كسّر المستشار المحرمات
الدفاع والأمن: ألمانيا تستبدل جلدها وتغيّر مسارها...!
-- كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي دائما على قناعة بأن الأمن في أوروبا يجب أن يتم مع روسيا، وليس ضدها
-- الأغلبية مطالبة بتشجيع النقاش الاستراتيجي في البلاد بدلاً من محاولة تفاديه كما في الماضي
-- هل انتهى التردد الألماني، وضبط النفس، والإيمان بالحوار «من يتكلم لا يطلق النار»؟
-- سيكون نقـاشـًا سـاخنا حــول دور القوات المسلحة الألمانية في العلاقات الدولية
كانت المفاجأة كاملة -أو كادت. إن ما أعلنه المستشار أولاف شولتز في 27 فبراير من على منبر البوندستاغ، يغيّر جذريًا مسار سياسة الأمن والدفاع الألمانية. تفاصيل هذا التغيير، التي صرح المستشار أنها ضرورية في مواجهة “المنعطف التاريخي” في 24 فبراير، تاريخ الهجوم الروسي على أوكرانيا، لم تكن معروفة بالكامل لشركائه المقربين. فقد تخلى أولاف شولتز فجأة عن المواقف التي دافعت عنها ألمانيا لسنوات عديدة، وخاصة، من قبل حزبه، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحزب الخضر -حتى 25 فبراير. لم يكن الوزراء، باستثناء وزير المالية، ولا قادة الكتل البرلمانية للتحالف، على دراية بالإعلانات المحددة التي كان المستشار على وشك إصدارها: اتفاق ألمانيا على منع نظام المعاملات المالية الدولية سويفت لروسيا، رغم أنه ينطبق في البداية فقط على عدد مختار من البنوك الروسية؛ إنشاء صندوق إضافي بقيمة 100 مليار يورو لبرامج تسليح الجيش الألماني؛ الانفاق بانتظام من الآن فصاعدًا أكثر من 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. كل هذا بعد السماح عشية اتخاذ هذه القرارات بتسليم الأسلحة إلى أوكرانيا. لقد كسر المستشار المحرمات في السياسة الألمانية بطريقة غير مسبوقة.
اجتمع في جلسة استثنائية بناء على طلب المستشار بعد ثلاثة أيام من الهجوم العسكري الروسي على الجارة الأوكرانية، تم اختيار البرلمان الفيدرالي ليكون مسرحًا، في يوم أحد، حيث كرّست الزعامة السياسية لأولاف شولتز نفسها، وقد طال انتظارها منذ 8 ديسمبر 2021 تاريخ توليه منصبه. على المستوى الوطني، تم ترسيخ رفض تسليم الأسلحة إلى “مناطق الأزمات” داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر، وكان جزءً من حمضهما النووي.
وتم تأكيد هذا المبدأ مرة أخرى في اليوم التالي للهجوم الروسي على أوكرانيا من قبل وزير الداخلية (اشتراكي ديمقراطي) في بث تلفزيوني. وخلال الحملة الانتخابية العام الماضي، تعرض روبرت هابيك، الزعيم المشارك لحزب الخضر آنذاك، ونائب المستشار الآن، لانتقادات شديدة من قبل أصدقائه لقوله خلال زيارة إلى دونباس أنه ربما يكون من الصعب حرمان الأوكرانيين من الأسلحة الدفاعية. وكان أولاف شولتز قد شارك في الموقف الرافض هذا. ومنذ يوم السبت الماضي، أصبح هذا المنطق من الماضي.
قرار الناتو، الذي تم تأكيده عام 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا، والذي يقضي بأن تنفق الدول الأعضاء ما لا يقل عن 2 بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع اعتبارًا من عام 2024، لم يتم قبوله لا من قبل الخضر، كانوا حينها في المعارضة، ولا من قبل عدد كبير من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي، بتوقيع وزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير، وافق مع ذلك على هذا الالتزام. بل أن توقعات ميزانية وزير المالية أولاف شولتز”2018-2021” أعلنت عن انخفاض طفيف في الإنفاق بداية من عام 2022 بعد زيادات بنحو 1.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. وموافقة الحزب الاشتراكي الديمقراطي. منذ يوم الأحد الماضي، تجعل ذاك الرفض من الماضي. هل تشير هذه التفاصيل بوضوح إلى مدى التغيير السياسي الذي أعلنه المستشار. هل انتهى التردد الألماني، وضبط النفس، والإيمان بالحوار “من يتكلم لا يطلق النار”؟ على الصعيد الدولي، هل رفعت ألمانيا قدمها عن الفرامل وقررت وضعها على المسرّع؟ الوضع أكثر تعقيدًا من ذلك، وهو أمر لا يثير الدهشة بالنظر الى خطورة الأحداث -فالحرب على الحدود، أطلقتها قوة نووية عظمى. وتبرز اليوم ثلاثة تحديات بشكل عاجل.
