أجبرته الأحداث والانتخابات على تغيير بدلته:
الانفتاح على الشرق، حلم فيكتور أوربان المجهض
• مع وصول سعر الغاز إلى ذروته، يعرف حزب فيدس أنه لا يمكنه المخاطرة بإثارة غضب ناخبيه الذين يعانون من التضخم
• عام 2014، اتخذ الانفتاح على الشرق منعطفًا ملموسًا للغاية بتكليف شركة روسية بتجديد المحطة النووية المجرية الوحيدة
• إلى جانب العقوبات، توقفت بودابست أيضًا عن منع تقارب كييف مع المؤسسات الغربية
• نجح فيكتور أوربان، بفضل إمبراطوريته الإعلامية القوية، في تحويل الحرب في أوكرانيا لصالحه
• يبدو أنه ضمن إعادة انتخابه في 3 أبريل، رغم أن مسألة أغلبية الثلثين في البرلمان لا تزال معلّقة
دفعت الحرب في أوكرانيا المؤيد لبوتين، فيكتور أوربان، إلى خط الحاجز دبلوماسيا. ولئن عززت صدارته في أفق الانتخابات التشريعية في 3 أبريل، فإنها أضعفت موقعه الدولي من خلال الكشف عن كل حدود "انفتاحه على الشرق". في صباح 24 فبراير، لا بد أن فيكتور أوربان قد استيقظ مستاءً جدا. فعندما كان العالم بأسره يعلم، مرتعبا، باندلاع الحرب في أوكرانيا، جمع رئيس الوزراء المجري رجاله على وجه السرعة: كيف يمكنه، هو المروّج الكبير للتقارب مع الكرملين وصديق فلاديمير بوتين، أن يتفاعل مع هذا الاضطراب؟
يسعى فيكتور أوربان للفوز بولاية رابعة على التوالي في الانتخابات التشريعية في الثالث من أبريل الجاري، ولا يجب أن ينقلب قربه من الكرملين ضده في
الامتار الأخيرة.
وبينما كان الشك يعشّش في صدر أوربان وقواته، لا شك في أن أحزاب المعارضة، بقيادة مرشحها المشترك بيتر ماركي زاي، كانت في قمة الابتهاج. وفي نفس المساء، اجتمعوا أمام السفارة الروسية، طبعا للتعبير عن دعمهم لأوكرانيا، ولكن خاصة لمهاجمة رئيس الوزراء، الذي أصبح من السهل جدًا ربطه بالرئيس الروسي. وقد اتهمه ماركي زاي، بأنه "خائن للوطن"، ويكاد يكون "مسؤولاً شريكا عن الحرب في أوكرانيا".
"الانفتاح على الشرق" لفيكتور أوربان
تجدر الإشارة الى إن الروابط التي نسجها فيكتور أوربان بين بلاده والعملاق الروسي عديدة ومهمة. الاعتماد على الغاز أولاً: يتم تلبية ما بين 80 بالمائة و90 بالمائة من حاجيات المجر من الغاز عن طريق الواردات الروسية. عنصر يمكن التخفيف من أهميته بالنظر لارتهان الأوروبيين العام في هذا المجال، ولكنه في الواقع يظل ضروريًا لفهم الاندفاع المجري.
يُعدّ خفض أسعار الطاقة للأسر أحد الأركان الأساسية لاستراتيجية الحكومة. في سبتمبر الماضي، وقعت بودابست عقدًا مدته 15 عامًا مع عملاق الطاقة الروسي غازبروم، بسعر تفضيلي. وبينما يصل سعر الغاز إلى ذروته، يدرك حزب فيدس أنه لا يمكنه المخاطرة بإثارة غضب ناخبيه، الذين اعتادوا على أسعار الطاقة المنخفضة، ويعانون اصلا من التضخم وانهيار الفورنت.
