جمعية الصحفيين الإماراتية تطلق اسم نوال الصباح على جائزة أفضل صانع محتوى
القوى الأوراسية تجاوزت مناطق نفوذها:
الجغرافيا السياسية للوباء: نزع الطابع الغربي عن العالم...!
-- استحوذت الطموحات الصينية والروسية على الصحة كمجال للتعبير عن قوتهما العلمية والصناعية
-- لم تُحدِث أزمة 2020 ثورة في الجغرافيا السياسية، وأصبح الوباء أزمة اقتصادية دولية
-- يواجه عالم الغد من الآن تحدي إعادة بنـــاء المؤسـسـات المتعـــــددة الأطـــراف
-- أكدت القوى الأوراسية نفسها، في وسائل الإعلام وعلى الأرض، كبدائل صحية للغرب
-- بعد عام من الوباء، تلقى نظام الأمم المتحدة ضربة في مصداقيته ومن غير المرجح أن يسعفه سباق التطعيم
-- في عالم الغد، لا يزال الاتحاد الأوروبي يسعى إلى استقلاليته ومكانته الصحية، فضلاً عن دوره الجغراستراتيجي
مضى على جائحة كوفيد -19 أكثر من عام. ولئن أدركت آسيا الخطر منذ نهاية عام 2019، فقد أعلنت أوروبا نفسها في حالة طوارئ قبل اثني عشر شهرًا، في مارس 2020. ومنذ الحجر الصحي الشامل الأول، انتشرت التكهنات حول “عالم ما بعد”. توقع البعض نقطة تحول تاريخية مواتية للمناخ بسبب التوقف المفاجئ لحركة المرور على الطرق وانكماش الحركة البحرية وعرقلة السياحة الدولية؛ وتوقع آخرون عالما في ركود دائم. وأعلن آخرون أخيرًا، فرحا او استنكارا، سيادية قسرية تعيد الحدود.
بعد مرور عام، استمرت الأزمة، متعددة الأوجه: من الصحة، أصبحت اقتصادية ومتعلقة بالميزانية. فقد أدى إغلاق قطاعات بأكملها إلى تباطؤ النمو العالمي (-4.9 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020 وفقًا لصندوق النقد الدولي). وانتقلت هذه الأزمة إلى المالية العامة من خلال قناة تقلص الإيرادات الضريبية، ومن ثمّ الإنفاق الهائل على الدعم والتحفيز... لقد أصبح الوباء أزمة اقتصادية دولية.
لم تُحدِث أزمة 2020 ثورة في الجغرافيا السياسية، بل أبرزت وكشفت اتجاهات معينة تعمل من قبل في “العالم السابق”. وعوض ان تحفّز على تطوير التنسيق والتعاون، غذّت مكافحة الفيروس الخصومات،
وعززت مواقف الصين وروسيا. فقد أكدت القوى الأوراسية نفسها، في وسائل الإعلام وعلى الأرض، كبدائل صحية للغرب. ومن الآن فصاعدًا، هدف السلطتين القوتين، هو اغتنام فرصة هذا الوباء لتكريس “نزع الطابع الغربي عن العالم. «
المتعدد الأطراف
في سكتة دماغية
لقد أدى الوباء أولاً إلى إضعاف نظام الأمم المتحدة المدعوم من الأوروبيين، وتسبّب في تشويه سمعة منظمة الصحة العالمية، وأصبحت وكالة الأمم المتحدة المتخصصة، التي اتهمها الرئيس ترامب عام 2020 بتقليل حجم المخاطر الصحية وحتى إخفائها، موضوع جدل بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة. وهكذا وجدت منظمة الصحة العالمية نفسها فجأة عالقة في “فخ ثيوسيديدس” لاستخدام تعبير جراهام أليسون: وفقًا لهذا الجيوسياسي الأمريكي، فإن الصين والولايات المتحدة منخرطتان الآن في دوامة العداء الذي ساد بين أثينا وسبارتا في القرن الرابع قبل الميلاد. بعبارة أخرى، تعتبر بكين قوة صاعدة تنافس القوة الراسخة لواشنطن من أجل الهيمنة العسكرية.
