تشارلز الثالث والاختبار الصعب:

التوفيق بين احترام التقاليد الملكية وتحديث المؤسسة...؟

التوفيق بين احترام التقاليد الملكية وتحديث المؤسسة...؟

-- لم يكن قبول وجود كاميلا في حياة تشارلز أمرًا سهلاً بالنسبة للملكة، لكن البراغماتية انتصرت في الأخير
-- كان تشارلز غير سعيد للغاية في مطلع حياته، ويريد أن يعفي الآخرين من مواجهة نفس المصير
-- «نحن نعرف الكثير عن شخصية تشارلز، أشياء كنا نفضل ألا نعرفها أبدًا»
-- هذا الملك العاطفي لا يقدس مبدأ الحياد الذي احترمته إليزابيث الثانية بصرامة
-- لن يتمكن الملك تشارلز الثالث بعد الآن من التفرّغ بنفس القدر لمؤسسته الخيرية


   طفل غير سعيد، ثم شاب غير متصالح مع نفسه، تولى تشارلز الوظيفة العليا في سن 73 عاما، يسكنه احترام عميق لعمل والدته، وإحساس شديد بالواجب، ولكن أيضًا الرغبة في البقاء صادقًا مع نفسه.    يشعر تشارلز الثالث بـ “حزن عميق”. يقوله ويظهره دون ضبط النفس المعتاد بسبب رتبته. احمرار العينين بالدموع، وصوت مثقل بالعاطفة، ألقى رئيس الدولة البريطاني الجديد، مساء الجمعة، خطابه الأول كملك، تحية مؤثرة لـ “والدته الحبيبة”. لطالما كان الابن الأكبر للملكة ودوق إدنبرة، المولود عام 1948، كائنًا حساسًا.

حساس للغاية، في نظر والديه، وخاصة والده الذي حاول إضفاء مسحة من الصلابة على تشارلز الصغير، دون جدوى. عام 2016، مع كرونيكور ملكي، واصل الأمير فيليب استنكار الشخصية “الرومانسية” لابنه. تكاد تكون إهانة في فم الدوق الذي جعل “البراغماتية” رايته.    ومع ذلك، لم يقتصر الأمر على أن تشارلز لم يوقف عواطفه عندما أصبح ملكًا، ولكنه لم يعط انطباعًا بأنه يريد وضع منديل على مشاعره بمجرد انتهاء فترة الحداد الوطني ثم الأسري. وبوعده بخدمة بلاده “بالولاء والاحترام والمحبة”، ألمح إلى ظهور معجم ملكي جديد، وحتى علاقة جديدة بين آل وندسور والشعب.

   هل هذه المشاعر، التي لم يعتاد عليها البريطانيون في عهد إليزابيث الثانية، مرحب بها من رجل الآن رئيس دولة ومسؤول عن ضمان مستقبل الملكية البريطانية؟
كاثرين ماير، مؤلفة السيرة الذاتية للأمير السابق لويلز، والمنشورة عام 2015، “قلب ملك”، تشك. “تشارلز شديد الحساسية، بل وسريع الانفعال، تعتقد الصحفية التي تحدثت معه عدة مرات، يعطي أحيانًا انطباعًا بأنه منغلق على الاقتراحات البناءة والنقد المشروع».
    مع ذلك، فإن الحساسية الكبيرة للملك الجديد، واحتياطه الهائل من التعاطف، يصنعان أيضًا قوته، خاصة في زمن يتم فيه التعبير عن المشاعر بطريقة أكثر حرية وتلقائية. “كان تشارلز غير سعيد للغاية في بداية حياته، تذكّر كاثرين ماير، ويريد أن يمنع عن الآخرين مواجهة نفس المصير. يتعاطف كثيرًا مع الأشخاص المهمشين الذين تساعدهم الجمعيات الخيرية التي أنشأها».

الدفاع عن القيم التي نمّاها
   لن يتمكن الملك تشارلز الثالث بعد الآن من التفرّغ بنفس القدر لمؤسسته الخيرية التي أنشأها عام 1976 من خلال مكافأة نهاية الخدمة التي تحصل عليها من البحرية الملكية لمساعدة الشباب المحرومين. وقال أمير ويلز السابق، إن الأمر متروك لوليام، وهو اليوم الأول في ترتيب خلافة العرش، وزوجته كاثرين، لتولي شعلة أعماله الاجتماعية.