ومع ذلك، فإن التقارب المجري-الروسي يذهب إلى أبعد من قضية الغاز وحدها. بمجرد عودته عام 2010، أطلق الرجل الذي اشتهر عام 1989 بصراخه العاشق للغرب ورفضه للاحتلال السوفياتي، "الانفتاح على الشرق" بضجة كبيرة. تغيير أيديولوجي مذهل بقدر ما هو شامل. وبمرور السنوات، طوّر فيكتور أوربان عقيدة قائمة على افتراض الانحدار الذي لا رجعة فيه للغرب، لصالح شرق أصبح صعوده إلى القمة أمرًا حتميًا الآن. ويتم تقديم الصين في عهد شي جين بينغ، وبالطبع روسيا فلاديمير بوتين، على أنهما من بين أسياد اللعبة المستقبليون، والذين من الأفضل للمجر أن تتعاون معهم.
النتيجة الطبيعية لمثل هذه الرؤية للعالم، هي إدانة "بروكسل" وجميع تلك المؤسسات الغربية التي تحرم المجريين من حريتهم، أو حتى تستغلهم لمصالحها الخاصة. ومع ذلك، فإن هذه العقيدة ظلت إلى حد كبير على مستوى الخطاب: فبدون الأموال الهيكلية للاتحاد، واستثمارات الشركاء الأوروبيين، لن تبحر المجر الصغيرة بعيدا. لذلك تبقى موالية تمامًا لحلف الناتو، حتى أن أوربان كان واحدا من المروّجين الرئيسيين لجيش أوروبي مشترك.
لكن عام 2014، اتخذ الانفتاح على الشرق منعطفًا ملموسًا للغاية. بعد عودته من موسكو، أخذ فيكتور أوربان الدولة بأكملها على حين غرة -بما في ذلك حزبه -بإعلانه عن تكليفه شركة روساتوم النووية العملاقة الروسية، بالتجديد الضخم لمحطة الطاقة الذرية الهنغارية الوحيدة. هذا المشروع الصناعي الضخم، المسمى "باكسII " والمقدر بنحو 12.5 مليار يورو، سيصبح بالتالي أغلى مشروع صناعي ينفّذ في المجر. يموّل هذا المشروع بشكل رئيسي من قبل بنك روسي، ويربط المجر بروسيا لعقود من الزمن حول محطة طاقة توفر ما يقرب من نصف الكهرباء في البلاد.
تقوم ملفات أخرى شاهدا على عمق العلاقات الروسية المجرية. عام 2013، أطلقت بودابست ما يسمى ببرنامج "التأشيرة الذهبية". حتى عام 2016، قدمت المجر برنامجًا سخيًا جدا يوفر الإقامة مدى الحياة في المجر والوصول إلى شنغن لعائلة بأكملها، مقابل 300 ألف يورو فقط مستثمرة في سندات الخزانة المجرية على مدى خمس سنوات. انتهى البرنامج عام 2016 بعد بيع عدة آلاف من التأشيرات الذهبية بأقصى درجة تعتيم. ويعتقد العديد من الصحفيين المستقلين، أن هذا البرنامج قد أفاد الرعايا الروس إلى حد كبير.
عام 2019، انتقل البنك الروسي، بنك الاستثمار الدولي، إلى بودابست. هذه المؤسسة السوفياتية السابقة التي أعيد إحياؤها عام 2012 من قبل فلاديمير بوتين، يشتبه من قبل المراقبين الأمريكيين والصحفيين المستقلين المحليين، انها في خدمة مصالح الكرملين بأمانة. ووفق الصحفي أندراس دز، المتخصص في أجهزة الاستخبارات، فإن النفوذ الروسي في المجر شديد الى درجة أنه يشمل أيضًا الأجهزة السرية الهنغارية، التي يتجنب الغربيون الآن التعاون معها، خوفًا من رؤية المعلومات تنتقل إلى الروس.