وأصبحت منظمة الصحة العالمية ضحية مباشرة لتعليق مساهمة الولايات المتحدة في ميزانيتها (أكثر من 15 بالمائة من الميزانية العامة لعام 2019). لذلك تسبب الوباء في إضعاف إضافي للعمل المتعدد الاطراف في جانبه الصحي. وبدا أنه يبرر القراءة الصينية والروسية لمنظومة الأمم المتحدة: أداة للولايات المتحدة، ولا تدعمها إلا عندما تخدم مصالحهما الجيوسياسية. وفي صورة العكس، فإن منظومة الأمم المتحدة تسيء لنفسها بيدها.
لتلبية احتياجات الصحة العامة للبلدان الأقل ثراءً، تم إطلاق مبادرة تسريع اتاحة أدوات كوفيد-19 في أبريل 2020. ومن أشهر جوانبها والواعدة أكثر هي الآلية التي تمولها منظمة الصحة العالمية والمجتمع المدني: كوفاكس. ويهدف هذا الجهاز إلى توزيع ملياري جرعة من اللقاحات بحلول نهاية عام 2021. لكن الصعوبات التي واجهها كوفاكس توضح ضعف العمل متعدد الاطراف: في الوقت الحالي، لم تتمكن منظمة الصحة العالمية من طلب سوى 700 مليون جرعة. والإعلان الختامي لمجموعة السبع في 19 فبراير يشير إلى عجز الغرب على مراعاة المصالح الصحية لأفريقيا (رغم انه من مصلحتهم): تم الإعلان عن 13 مليون جرعة فقط للعاملين في مجال الرعاية الصحية في القارة التي يبلغ عدد سكانها 1، 2 مليار نسمة.
الزعامة الأمريكية تفقد قوتها
في نهاية عام من الوباء العالمي، فقد نظام الأمم المتحدة مصداقيته، ومن غير المرجح أن ينجح السباق الدولي حول التطعيم في رد الاعتبار له. ويواجه عالم الغد من الان التحدي المتمثل في إعادة بناء المؤسسات المتعددة الأطراف. ومن غير المؤكد أن عودة الولايات المتحدة بقيادة جو بايدن إلى منظمة الصحة العالمية سيكون كافيا لتبديد القلق بسرعة.
لأن العمل المتعدد الاطراف الأممي في مجال الصحة لم يفقد مصداقيته بإرادته، فقد كان إلى حد كبير ضحية رئاسة ترامب والعمى الطبي لإدارته. وحتى يتبرا من مسؤولية الخسائر الخطيرة للغاية (أكثر من 500 ألف حالة وفاة)، ألقى الرئيس المنتهية ولايته في الحملة باللوم على كبش الفداء المعتاد: المنظمات الدولية، وجمهورية الصين الشعبية، والعلماء. وتم استبدال الازدراء تجاه الشركاء والسلطات الطبية بنظرية المؤامرة.
وهنا مرة أخرى، سرّعت الأزمة ووقّعت الانسحاب الأمريكي، ونتيجته الطبيعية: ضعف الأطر الدولية. ان إدارة بايدن ليست مخطئة في عزمها إحياء المنظمات الدولية من خلال إعادة تأكيد الالتزام والزعامة الأمريكية. في النهاية، أصبح عالم الوباء معروفًا جيدًا، حيث يُنظر إليه من بكين وموسكو، على انه نظام للعلاقات الدولية حيث يقوم العمل المتعدد الاطراف الظاهري في الواقع على الهيمنة الأمريكية والتبعية الأوروبية لها. ومع ذلك، فإن التأثير المتزايد للصين داخل مؤسسات الأمم المتحدة يميل إلى تخفيف هذه الصلة الميكانيكية بين المتعدد الاطراف والزعامة الأمريكية التي عشناها بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد طغى الانسحاب الارادي للولايات المتحدة على عالم الوباء، ووحده النجاح العالمي للقاح الأمريكي فايزر للمسنين يسمح بالحد من هذا الاستنتاج.