إلى أي مدى الحكومة
مستعدة للذهاب؟
من ناحية، يجب ترجمة الإجراءات المعلنة إلى أفعال. وهذا هو التحدي الذي يجب أن تواجهه السياسات الحزبية التي لا تزال تشكل إطار العمل لجميع الإجراءات الحكومية. وهذا لن يكون سهلا. فمع العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على روسيا، تسير الأمور بسرعة نسبيًا، غير ان مدى الإجراءات المتعلقة بنظام سويفت سيتم تقييمها لاحقًا. لأن ألمانيا، أكثر من الدول الأوروبية الأخرى، تعتمد بشكل كبير على واردات الهيدروكربونات من روسيا “55 بالمائة من الغاز، 37 بالمائة من النفط، 50 بالمائة من الفحم».
بالتأكيد، قررت الحكومة الجديدة القيام بكل شيء وبسرعة لإخراج البلاد من هذا الوضع، لأن روسيا قد تقرر أيضًا إيقاف هذه الصادرات. لن تحدث هذه التغييرات بين عشية وضحاها. وفي غضون ذلك، تريد ألمانيا أن تكون قادرة على الاستمرار في دفع ثمن وارداتها. إن الوقف الكامل لنظام سويفت سيجعل مثل هذه العمليات في غاية الصعوبة، ولم يستبعد وزير المالية ذلك. تشديد هذه العقوبات المالية لا يزال ممكنا، وقد أوقفت عديد الشركات عملياتها في روسيا، مما سيترك بصماته على الاقتصاد الألماني والأوروبي. لم نصل بعد إلى نهاية التصعيد، لكن إلى أي مدى مستعدة الحكومة الألمانية الذهاب؟ وبأي مخاطر سياسية؟ يبقى ذلك للمراقبة.
يطرح صندوق الدفاع البالغ 100 مليار يورو أيضًا مشاكل سياسية لم يتم ذكرها في خطاب المستشار. يقترح أولاف شولتز دمج إنشاء هذا الصندوق في الدستور. وهذا يعني أنه سيحتاج إلى أصوات المعارضة، أي الاتحاد المسيحي الديمقراطي / الاتحاد المسيحي الاجتماعي، لأن أي تغيير في الدستور يتطلب أغلبية الثلثين في مجلسي البرلمان، البوندستاغ والبوندسرات.
ولكن، رغم ان فريدريك ميرز، الزعيم الجديد للمعارضة، أكد للمستشار دعم حزب المستشارة السابقة ميركل لمشروعه “صوتوا مع أحزاب التحالف على قرار يدعم موقف المستشار” فإنه يضع شروطًا لهذا الصندوق فيما يتعلق بقواعد مديونية الدولة. وستكون هذه مشكلة خاصة لوزير المالية كريستيان ليندنر، الذي، من ناحية، كزعيم للحزب الليبرالي، يمثل جانب التقشف في الائتلاف، لكنه، من ناحية أخرى، تبنّى مشروع المستشار هذا، واعطاه اسما يتماشى مع أصدقائه لتهدئتهم حيث سيكون هذا الصندوق بمثابة صندوق “استثمار من أجل الحرية”. يبقى أن نرى ما سيحدث عند تقديم النصوص.