   صفحة طويت بالنسبة لتشارلز.
في 73 عاما، يدرك خليفة إليزابيث الثانية الحاجة إلى ضمان استمرارية التقاليد الملكية التي جسدتها والدته. وقال يوم الجمعة “لقد نشأت باحترام عميق والإخلاص للآخرين وللتقاليد الثمينة والحريات والمسؤوليات التي تنبع من تاريخنا الفريد ونظامنا البرلماني للحكم”.
 ومع ذلك، يعتزم الملك الجديد الاستمرار في الدفاع عن القيم التي طورها وكرّسها طيلة نصف قرن. قيم والتزامات استقبلها القصر منذ فترة طويلة، في أحسن الأحوال، بلامبالاة لافتة، ان لم يكن بسخط عميق.
  «لا أحترم أحداً مثله بسبب طاقته وطموحه وحماسه”، يقول مالكولم روس، رئيس موظفي أمير ويلز، لسالي بيديل سميث، مؤلفة سيرة إليزابيث الثانية (حياة ملكة حديثة، منشورات إكوادور، في المكتبات اليوم الاثنين).
“يريد أن ينقذ العالم، المشكلة هي أنه يريد أن يفعل ذلك بعد ظهر هذا اليوم، وبقية الأيام الأخرى”، يضيف مساعد تشارلز السابق، الذي أمضى ثمانية عشر عامًا في باكنغهام.

  وتضيف الصحفية الأمريكية، المساهمة منذ فترة طويلة في مجلة فانيتي فير: “في السنوات الأخيرة، دعا إلى إصلاح النظام الاقتصادي العالمي، وشكك في القيم المادية للمجتمع الاستهلاكي، ونبّه إلى تغيّر المناخ، ودعا الغرب الى “ثورة” على “المقاربة الميكانيكية للعلم”، وأشاد بالإسلام لإيمانه بأنه “لا يوجد فصل بين الإنسان والطبيعة».
   والأكثر جدية، ان تشارلز اعتبر منذ فترة طويلة أن الطابع متعدد الثقافات والمتعدد الطوائف للمملكة المتحدة يشكل قوة للبلاد، كما ذكّر بذلك في خطابه الملكي الأول.

 وقد يكون هذا مربكا في علاقته بالكنيسة الانجليكانية طالما أن الملك هو رأسها أيضًا. وعلى العكس من ذلك، لم تبرز الملكة أبدًا بدعمها للأقليات العرقية.
   الأسوأ من ذلك: في يونيو 2021، كشفت صحيفة الجارديان، أنه حتى أواخر الستينات على الأقل ، تم استبعاد “المهاجرين والأجانب الملونين” من إجراءات التوظيف لموظفي الأسرة في قصر باكنغهام. وحتى اليوم، لا يزال البيت الملكي مستثنى من الإجراءات التشريعية لمكافحة التمييز بجميع أنواعه السارية في جميع أنحاء البلاد.

«رجل مكتمل
 وعاطفي ومبدع»
   وكشفت صحيفة الغارديان، أن الأمر نفسه ينطبق أيضًا على قانون تغيّر المناخ في اسكتلندا. عام 2021، تفاوض التاج مع الحكومة الإسكتلندية على امتياز، وفقًا لما يسمح به القانون، بعدم الاضطرار إلى تسهيل بناء أنابيب على أراضيه مما يتيح تطوير الطاقات المتجددة كمصدر للتدفئة المنزلية.
   ربما تكون هذه الاكتشافات قد أحدثت شرارات ذات طبيعة متفجرة بين الأم والابن -وربما أدت إلى تبادل ساخن بين الأم وخليفتها. يدرك الجميع التزام تشارلز بحماية البيئة ومكافحة التغيّر المناخي، وهو التزام قديم وصادق مثل موقفه المؤيد للتعددية الثقافية. ومع ذلك، يشير كل شيء إلى أنه على الرغم من خلافاتهما، التي لا يمكن حلها، واختلاف شخصيتهما، تمتعت إليزابيث وندسور وابنها الأكبر بعلاقة أوثق في السنوات الأخيرة أكثر من أي وقت آخر في وجودهما.

   كان تشارلز إلى جانب أمّه مع أخته الصغرى آن، عندما لفظت إليزابيث الثانية، 96 عاما، أنفاسها الأخيرة يوم الخميس في قلعة بالمورال. وعندما أخبر أطباء إليزابيث الثانية مرافقيها والبريطانيين أن الملكة تعيش لحظاتها الأخيرة، صادف أن الوريث المباشر للعرش البريطاني كان يقيم في منزله في دومفريز هاوس في جنوب اسكتلندا.
   ومع ذلك، فإن الوصول الفوري لأمير ويلز إلى بالمورال يدل على المودة العميقة التي يشعر بها تجاه أمّ عشيرة وندسور منذ عقد من الزمان، وازدادت منذ وفاة الأمير فيليب في أبريل 2021 والعكس صحيح: سخط طويل جرّاء نزوات تشارلز، واهتمامه الشديد برفاهيته الشخصية، وتعدد مواقفه العامة المخالفة لتقاليد الحياد الملكي، انتهى الأمر بالملكة إلى تقدير الصفات الفريدة لابنها ومبادئه وعمله الجاد.