بدلة فيكتور أوربان الجديدة
إذن، هل دفعت الحرب الأوكرانية الحكومة المجرية إلى الانعطاف 180 درجة، وقطع جميع العلاقات مع موسكو؟ للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر كذلك. أدانت الحكومة المجرية على الفور الغزو الروسي، وسرعان ما أكد فيكتور أوربان لكييف دعم المجر من خلال إجراء مكالمة هاتفية مع الرئيس زيلينسكي. ثم أصر هو وحكومته على أنّ المجر تدعم جميع العقوبات التي قررها كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
إلى جانب العقوبات، توقفت بودابست أيضًا عن منع تقارب كييف مع المؤسسات الغربية، وهو أمر كانت تفعله منذ عام 2017، وجمّدت نزاعًا مرتبطًا بالأقلية المجرية في أوكرانيا. وهكذا تمكنت كييف من الانضمام إلى مركز التميز للدفاع الإلكتروني التعاوني التابع لحلف الناتو في 3 مارس، وهي الخطوة التي منعتها بودابست قبل شهر. وبشكل غير متوقع أكثر، استجابت هنغاريا لطلب عشرات من دول أوروبا الشرقية تعرض على أوكرانيا إجراء "سريعا" للانضمام إلى الاتحاد.
أخيرًا، اكتمل تحول رئيس الوزراء فيما يتعلق بقضية استقبال لاجئي الحرب الأوكرانيين. هو، المناهض حدّ المغالاة للهجرة، يصر الآن ليل نهار على أن المجر مستعدة لاستقبال جميع اللاجئين من أوكرانيا، ووعدهم جميعًا باستقبال حار، حتى لو كان في الواقع تتحمّل مسؤولية رعايتهم منظمات من المجتمع المدني.
حضور روسي في الصحافة المجرية
ومع ذلك، لئن عاد فيكتور أوربان إلى الصف، فإن تحوّله لم يكتمل. منذ الإعلان الأول عن الدعم العسكري لأوكرانيا، أعلنت المجر أنها لا تريد إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، ولن تسمح للأسلحة الفتاكة بالمرور عبر أراضيها. وتحرص بودابست على معارضة أي عقوبة تستهدف شركة روساتوم النووية الروسية العملاقة، المسؤولة عن تجديد محطة باكس للطاقة النووية، أو طرد بنك الاستثمار الدولي من أراضيها. إن الحظر الأوروبي الافتراضي على الغاز والنفط الروسي هو نقطة الخلاف الأخرى. ارتفعت أصوات كثيرة في أوروبا تطالب باتباع الأمريكيين في حظرهم، ويعارض فيكتور أوربان بشدة هذه الفكرة.
لكن الأساسي في مكان آخر تقريبًا. لإخفاء التناقضات الواضحة في خطاب حزب فيدس خلال السنوات العشر الماضية، انزلت الإمبراطورية الإعلامية الموالية للحكومة بثقلها في المعركة. وفي هذا الضجيج الإعلامي الحقيقي، يتم بالتأكيد الإبلاغ عن مسار الحرب بشكل صحيح، لكن كتّاب الافتتاحيات وغيرهم من المؤثرين ينقلون باستمرار خطابات الكرملين، بينما يتجاهلون ظاهريًا ذكر سنوات التقارب الروسي المجري الذي روجت له الحكومة كثيرًا.
يضاف إلى ذلك، خطاب غير مبالٍ في أحسن الأحوال، وفي الأسوأ معادٍ صراحة لأوكرانيا، التي غالبًا ما يتم تقديمها على أنها دولة منبوذة منذ ثورة ميدان عام 2014. هذا الخطاب يتنزّل في اتجاه قديم، حيث تتبنى وسائل الإعلام المجرية الموالية للحكومة الخطاب الذي تنقله وسائل الإعلام الروسية، من سبوتنيك إلى روسيا اليوم.
لا الحرب ولا اليسار
أخيرًا، فإن دعاية الدولة تردد خاصة رسالة أساسية: أحزاب المعارضة -التي يشار إليها فقط باسم "اليسار" -تريد إرسال جنود مجريين للقتال في أوكرانيا. ووراء هذه الكذبة، تصريح لبيتر ماركي زاي، زعيم المعارضة، أوضح فيه أنه مستعد للسير وراء حلف شمال الأطلسي في أي اتجاه، بما في ذلك المساعدات العسكرية في حال قرر الحلف الأطلسي ذلك. وكان هذا التصريح كافياً بالنسبة إلى حزب فيدس، الذي يرى ان " اليسار يريد إرسال جنود مجريين للقتال في أوكرانيا". بمعنى آخر، إذا فاز اليسار في الانتخابات، فإنها الحرب.