حيوية المنافسة السلطوية
بفضل الانسحاب الأمريكي، استحوذت الطموحات الصينية والروسية على الصحة كمجال للتعبير عن قوتهما العلمية واللوجستية والصناعية. ففي بكين وموسكو، كانت المعركة ضد الوباء أولاً وقبل كل شيء صراعًا لتأكيد تفوق الأنظمة السلطوية على الغرب. في الواقع، تخلل عامي 2020 و2021 صراع العمالقة. في الربع الأول من عام 2020، كانت المواجهة بين الصين وخصومها الإقليميين (تايوان، كوريا، اليابان) والعالميين (الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة) حول عدد الإصابات والوفيات. في منافسة مروعة، أغرقت جمهورية الصين الشعبية الرأي العام العالمي في مسابقة سجلات -بدت إحصاءاتها في بعض الأحيان مشكوك فيها. وفي دوامة كمية نموذجية للأنظمة السلطوية، يتم تقييم جودة النظام السياسي من حيث عدد المصابين والموتى.
في الاثناء، أطلقت الصين وروسيا أيضًا “دبلوماسية الكمّامة” التي تهدف إلى مواجهة نفوذ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مناطق نفوذهما وعلى أراضيهما: الشرق الأوسط وإيطاليا، إلخ. مرة أخرى، يفترض أن تقاس جودة النظام السياسي من خلال إنتاج الكمامات والعباءات والقفازات وأجهزة التنفس وأسرّة المستشفيات. وكانت هيبة الأنظمة السياسية موضع تقدير من خلال قدرتها على نقلها حول العالم.
2020، كانت المنافسة حول سرعة تطوير اللقاح: مع سبوتنيك V، أطلقت روسيا سباقًا على السرعة. ثم نافست الصين بسينوفاك وسينوفارم. واليوم، من خلال التطعيم في جميع أنحاء العالم، نجحت روسيا والصين في تحدي الغرب لتفوزا بالثلاثية، صناع الصحة العالمية، والرواد العلميين، ومقدمي المساعدات الإنسانية.
لقد قامت القوتان الأوراسيتان بالتلقيح داخل مناطق نفوذ كل منهما: في آسيا الوسطى، في البلقان، في الهند وفي الجزائر، لصالح روسيا. لكنهما اكتسبتا أيضًا نفوذًا حيث وجد الغرب صعوبة لنشر اللقاحات: أمريكا اللاتينية لروسيا، والشرق الأوسط للصين. ولئن قام الاتحاد الأوروبي بتصدير حوالي 25 مليون جرعة خارج الاتحاد، فإن الصينيين والروس يعلنون عن أرقام لا يمكن التحقق منها. وتجدر الإشارة إلى أنه في هذه المرحلة، شهدت اللقاحات الغربية (أسترازينيكا، فايزر -بيوانتك، موديرنا) توزيعًا أوسع (في عدد من البلدان المعنية). لكن الروس والصينيين سجلوا نقاطًا في المعركة الاتصالية، بالدعاية حول لقاحاتهم (سبوتنيك، سينوفارم، سينوفاك). خارج نطاق الفضاء الصحي البحت، تشارك الصين في المنافسة الدولية من أجل التعافي الاقتصادي، حيث أعلنت عن أرقام نمو فوق المتوسط لعام 2021، وذلك بفضل السيطرة المبكرة على الوباء، وتسجيل تعاف اقتصادي سبق ان بدأ عام 2020.
بالنسبة للصين وروسيا، يجب ان يسرّع الوباء حركة نزع الطابع الغربي عن العالم. وليس مهما إذا نظرنا إلى الأشياء عن قرب، فلا الصين (حيث الوباء تحت السيطرة) ولا روسيا (باختيارها، رغم الوباء) تقوم بتطعيم سكانها إلى حد كبير.
الاستقلالية الصحية
المتعثرة للاتحاد الأوروبي
«إذا اضطررت إلى القيام بذلك مرة أخرى، فسوف أبدأ بالصحة”، يمكن القول باستعارة مقولة تنسب إلى جان مونيه، بتصرف. ولئن لم يكن لدينا أي أثر لـ “المجموعة الثقافية الأوروبية”، فإن مشروع “المجموعة الصحية الأوروبية” كان في المقابل مقترحًا من قبل الوزير الفرنسي بول ريبير في أوائل الخمسينات من القرن الماضي. ولعل إعادة البناء وذاكرة الأنفلونزا الإسبانية التي أطالت امد الحرب العالمية الأولى تفسر بلا شك هذا الاقتراح، الذي لم تتم متابعته. لذلك ظلت الصحة، في معظمها، من اختصاص الدولة حتى بداية أزمة كوفيد.
