانية أوسع.
أما بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كانت هذه المناورة الجوية المحدودة وسيلة «لتعليم الدرس»: اختبار سرعة استجابة الدفاعات، قياس قدرات الاعتراض، وإرسال رسالة سياسية بأن موسكو قادرة على عبور الخطوط المرسومة متى أرادت.
بولندا في قلب العاصفة
في السياق، لم يُخفِ رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك غضبه؛
حيث وصف أن معدل الاعتراض المنخفض، رغم جاهزية الدفاعات وتعاون الحلفاء، يمثل ثغرة خطيرة قد تتيح لموسكو إلحاق أضرار جسيمة في المستقبل.
وعبرت بعض المسيّرات مسافات تجاوزت 100 ميل داخل المجال الجوي البولندي، وهو ما يعتبره القادة العسكريون مؤشرًا على أن الهجوم لم يكن خطأً ملاحيًّا، بل عملية متعمدة لإحداث ارتباك.
ورغم تصريحات روسية وبيلاروسية حاولت الادعاء بأن المسيّرات انحرفت عن مسارها بسبب «تشويش»، فإن الشــــــكوك لم تتــــرك لأحـــــــد مجالًا لتصديق تلك الذرائع.
وبالنسبة للحكومة البولندية، هذا كان عملًا استفزازيًّا مباشرًا، يهدف إلى هز ثقة حلف الناتو في قدرته على حماية كل «شبر» من أجواء أعضائه.
تسابق من أجل الدفاع الجوي
في لندن، استغل وزير الدفاع جون هيلي معرض DSEI للأسلحة ليؤكد أن بريطانيا يجب أن تكون «أكثر استعدادًا للقتال»، مشيرًا إلى مشروع «الأخطبوط» المشترك مع أوكرانيا، الهادف إلى تطوير أسطول من الطائرات المسيّرة لاعتراض المسيّرات الروسية من طراز «شاهد».
ويرى هيلي أن هذا المشروع لا يخدم كييف وحدها، بل يعد استثمارًا مباشرًا في أمن بريطانيا وأوروبا على حد سواء، حيث تكتسب لندن خبرة وحقوق ملكية فكرية في مجال التكنولوجيا الدفاعية الحديثة.
وقد أعلنت وزارة الدفاع البريطانية أنها تدرس تعزيز دفاعات بولندا بشكل مباشر، بما في ذلك احتمال إرسال طائرات تايفون إضافية للمشاركة في المراقبة الجوية شرق أوروبا؛ و6 طائرات من هذا الطراز كانت شاركت بالفعل في دوريات هذا الصيف ضمن مهام الناتو.
كما شدّد الجنرال البريطاني المتقاعد ريتشارد بارونز على أن الحادثة تؤكد «قصور الدفاعات الحالية»، مضيفًا أن التعامل مع مسيّرات بدائية عبر إرسال مقاتلات متطورة يُعتبر «مبالغة قاتلة التكاليف». والحل، من وجهة نظره، هو تحسين الدفاعات الجوية متوسطة ومنخفضة المستوى بسرعة قصوى، بحسب وكالة «أسوشيتد برس».
معركة سياسية وإستراتيجية
وذكرت «أسوشيتد برس» أن جوهر القضية يتجاوز مسألة تقنية عسكرية. بالنسبة لخبراء الأمن مثل جيمي شيا، المسؤول السابق في حلف الناتو، فإن بوتين يحاول إجبار أوروبا على اتخاذ خيار مصيري: الدفاع عن الناتو أو الدفاع عن أوكرانيا.
وفي الواقع، هذان المساران لا ينفصلان؛ فإذا تردد الأوروبيون في حسم الموقف، سيحصل الكرملين على «هدية إستراتيجية» تسمح له بزيادة الضغط على أوكرانيا وتفكيك وحدتها الطاقية والاقتصادية.
هنا يبرز التحدي الأكبر: بناء شبكة دفاع جوي أوروبية متكاملة سيكون ضروريًّا لكنه مكلف زمنيًّا وماليًّا؛ إذ إن معظم أنظمة الدفاع المتطورة التي طلبتها الحكومات الأوروبية تحتاج شهورًا، وحتى سنوات، قبل دخولها الخدمة. والوقت، كما يدرك بوتين جيدًا، يقف إلى جانبه.
لم تصل حادثة الطائرات المسيّرة إلى حد تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الناتو، لكن أهميتها لا تكمن في حجمها، بل في دلالتها؛ فهي تكشف أن الحلف، رغم إنفاقه المتزايد على الدفاع منذ 2022، ما زال يفتقر إلى الأنظمة المرنة والسريعة للتعامل مع «الحروب الرمادية» التي تشنها موسكو.
أوروبا اليوم أمام مفترق طرق؛ إمّا أن تبني درعها الدفاعية الجديدة على نحو موحّد وعاجل، مكملاً لمنظومات الناتو التقليدية، وإمّا تتعايش مع الاضطراب والابتزاز الروسي الذي يُختبر في أجواء بولندا اليوم وقد يمتد غدًا إلى فيلنيوس أو برلين أو حتى لندن.
في نهاية المطاف، لم تعد الطائرات المسيّرة الروسية مجرد تقنيات مقتصدة تثير الفوضى، بل أداة إستراتيجية يضع بها بوتين علامة واضحة على سماء أوروبا: الدفاع عن القارة بات شأنًا أوروبيًّا أولًا، وكل يومٍ من التأخير يمنحه ميزة إضافية.