يجد بيتر ماركي-زاي صعوبة في دحض هذه الاتهامات، ومن الصعب منافسة الآلة الإعلامية لـ فيدس. في 16 مارس، تمت دعوة مرشح المعارضة المشترك، على سبيل المثال، بشكل استثنائي إلى مجموعة القنوات التلفزيونية العامة الرئيسية، حيث حصل على خمس دقائق فقط من البث، وهو الحد الأدنى القانوني لمترشح رسميا.
وهكذا، مع الحرب التي تهدد من داخل أوكرانيا ومن صفوف المعارضة، يتقمّص رئيس الوزراء فيكتور أوربان دوره المفضل كمدافع عن الأمة المعرّضة للخطر. وتُظهر حملة الملصقات الأخيرة أوربان في زي شبه عسكري، داعيا إلى حماية سلام البلاد وأمنها. وكل يوم، يضع نفسه على المسرح إما كرئيس للجيوش يزور حدود البلاد، أو كدبلوماسي متمرس يعمل من أجل السلام.
لقد سمحت له صورة رئيس الدولة الملتزم بالدفاع عن الوطن بتوسيع تقدمه في ضوء الانتخابات. ووضع استطلاع للرأي حزبه فيدس متقدما بأربع نقاط على الجبهة المتحدة للمعارضة قبل الحرب. ووفق نفس الاستطلاع، تقدم فيدس بأكثر من اثنتي عشرة نقطة بعد اندلاع الحرب. لذلك نجح فيكتور أوربان، بفضل إمبراطوريته الإعلامية القوية، في تحويل الحرب في أوكرانيا لصالحه. ويبدو أنه ضمن إعادة انتخابه في 3 أبريل، على الرغم من أن مسألة أغلبية الثلثين في البرلمان لا تزال معلّقة.
كما تمنحه الحرب في أوكرانيا ميزة أخرى وليس أقلها: الإجراء الجاري في بروكسل لمعاقبة المجر وبولندا بسبب عدم احترام سيادة القانون قد تم إغفاله تقريبًا. لا يعني ذلك أن العقوبات المفروضة من بروكسل كانت ستعيق أوربان -ربما العكس -لكن المجر كانت ستعاني بشكل خطير إذا حُرمت من جزء من الأموال من خطة التعافي الأوروبية.
عزلة أوروبية وميل للبلقان
ومع ذلك، ليس كل شيء وردي بالنسبة لرئيس الوزراء المجري. على الساحة الأوروبية، ومنذ طرده من حزب الشعب الأوروبي، ظل وحيدًا وفشل في جمع قوة يمينية متطرفة جديدة كما كان يود. علاوة على ذلك، فإن الحرب في أوكرانيا تزيد من عزلته بتسليطها الضوء على الانقسام العميق داخل مجموعة فيزيغراد، حيث ابتعدت حتى جمهورية التشيك، بقيادة الروسي الهوى، ميلوس زيمان، عن موسكو وأظهرت دعمًا ثابتًا لكييف. ومن الصعب جدًا تخيل أن بولندا، المعادية بشدة لروسيا والموالية لأوكرانيا، لن تستطيع أن تنأى بنفسها عن حكومة أوربان التي لا تزال وكيلًا روسيًا حقيقيًا في المنطقة. لأن فيكتور أوربان يعمل الآن في البلقان كجسر للكرملين. في الخريف، دعم ميلوراد دوديك، زعيم صرب البوسنة المشتبه في استعداده لتفكيك البوسنة والهرسك. كما أنه يحرص على البقاء على مقربة من الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش، وهو أيضًا من عشاق روسيا، والذي زاره مرة أخرى في 19 مارس.
إذا كانت الحرب في أوكرانيا تفيد بشكل كبير فيكتور أوربان داخليًا، فإنها تقوض بشكل خطير سياسته الخارجية من خلال إظهار كل حدود "انفتاحه على الشرق". ومع ذلك، يبدو أن رئيس الوزراء المجري لا يزال يراهن على الكرملين، كما يتضح من طموحاته في البلقان أو خطابه الحذر تجاه موسكو. وفي حال إعادة انتخابه، يخاطر فيكتور أوربان بتكثيف عزلته على الساحة الأوروبية، الا إذا انعطف تمامًا -وبشكل حقيقي هذه المرة.