بعد فترة أولى من الفوضى في أوائل عام 2020، والتراجع في إحدى الحريات الأربع (حرية التنقل)، حاول الاتحاد الأوروبي إيجاد وحدة في مواجهة الأزمة. وقد فعل ذلك من خلال إطلاق وكالة شراء مركزية للقاحات بسرعة، على الرغم من التأخير في الطلبات والبطء في المفاوضات. ويبدو أن الردّ الأوروبي غائب من وجهة النظر هذه، ومتخلف عن دول مثل الولايات المتحدة أو إسرائيل أو المملكة المتحدة التي سرّعت وتيرة التطعيم. وبشكل عام، رغم التزامها، وشراء كميات هائلة من اللقاحات (أكثر من اللازم) وحركة المرضى عبر الحدود، فقد خسرت بروكسل معركة الصورة مع بكين أو موسكو.
في عالم الغد، لا يزال الاتحاد الأوروبي يسعى إلى استقلاليته ومكانته الصحية، فضلاً عن دوره الجغراستراتيجي. لكن قد تكون الأزمة بمثابة مؤشر، بالنسبة لفرنسا وكذلك بالنسبة لأوروبا: يجب أن تستند سياسة الأمن الصحي إلى فهم أفضل لسلاسل القيمة، وقدرات إنتاجية ذاتية جزئيًا، وسياسة بحثية أكثر تفاعلية، وسياسات أكثر اتساقًا واستباقية... ان أوروبا تُبنى أيضًا من خلال الأزمات والوباء ليس استثناءً.
عالم ما بعد:
بدون الغرب؟
إذا كان عالم ما بعد قائم الان، فهو ليس بالضرورة العالم المتفائل الذي كان قبل عام، ولا بالضرورة “هو نفسه ولكن في صورة أسوأ”. يمكن التأسف لعدم الاستعداد لمواجهة هذه الأزمة، التي ربما ستبقى الدرس الرئيسي لهذه الفترة التاريخية، لكن من الخطأ القول إن الوباء كان مفاجأة مطلقة لدرجة أن نسيم نيكولاس طالب، كان قادراً على التحدث في تعارض عن “البجعات السوداء” التي كرس لها بحثا مشهوراً عن “البجعة البيضاء”، بمعنى شيء سيحدث في نهاية المطاف، مع قدر كبير من اليقين... أكثر من ذي قبل، يجب بذل جهد من حيث التفكير المستقبلي.
لذلك، بينما نحتفل عام 2021 بالذكرى السنوية الـ 170 لأول مؤتمر صحي دولي (في باريس)، يجب إعادة بناء العمل المتعدد الأطراف في المجال الصحي، خاصة إذا كانت الولايات المتحدة وأوروبا تريدان تجنب ترك احتكار عمل التطعيم في إفريقيا للصين وروسيا. فهذا الإطار يعمل بشكل جيد في عدد قليل من القطاعات والمناطق الجغرافية، لكنه لا يرقى إلى مستوى الوعد بصحّة عالميّة. يبرز كوفيد عالمًا أكثر تنافسية، حيث تؤكد القوى العظمى دورها لترى ظهور عالم ما بعد الغرب.
أخيرًا، تتكون هذه المنافسة من مواقف، ولكن يتم تنظيمها أيضًا من خلال تطورات تكنولوجية رئيسية. فبالارتكاز على علم البيانات، ظهرت حالات استخدام جديدة للذكاء الاصطناعي، لاكتشاف الأوبئة وكذلك للكشف عن الافراد (التعرف على الصوت)، أو لمراقبة السكان. ويعدّ التوصل الى لقاحات من الجيل التالي في غضون أشهر قليلة إنجازًا كبيرًا في العلم، حيث يستغرق الأمر عدة سنوات لتصميم واختبار لقاح واعتماده. لذلك انه جزء من طب الغد الذي ظهر مع هذه الأزمة. ويبقى أن نرى كيف سيتم إعادة توزيع هذه التطورات بشكل منصف بين البلدان أو وفقًا لمنطق القوة؛ يُخشى أنه يمكننا استبعاد ألا تسود الثانية.
* استاذ محاضر في معهد الدراسات السياسية في باريس، وأستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة موسكو.