    وبمناسبة الذكرى السبعين لميلاد أمير ويلز، عام 2018، قدّمت له أيضًا تحية مؤثرة وفي غاية الروعة. خلال عشاء بأبهة عظيمة، أشادت الملكة بتشارلز “رجل مكتمل وعاطفي ومبدع، ولا سيما بفضل دعم زوجته كاميلا».
   لم يكن قبول وجود كاميلا باركر بولز في حياة تشارلز، ثم الموافقة على زواجهما بعد الطلاق الصاخب من ديانا عام 1996 ووفاة الأخيرة المأساوية في العام التالي، أمرًا سهلاً بالنسبة للملكة.
 لكن البراغماتية انتصرت في الأخير، وأقنعت السعادة الزوجية الواضحة التي وجدها تشارلز مع كاميلا أخيرًا إليزابيث الثانية بمنح زوجة ابنها مكانة كاملةً وتامة داخل العائلة المالكة والمؤسسة الملكية.

أخيرًا، تشارلز سيّد أمره
   في فبراير الماضي، تلقت كاميلا اخر عناقً من الملكة. في رسالة بمناسبة مرور سبعين عامًا على توليها العرش، ومع تدهور صحتها، أعربت إليزابيث الثانية عن “رغبتها الصادقة” في أن تصبح الزوجة الملكة عندما يصبح تشارلز ملكًا، وبالتالي أزالت أي التباس حول اللقب والمكانة التي يفترض أن تحتلها دوقة كورنوال السابقة بجانب وريث العرش بسبب التاريخ العاطفي الصاخب للزوجين. وعلى الرغم من التقارب العاطفي الذي نشأ متأخرا مع والدته، وفترة الانتقال المؤسسي التي بدأت عام 2013، فإن الاستلام من إليزابيث الثانية يعد مهمة صعبة لتشارلز.

    صعدت إلى العرش وهي في الخامسة والعشرين من عمرها في بلد دمرته الحرب التي انتصرت فيها قبل سبع سنوات، ابنة الملك جورج السادس والملكة إليزابيث، احتلت خلال حياتها مكانة استثنائية في تاريخ العائلة المالكة البريطانية. وطول فترة حكمها غير المسبوق، الذي تجاوز في سبتمبر 2015 الرقم القياسي الذي سجلته جدتها فيكتوريا عند وفاتها عام 1901، منح الملكة مكانة خاصة في قلوب رعاياها. وكان للاحترام الذي تتمتع به الملكة علاقة كبيرة بالغموض الذي أحاط بشخصها.
   اما تشارلز، فانه يصل إلى قصر باكنغهام مسبوقًا بموكب من الحكايات التي أكسبته سمعة شخص غريب الأطوار مع أسلوب حياة مكلف، ومنفصل عن مخاوف البشر العاديين. وخصوصا، لا تحمل الحياة الحميمية لأمير ويلز السابق في الثمانينات والتسعينات الكثير من الأسرار بالنسبة للبريطانيين. “نحن نعرف الكثير عن تشارلز، أشياء كنا نفضل ألا نعرفها أبدًا”، يلخص جو ليتل، مدير مجلة ماجستي.

   منذئذ، تذبذب حب الناس لتشارلز كثيرًا. وفي مايو الماضي، قبل شهر من احتفالات الذكرى السبعين لوالدته، يعتقد 32 بالمائة فقط من الذين استطلعتهم يوغوف أن أمير ويلز سيصبح ملكًا جيدًا، مقابل 60 بالمائة قبل ستة أشهر. وقد يؤدي وصوله إلى العرش إلى زيادة شعبيته.
    بعد عقود قضاها في ظل والدته، يمكن أن يعيش تشارلز في النهاية بمفرده. استقبل البريطانيون خطابه الأول بشكل جيد. لكن نقطة التوازن بين احترام التقاليد الملكية وتحديث المؤسسة قد تكون بشكل خاص محفوفة بالمخاطر ليعثر عليها تشارلز الثالث.
    الآن، رئيس للدولة، من المفترض أن يضع تشارلز شغفه جانبًا. فهل يستطيع؟ وهل يريد ذلك؟ يعرف الملك الجديد أن وقته محسوب. ومع ذلك، فإن هذا الجد ذو الشعر الفضي يأمل في تجسيد إحياء النظام الملكي البريطاني، خاصة أن هذا الملك العاطفي لا يقدس مبدأ الحياد الذي احترمته إليزابيث الثانية بصرامة.