• عام 2014، اتخذ الانفتاح على الشرق منعطفًا ملموسًا للغاية بتكليف شركة روسية بتجديد المحطة النووية المجرية الوحيدة
• إلى جانب العقوبات، توقفت بودابست أيضًا عن منع تقارب كييف مع المؤسسات الغربية
• نجح فيكتور أوربان، بفضل إمبراطوريته الإعلامية القوية، في تحويل الحرب في أوكرانيا لصالحه
• يبدو أنه ضمن إعادة انتخابه في 3 أبريل، رغم أن مسألة أغلبية الثلثين في البرلمان لا تزال معلّقة
دفعت الحرب في أوكرانيا المؤيد لبوتين، فيكتور أوربان، إلى خط الحاجز دبلوماسيا. ولئن عززت صدارته في أفق الانتخابات التشريعية في 3 أبريل، فإنها أضعفت موقعه الدولي من خلال الكشف عن كل حدود "انفتاحه على الشرق". في صباح 24 فبراير، لا بد أن فيكتور أوربان قد استيقظ مستاءً جدا. فعندما كان العالم بأسره يعلم، مرتعبا، باندلاع الحرب في أوكرانيا، جمع رئيس الوزراء المجري رجاله على وجه السرعة: كيف يمكنه، هو المروّج الكبير للتقارب مع الكرملين وصديق فلاديمير بوتين، أن يتفاعل مع هذا الاضطراب؟
يسعى فيكتور أوربان للفوز بولاية رابعة على التوالي في الانتخابات التشريعية في الثالث من أبريل الجاري، ولا يجب أن ينقلب قربه من الكرملين ضده في
الامتار الأخيرة.
وبينما كان الشك يعشّش في صدر أوربان وقواته، لا شك في أن أحزاب المعارضة، بقيادة مرشحها المشترك بيتر ماركي زاي، كانت في قمة الابتهاج. وفي نفس المساء، اجتمعوا أمام السفارة الروسية، طبعا للتعبير عن دعمهم لأوكرانيا، ولكن خاصة لمهاجمة رئيس الوزراء، الذي أصبح من السهل جدًا ربطه بالرئيس الروسي. وقد اتهمه ماركي زاي، بأنه "خائن للوطن"، ويكاد يكون "مسؤولاً شريكا عن الحرب في أوكرانيا".
"الانفتاح على الشرق" لفيكتور أوربان
تجدر الإشارة الى إن الروابط التي نسجها فيكتور أوربان بين بلاده والعملاق الروسي عديدة ومهمة. الاعتماد على الغاز أولاً: يتم تلبية ما بين 80 بالمائة و90 بالمائة من حاجيات المجر من الغاز عن طريق الواردات الروسية. عنصر يمكن التخفيف من أهميته بالنظر لارتهان الأوروبيين العام في هذا المجال، ولكنه في الواقع يظل ضروريًا لفهم الاندفاع المجري.
يُعدّ خفض أسعار الطاقة للأسر أحد الأركان الأساسية لاستراتيجية الحكومة. في سبتمبر الماضي، وقعت بودابست عقدًا مدته 15 عامًا مع عملاق الطاقة الروسي غازبروم، بسعر تفضيلي. وبينما يصل سعر الغاز إلى ذروته، يدرك حزب فيدس أنه لا يمكنه المخاطرة بإثارة غضب ناخبيه، الذين اعتادوا على أسعار الطاقة المنخفضة، ويعانون اصلا من التضخم وانهيار الفورنت.
ومع ذلك، فإن التقارب المجري-الروسي يذهب إلى أبعد من قضية الغاز وحدها. بمجرد عودته عام 2010، أطلق الرجل الذي اشتهر عام 1989 بصراخه العاشق للغرب ورفضه للاحتلال السوفياتي، "الانفتاح على الشرق" بضجة كبيرة. تغيير أيديولوجي مذهل بقدر ما هو شامل. وبمرور السنوات، طوّر فيكتور أوربان عقيدة قائمة على افتراض الانحدار الذي لا رجعة فيه للغرب، لصالح شرق أصبح صعوده إلى القمة أمرًا حتميًا الآن. ويتم تقديم الصين في عهد شي جين بينغ، وبالطبع روسيا فلاديمير بوتين، على أنهما من بين أسياد اللعبة المستقبليون، والذين من الأفضل للمجر أن تتعاون معهم.