**الأمين العام لـ مركز البحوث في معهد العلوم السياسية، واستاذ محاضر في معهد العلوم السياسية في باريس، باحث مشارك في المركز الجغراسياسي للمدرسة العليا للتجارة.
-- لم تُحدِث أزمة 2020 ثورة في الجغرافيا السياسية، وأصبح الوباء أزمة اقتصادية دولية
-- يواجه عالم الغد من الآن تحدي إعادة بنـــاء المؤسـسـات المتعـــــددة الأطـــراف
-- أكدت القوى الأوراسية نفسها، في وسائل الإعلام وعلى الأرض، كبدائل صحية للغرب
-- بعد عام من الوباء، تلقى نظام الأمم المتحدة ضربة في مصداقيته ومن غير المرجح أن يسعفه سباق التطعيم
-- في عالم الغد، لا يزال الاتحاد الأوروبي يسعى إلى استقلاليته ومكانته الصحية، فضلاً عن دوره الجغراستراتيجي
مضى على جائحة كوفيد -19 أكثر من عام. ولئن أدركت آسيا الخطر منذ نهاية عام 2019، فقد أعلنت أوروبا نفسها في حالة طوارئ قبل اثني عشر شهرًا، في مارس 2020. ومنذ الحجر الصحي الشامل الأول، انتشرت التكهنات حول “عالم ما بعد”. توقع البعض نقطة تحول تاريخية مواتية للمناخ بسبب التوقف المفاجئ لحركة المرور على الطرق وانكماش الحركة البحرية وعرقلة السياحة الدولية؛ وتوقع آخرون عالما في ركود دائم. وأعلن آخرون أخيرًا، فرحا او استنكارا، سيادية قسرية تعيد الحدود.
بعد مرور عام، استمرت الأزمة، متعددة الأوجه: من الصحة، أصبحت اقتصادية ومتعلقة بالميزانية. فقد أدى إغلاق قطاعات بأكملها إلى تباطؤ النمو العالمي (-4.9 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020 وفقًا لصندوق النقد الدولي). وانتقلت هذه الأزمة إلى المالية العامة من خلال قناة تقلص الإيرادات الضريبية، ومن ثمّ الإنفاق الهائل على الدعم والتحفيز... لقد أصبح الوباء أزمة اقتصادية دولية.
لم تُحدِث أزمة 2020 ثورة في الجغرافيا السياسية، بل أبرزت وكشفت اتجاهات معينة تعمل من قبل في “العالم السابق”. وعوض ان تحفّز على تطوير التنسيق والتعاون، غذّت مكافحة الفيروس الخصومات،
وعززت مواقف الصين وروسيا. فقد أكدت القوى الأوراسية نفسها، في وسائل الإعلام وعلى الأرض، كبدائل صحية للغرب. ومن الآن فصاعدًا، هدف السلطتين القوتين، هو اغتنام فرصة هذا الوباء لتكريس “نزع الطابع الغربي عن العالم. «
المتعدد الأطراف
في سكتة دماغية
لقد أدى الوباء أولاً إلى إضعاف نظام الأمم المتحدة المدعوم من الأوروبيين، وتسبّب في تشويه سمعة منظمة الصحة العالمية، وأصبحت وكالة الأمم المتحدة المتخصصة، التي اتهمها الرئيس ترامب عام 2020 بتقليل حجم المخاطر الصحية وحتى إخفائها، موضوع جدل بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة. وهكذا وجدت منظمة الصحة العالمية نفسها فجأة عالقة في “فخ ثيوسيديدس” لاستخدام تعبير جراهام أليسون: وفقًا لهذا الجيوسياسي الأمريكي، فإن الصين والولايات المتحدة منخرطتان الآن في دوامة العداء الذي ساد بين أثينا وسبارتا في القرن الرابع قبل الميلاد. بعبارة أخرى، تعتبر بكين قوة صاعدة تنافس القوة الراسخة لواشنطن من أجل الهيمنة العسكرية.
وأصبحت منظمة الصحة العالمية ضحية مباشرة لتعليق مساهمة الولايات المتحدة في ميزانيتها (أكثر من 15 بالمائة من الميزانية العامة لعام 2019). لذلك تسبب الوباء في إضعاف إضافي للعمل المتعدد الاطراف في جانبه الصحي. وبدا أنه يبرر القراءة الصينية والروسية لمنظومة الأمم المتحدة: أداة للولايات المتحدة، ولا تدعمها إلا عندما تخدم مصالحهما الجيوسياسية. وفي صورة العكس، فإن منظومة الأمم المتحدة تسيء لنفسها بيدها.