النتيجة الطبيعية لمثل هذه الرؤية للعالم، هي إدانة "بروكسل" وجميع تلك المؤسسات الغربية التي تحرم المجريين من حريتهم، أو حتى تستغلهم لمصالحها الخاصة. ومع ذلك، فإن هذه العقيدة ظلت إلى حد كبير على مستوى الخطاب: فبدون الأموال الهيكلية للاتحاد، واستثمارات الشركاء الأوروبيين، لن تبحر المجر الصغيرة بعيدا. لذلك تبقى موالية تمامًا لحلف الناتو، حتى أن أوربان كان واحدا من المروّجين الرئيسيين لجيش أوروبي مشترك.
لكن عام 2014، اتخذ الانفتاح على الشرق منعطفًا ملموسًا للغاية. بعد عودته من موسكو، أخذ فيكتور أوربان الدولة بأكملها على حين غرة -بما في ذلك حزبه -بإعلانه عن تكليفه شركة روساتوم النووية العملاقة الروسية، بالتجديد الضخم لمحطة الطاقة الذرية الهنغارية الوحيدة. هذا المشروع الصناعي الضخم، المسمى "باكسII " والمقدر بنحو 12.5 مليار يورو، سيصبح بالتالي أغلى مشروع صناعي ينفّذ في المجر. يموّل هذا المشروع بشكل رئيسي من قبل بنك روسي، ويربط المجر بروسيا لعقود من الزمن حول محطة طاقة توفر ما يقرب من نصف الكهرباء في البلاد.
تقوم ملفات أخرى شاهدا على عمق العلاقات الروسية المجرية. عام 2013، أطلقت بودابست ما يسمى ببرنامج "التأشيرة الذهبية". حتى عام 2016، قدمت المجر برنامجًا سخيًا جدا يوفر الإقامة مدى الحياة في المجر والوصول إلى شنغن لعائلة بأكملها، مقابل 300 ألف يورو فقط مستثمرة في سندات الخزانة المجرية على مدى خمس سنوات. انتهى البرنامج عام 2016 بعد بيع عدة آلاف من التأشيرات الذهبية بأقصى درجة تعتيم. ويعتقد العديد من الصحفيين المستقلين، أن هذا البرنامج قد أفاد الرعايا الروس إلى حد كبير.
عام 2019، انتقل البنك الروسي، بنك الاستثمار الدولي، إلى بودابست. هذه المؤسسة السوفياتية السابقة التي أعيد إحياؤها عام 2012 من قبل فلاديمير بوتين، يشتبه من قبل المراقبين الأمريكيين والصحفيين المستقلين المحليين، انها في خدمة مصالح الكرملين بأمانة. ووفق الصحفي أندراس دز، المتخصص في أجهزة الاستخبارات، فإن النفوذ الروسي في المجر شديد الى درجة أنه يشمل أيضًا الأجهزة السرية الهنغارية، التي يتجنب الغربيون الآن التعاون معها، خوفًا من رؤية المعلومات تنتقل إلى الروس.
بدلة فيكتور أوربان الجديدة
إذن، هل دفعت الحرب الأوكرانية الحكومة المجرية إلى الانعطاف 180 درجة، وقطع جميع العلاقات مع موسكو؟ للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر كذلك. أدانت الحكومة المجرية على الفور الغزو الروسي، وسرعان ما أكد فيكتور أوربان لكييف دعم المجر من خلال إجراء مكالمة هاتفية مع الرئيس زيلينسكي. ثم أصر هو وحكومته على أنّ المجر تدعم جميع العقوبات التي قررها كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
إلى جانب العقوبات، توقفت بودابست أيضًا عن منع تقارب كييف مع المؤسسات الغربية، وهو أمر كانت تفعله منذ عام 2017، وجمّدت نزاعًا مرتبطًا بالأقلية المجرية في أوكرانيا. وهكذا تمكنت كييف من الانضمام إلى مركز التميز للدفاع الإلكتروني التعاوني التابع لحلف الناتو في 3 مارس، وهي الخطوة التي منعتها بودابست قبل شهر. وبشكل غير متوقع أكثر، استجابت هنغاريا لطلب عشرات من دول أوروبا الشرقية تعرض على أوكرانيا إجراء "سريعا" للانضمام إلى الاتحاد.
أخيرًا، اكتمل تحول رئيس الوزراء فيما يتعلق بقضية استقبال لاجئي الحرب الأوكرانيين. هو، المناهض حدّ المغالاة للهجرة، يصر الآن ليل نهار على أن المجر مستعدة لاستقبال جميع اللاجئين من أوكرانيا، ووعدهم جميعًا باستقبال حار، حتى لو كان في الواقع تتحمّل مسؤولية رعايتهم منظمات من المجتمع المدني.
حضور روسي في الصحافة المجرية
ومع ذلك، لئن عاد فيكتور أوربان إلى الصف، فإن تحوّله لم يكتمل. منذ الإعلان الأول عن الدعم العسكري لأوكرانيا، أعلنت المجر أنها لا تريد إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، ولن تسمح للأسلحة الفتاكة بالمرور عبر أراضيها. وتحرص بودابست على معارضة أي عقوبة تستهدف شركة روساتوم النووية الروسية العملاقة، المسؤولة عن تجديد محطة باكس للطاقة النووية، أو طرد بنك الاستثمار الدولي من أراضيها. إن الحظر الأوروبي الافتراضي على الغاز والنفط الروسي هو نقطة الخلاف الأخرى. ارتفعت أصوات كثيرة في أوروبا تطالب باتباع الأمريكيين في حظرهم، ويعارض فيكتور أوربان بشدة هذه الفكرة.
لكن الأساسي في مكان آخر تقريبًا. لإخفاء التناقضات الواضحة في خطاب حزب فيدس خلال السنوات العشر الماضية، انزلت الإمبراطورية الإعلامية الموالية للحكومة بثقلها في المعركة. وفي هذا الضجيج الإعلامي الحقيقي، يتم بالتأكيد الإبلاغ عن مسار الحرب بشكل صحيح، لكن كتّاب الافتتاحيات وغيرهم من المؤثرين ينقلون باستمرار خطابات الكرملين، بينما يتجاهلون ظاهريًا ذكر سنوات التقارب الروسي المجري الذي روجت له الحكومة كثيرًا.
يضاف إلى ذلك، خطاب غير مبالٍ في أحسن الأحوال، وفي الأسوأ معادٍ صراحة لأوكرانيا، التي غالبًا ما يتم تقديمها على أنها دولة منبوذة منذ ثورة ميدان عام 2014. هذا الخطاب يتنزّل في اتجاه قديم، حيث تتبنى وسائل الإعلام المجرية الموالية للحكومة الخطاب الذي تنقله وسائل الإعلام الروسية، من سبوتنيك إلى روسيا اليوم.
لا الحرب ولا اليسار
أخيرًا، فإن دعاية الدولة تردد خاصة رسالة أساسية: أحزاب المعارضة -التي يشار إليها فقط باسم "اليسار" -تريد إرسال جنود مجريين للقتال في أوكرانيا. ووراء هذه الكذبة، تصريح لبيتر ماركي زاي، زعيم المعارضة، أوضح فيه أنه مستعد للسير وراء حلف شمال الأطلسي في أي اتجاه، بما في ذلك المساعدات العسكرية في حال قرر الحلف الأطلسي ذلك. وكان هذا التصريح كافياً بالنسبة إلى حزب فيدس، الذي يرى ان " اليسار يريد إرسال جنود مجريين للقتال في أوكرانيا". بمعنى آخر، إذا فاز اليسار في الانتخابات، فإنها الحرب.