لتلبية احتياجات الصحة العامة للبلدان الأقل ثراءً، تم إطلاق مبادرة تسريع اتاحة أدوات كوفيد-19 في أبريل 2020. ومن أشهر جوانبها والواعدة أكثر هي الآلية التي تمولها منظمة الصحة العالمية والمجتمع المدني: كوفاكس. ويهدف هذا الجهاز إلى توزيع ملياري جرعة من اللقاحات بحلول نهاية عام 2021. لكن الصعوبات التي واجهها كوفاكس توضح ضعف العمل متعدد الاطراف: في الوقت الحالي، لم تتمكن منظمة الصحة العالمية من طلب سوى 700 مليون جرعة. والإعلان الختامي لمجموعة السبع في 19 فبراير يشير إلى عجز الغرب على مراعاة المصالح الصحية لأفريقيا (رغم انه من مصلحتهم): تم الإعلان عن 13 مليون جرعة فقط للعاملين في مجال الرعاية الصحية في القارة التي يبلغ عدد سكانها 1، 2 مليار نسمة.
الزعامة الأمريكية تفقد قوتها
في نهاية عام من الوباء العالمي، فقد نظام الأمم المتحدة مصداقيته، ومن غير المرجح أن ينجح السباق الدولي حول التطعيم في رد الاعتبار له. ويواجه عالم الغد من الان التحدي المتمثل في إعادة بناء المؤسسات المتعددة الأطراف. ومن غير المؤكد أن عودة الولايات المتحدة بقيادة جو بايدن إلى منظمة الصحة العالمية سيكون كافيا لتبديد القلق بسرعة.
لأن العمل المتعدد الاطراف الأممي في مجال الصحة لم يفقد مصداقيته بإرادته، فقد كان إلى حد كبير ضحية رئاسة ترامب والعمى الطبي لإدارته. وحتى يتبرا من مسؤولية الخسائر الخطيرة للغاية (أكثر من 500 ألف حالة وفاة)، ألقى الرئيس المنتهية ولايته في الحملة باللوم على كبش الفداء المعتاد: المنظمات الدولية، وجمهورية الصين الشعبية، والعلماء. وتم استبدال الازدراء تجاه الشركاء والسلطات الطبية بنظرية المؤامرة.
وهنا مرة أخرى، سرّعت الأزمة ووقّعت الانسحاب الأمريكي، ونتيجته الطبيعية: ضعف الأطر الدولية. ان إدارة بايدن ليست مخطئة في عزمها إحياء المنظمات الدولية من خلال إعادة تأكيد الالتزام والزعامة الأمريكية. في النهاية، أصبح عالم الوباء معروفًا جيدًا، حيث يُنظر إليه من بكين وموسكو، على انه نظام للعلاقات الدولية حيث يقوم العمل المتعدد الاطراف الظاهري في الواقع على الهيمنة الأمريكية والتبعية الأوروبية لها. ومع ذلك، فإن التأثير المتزايد للصين داخل مؤسسات الأمم المتحدة يميل إلى تخفيف هذه الصلة الميكانيكية بين المتعدد الاطراف والزعامة الأمريكية التي عشناها بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد طغى الانسحاب الارادي للولايات المتحدة على عالم الوباء، ووحده النجاح العالمي للقاح الأمريكي فايزر للمسنين يسمح بالحد من هذا الاستنتاج.
حيوية المنافسة السلطوية
بفضل الانسحاب الأمريكي، استحوذت الطموحات الصينية والروسية على الصحة كمجال للتعبير عن قوتهما العلمية واللوجستية والصناعية. ففي بكين وموسكو، كانت المعركة ضد الوباء أولاً وقبل كل شيء صراعًا لتأكيد تفوق الأنظمة السلطوية على الغرب. في الواقع، تخلل عامي 2020 و2021 صراع العمالقة. في الربع الأول من عام 2020، كانت المواجهة بين الصين وخصومها الإقليميين (تايوان، كوريا، اليابان) والعالميين (الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة) حول عدد الإصابات والوفيات. في منافسة مروعة، أغرقت جمهورية الصين الشعبية الرأي العام العالمي في مسابقة سجلات -بدت إحصاءاتها في بعض الأحيان مشكوك فيها. وفي دوامة كمية نموذجية للأنظمة السلطوية، يتم تقييم جودة النظام السياسي من حيث عدد المصابين والموتى.