يجد بيتر ماركي-زاي صعوبة في دحض هذه الاتهامات، ومن الصعب منافسة الآلة الإعلامية لـ فيدس. في 16 مارس، تمت دعوة مرشح المعارضة المشترك، على سبيل المثال، بشكل استثنائي إلى مجموعة القنوات التلفزيونية العامة الرئيسية، حيث حصل على خمس دقائق فقط من البث، وهو الحد الأدنى القانوني لمترشح رسميا.
وهكذا، مع الحرب التي تهدد من داخل أوكرانيا ومن صفوف المعارضة، يتقمّص رئيس الوزراء فيكتور أوربان دوره المفضل كمدافع عن الأمة المعرّضة للخطر. وتُظهر حملة الملصقات الأخيرة أوربان في زي شبه عسكري، داعيا إلى حماية سلام البلاد وأمنها. وكل يوم، يضع نفسه على المسرح إما كرئيس للجيوش يزور حدود البلاد، أو كدبلوماسي متمرس يعمل من أجل السلام.
لقد سمحت له صورة رئيس الدولة الملتزم بالدفاع عن الوطن بتوسيع تقدمه في ضوء الانتخابات. ووضع استطلاع للرأي حزبه فيدس متقدما بأربع نقاط على الجبهة المتحدة للمعارضة قبل الحرب. ووفق نفس الاستطلاع، تقدم فيدس بأكثر من اثنتي عشرة نقطة بعد اندلاع الحرب. لذلك نجح فيكتور أوربان، بفضل إمبراطوريته الإعلامية القوية، في تحويل الحرب في أوكرانيا لصالحه. ويبدو أنه ضمن إعادة انتخابه في 3 أبريل، على الرغم من أن مسألة أغلبية الثلثين في البرلمان لا تزال معلّقة.
كما تمنحه الحرب في أوكرانيا ميزة أخرى وليس أقلها: الإجراء الجاري في بروكسل لمعاقبة المجر وبولندا بسبب عدم احترام سيادة القانون قد تم إغفاله تقريبًا. لا يعني ذلك أن العقوبات المفروضة من بروكسل كانت ستعيق أوربان -ربما العكس -لكن المجر كانت ستعاني بشكل خطير إذا حُرمت من جزء من الأموال من خطة التعافي الأوروبية.
عزلة أوروبية وميل للبلقان
ومع ذلك، ليس كل شيء وردي بالنسبة لرئيس الوزراء المجري. على الساحة الأوروبية، ومنذ طرده من حزب الشعب الأوروبي، ظل وحيدًا وفشل في جمع قوة يمينية متطرفة جديدة كما كان يود. علاوة على ذلك، فإن الحرب في أوكرانيا تزيد من عزلته بتسليطها الضوء على الانقسام العميق داخل مجموعة فيزيغراد، حيث ابتعدت حتى جمهورية التشيك، بقيادة الروسي الهوى، ميلوس زيمان، عن موسكو وأظهرت دعمًا ثابتًا لكييف. ومن الصعب جدًا تخيل أن بولندا، المعادية بشدة لروسيا والموالية لأوكرانيا، لن تستطيع أن تنأى بنفسها عن حكومة أوربان التي لا تزال وكيلًا روسيًا حقيقيًا في المنطقة. لأن فيكتور أوربان يعمل الآن في البلقان كجسر للكرملين. في الخريف، دعم ميلوراد دوديك، زعيم صرب البوسنة المشتبه في استعداده لتفكيك البوسنة والهرسك. كما أنه يحرص على البقاء على مقربة من الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش، وهو أيضًا من عشاق روسيا، والذي زاره مرة أخرى في 19 مارس.
إذا كانت الحرب في أوكرانيا تفيد بشكل كبير فيكتور أوربان داخليًا، فإنها تقوض بشكل خطير سياسته الخارجية من خلال إظهار كل حدود "انفتاحه على الشرق". ومع ذلك، يبدو أن رئيس الوزراء المجري لا يزال يراهن على الكرملين، كما يتضح من طموحاته في البلقان أو خطابه الحذر تجاه موسكو. وفي حال إعادة انتخابه، يخاطر فيكتور أوربان بتكثيف عزلته على الساحة الأوروبية، الا إذا انعطف تمامًا -وبشكل حقيقي هذه المرة.