في الاثناء، أطلقت الصين وروسيا أيضًا “دبلوماسية الكمّامة” التي تهدف إلى مواجهة نفوذ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مناطق نفوذهما وعلى أراضيهما: الشرق الأوسط وإيطاليا، إلخ. مرة أخرى، يفترض أن تقاس جودة النظام السياسي من خلال إنتاج الكمامات والعباءات والقفازات وأجهزة التنفس وأسرّة المستشفيات. وكانت هيبة الأنظمة السياسية موضع تقدير من خلال قدرتها على نقلها حول العالم.
2020، كانت المنافسة حول سرعة تطوير اللقاح: مع سبوتنيك V، أطلقت روسيا سباقًا على السرعة. ثم نافست الصين بسينوفاك وسينوفارم. واليوم، من خلال التطعيم في جميع أنحاء العالم، نجحت روسيا والصين في تحدي الغرب لتفوزا بالثلاثية، صناع الصحة العالمية، والرواد العلميين، ومقدمي المساعدات الإنسانية.
لقد قامت القوتان الأوراسيتان بالتلقيح داخل مناطق نفوذ كل منهما: في آسيا الوسطى، في البلقان، في الهند وفي الجزائر، لصالح روسيا. لكنهما اكتسبتا أيضًا نفوذًا حيث وجد الغرب صعوبة لنشر اللقاحات: أمريكا اللاتينية لروسيا، والشرق الأوسط للصين. ولئن قام الاتحاد الأوروبي بتصدير حوالي 25 مليون جرعة خارج الاتحاد، فإن الصينيين والروس يعلنون عن أرقام لا يمكن التحقق منها. وتجدر الإشارة إلى أنه في هذه المرحلة، شهدت اللقاحات الغربية (أسترازينيكا، فايزر -بيوانتك، موديرنا) توزيعًا أوسع (في عدد من البلدان المعنية). لكن الروس والصينيين سجلوا نقاطًا في المعركة الاتصالية، بالدعاية حول لقاحاتهم (سبوتنيك، سينوفارم، سينوفاك). خارج نطاق الفضاء الصحي البحت، تشارك الصين في المنافسة الدولية من أجل التعافي الاقتصادي، حيث أعلنت عن أرقام نمو فوق المتوسط لعام 2021، وذلك بفضل السيطرة المبكرة على الوباء، وتسجيل تعاف اقتصادي سبق ان بدأ عام 2020.
بالنسبة للصين وروسيا، يجب ان يسرّع الوباء حركة نزع الطابع الغربي عن العالم. وليس مهما إذا نظرنا إلى الأشياء عن قرب، فلا الصين (حيث الوباء تحت السيطرة) ولا روسيا (باختيارها، رغم الوباء) تقوم بتطعيم سكانها إلى حد كبير.
الاستقلالية الصحية
المتعثرة للاتحاد الأوروبي
«إذا اضطررت إلى القيام بذلك مرة أخرى، فسوف أبدأ بالصحة”، يمكن القول باستعارة مقولة تنسب إلى جان مونيه، بتصرف. ولئن لم يكن لدينا أي أثر لـ “المجموعة الثقافية الأوروبية”، فإن مشروع “المجموعة الصحية الأوروبية” كان في المقابل مقترحًا من قبل الوزير الفرنسي بول ريبير في أوائل الخمسينات من القرن الماضي. ولعل إعادة البناء وذاكرة الأنفلونزا الإسبانية التي أطالت امد الحرب العالمية الأولى تفسر بلا شك هذا الاقتراح، الذي لم تتم متابعته. لذلك ظلت الصحة، في معظمها، من اختصاص الدولة حتى بداية أزمة كوفيد.
بعد فترة أولى من الفوضى في أوائل عام 2020، والتراجع في إحدى الحريات الأربع (حرية التنقل)، حاول الاتحاد الأوروبي إيجاد وحدة في مواجهة الأزمة. وقد فعل ذلك من خلال إطلاق وكالة شراء مركزية للقاحات بسرعة، على الرغم من التأخير في الطلبات والبطء في المفاوضات. ويبدو أن الردّ الأوروبي غائب من وجهة النظر هذه، ومتخلف عن دول مثل الولايات المتحدة أو إسرائيل أو المملكة المتحدة التي سرّعت وتيرة التطعيم. وبشكل عام، رغم التزامها، وشراء كميات هائلة من اللقاحات (أكثر من اللازم) وحركة المرضى عبر الحدود، فقد خسرت بروكسل معركة الصورة مع بكين أو موسكو.
في عالم الغد، لا يزال الاتحاد الأوروبي يسعى إلى استقلاليته ومكانته الصحية، فضلاً عن دوره الجغراستراتيجي. لكن قد تكون الأزمة بمثابة مؤشر، بالنسبة لفرنسا وكذلك بالنسبة لأوروبا: يجب أن تستند سياسة الأمن الصحي إلى فهم أفضل لسلاسل القيمة، وقدرات إنتاجية ذاتية جزئيًا، وسياسة بحثية أكثر تفاعلية، وسياسات أكثر اتساقًا واستباقية... ان أوروبا تُبنى أيضًا من خلال الأزمات والوباء ليس استثناءً.
عالم ما بعد:
بدون الغرب؟
إذا كان عالم ما بعد قائم الان، فهو ليس بالضرورة العالم المتفائل الذي كان قبل عام، ولا بالضرورة “هو نفسه ولكن في صورة أسوأ”. يمكن التأسف لعدم الاستعداد لمواجهة هذه الأزمة، التي ربما ستبقى الدرس الرئيسي لهذه الفترة التاريخية، لكن من الخطأ القول إن الوباء كان مفاجأة مطلقة لدرجة أن نسيم نيكولاس طالب، كان قادراً على التحدث في تعارض عن “البجعات السوداء” التي كرس لها بحثا مشهوراً عن “البجعة البيضاء”، بمعنى شيء سيحدث في نهاية المطاف، مع قدر كبير من اليقين... أكثر من ذي قبل، يجب بذل جهد من حيث التفكير المستقبلي.
لذلك، بينما نحتفل عام 2021 بالذكرى السنوية الـ 170 لأول مؤتمر صحي دولي (في باريس)، يجب إعادة بناء العمل المتعدد الأطراف في المجال الصحي، خاصة إذا كانت الولايات المتحدة وأوروبا تريدان تجنب ترك احتكار عمل التطعيم في إفريقيا للصين وروسيا. فهذا الإطار يعمل بشكل جيد في عدد قليل من القطاعات والمناطق الجغرافية، لكنه لا يرقى إلى مستوى الوعد بصحّة عالميّة. يبرز كوفيد عالمًا أكثر تنافسية، حيث تؤكد القوى العظمى دورها لترى ظهور عالم ما بعد الغرب.
أخيرًا، تتكون هذه المنافسة من مواقف، ولكن يتم تنظيمها أيضًا من خلال تطورات تكنولوجية رئيسية. فبالارتكاز على علم البيانات، ظهرت حالات استخدام جديدة للذكاء الاصطناعي، لاكتشاف الأوبئة وكذلك للكشف عن الافراد (التعرف على الصوت)، أو لمراقبة السكان. ويعدّ التوصل الى لقاحات من الجيل التالي في غضون أشهر قليلة إنجازًا كبيرًا في العلم، حيث يستغرق الأمر عدة سنوات لتصميم واختبار لقاح واعتماده. لذلك انه جزء من طب الغد الذي ظهر مع هذه الأزمة. ويبقى أن نرى كيف سيتم إعادة توزيع هذه التطورات بشكل منصف بين البلدان أو وفقًا لمنطق القوة؛ يُخشى أنه يمكننا استبعاد ألا تسود الثانية.
* استاذ محاضر في معهد الدراسات السياسية في باريس، وأستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة موسكو.
**الأمين العام لـ مركز البحوث في معهد العلوم السياسية، واستاذ محاضر في معهد العلوم السياسية في باريس، باحث مشارك في المركز الجغراسياسي للمدرسة العليا للتجارة.