لم يكن الجميع مسرورًا بإعلان المستشار زيادة الإنفاق على الميزانية العسكرية إلى ما يزيد عن 2 بالمائة أيضًا، وكان أول من أشاد به نواب المعارضة الحزب المسيحي الديمقراطي، والجانب الليبرالي من الائتلاف، في حين تساءل نواب حزب الخضر والاشتراكيين الديمقراطيين. وطالب الجناح اليساري للحزب الاشتراكي الديمقراطي على الفور بألا تلحق هذه الزيادة في الميزانية العسكرية التي يريد دعمها، الضرر بالبرامج الاجتماعية؛ ويصر الخضر على ألا يؤثر هذا على المشاريع المكلفة للغاية للانتقال البيئي للاقتصاد.
لقد ازداد ثقل المهمة، الثقيلة اصلا، لهذا التحالف، المطالب بتحديث البلاد والسيطرة على تغيّر المناخ مع احترام انضباط معين في الميزانية. ويبقى أن نرى ما إذا كان سيتم الحفاظ على هذه الالتزامات وكيف سيتم الوفاء بها. وستكون هذه أيضًا مشكلة كبيرة لوزيرة الدفاع كريستين لامبرخت “الحزب الاشتراكي الديمقراطي”، التي تجد نفسها في مواجهة مشكلة تنظيم بيتها لإدارة برامج الإنفاق والمقتنيات بشكل أفضل، والتي هي موضوع انتقادات متعددة ومنذ فترة طويلة. فقبل أن ننفق أكثر، يجب أن ننفق بشكل أفضل.
التزام استراتيجي
هنا يأتي التحدي الثاني -التحدي الاستراتيجي. حتى الآن، يتم الحديث، كما جرت العادة، عن المال. وفي كثير من الأحيان، كانت المناقشات السياسية الدولية في ألمانيا تدور حول المال. والسؤال: المال لفعل ماذا، ولأي غرض، غالبًا ما يتم تركه جانبًا.
غير ان هذا السؤال يُطرح الآن أكثر من أي وقت مضى. لا تُعرف السياسة الألمانية بانخراطها في المناقشات الاستراتيجية، سواء في سياق الاتحاد الأوروبي ورؤية الاستقلال الاستراتيجي، وسواء داخل الناتو ومسألة اتجاهه للمستقبل. واليوم، هذه الأسئلة تثار نهائيا. فبالإضافة إلى الالتزامات المالية التي أعلن عنها المستشار، يجب على الحكومة أن تفسح المجال لالتزام استراتيجي.
وبناء على تصريحات أولاف شولتز، الأغلبية مطالبة بأن تشجع النقاش الاستراتيجي في البلاد بدلاً من محاولة تفاديه كما في الماضي. وسيكون نقاشًا حول دور القوات المسلحة في العلاقات الدولية، وهو نقاش مرفوض في مجتمع يفضل الابتعاد عن كل ما هو عسكري “لأسباب تاريخية، هذا صحيح؛ لكن هل لا يزال هذا صالحًا؟”؛ مجتمع لا يهتم كثيرًا بقواته المسلحة وبالذين يشكلونها، الجنود؛ مجتمع وجد راحته في موقع بعيد عن الصراعات، حيث لا يُقبل سوى جيش للدفاع عن الأرض، لأن المجتمع لا يرى أي تهديد للبلاد. كما سيدور النقاش حول دور السياسة الأمنية والدفاعية لأوروبا. هل يجب أن تكون أوروبا قادرة وبأي شكل على لعب دور جيوسياسي يجعل صوتها مسموعًا ومحترمًا؟ وسيكون النقاش حول مستقبل الناتو ودور الولايات المتحدة في أوروبا، والذي سيستمر في التركيز بشكل أكبر على الصين والمحيط الهادئ، وستكون مناقشة حول روسيا والمكانة التي يجب أن تحتلها في أوروبا.
كل هذا مطروح على الطاولة عندما يتعين على ألمانيا اتخاذ قرار بشأن الجهود التي هي على استعداد لبذلها لإعادة بناء قوة دفاع ذات مصداقية، وهي لم تعد كذلك، إذا سلّمنا بصيحات رئيس اركان قوات البر التحذيرية؛ وعندما سيأخذ الحلفاء التزامات برلين على محمل الجد، وهي التزامات أكبر اقتصاد في أوروبا. من الجيد أن نعلن، في مواجهة الحرب الحالية في أوكرانيا، عن زيادة هائلة في الجهود المالية. ولن يكون هذا كافياً إذا لم تقترن هذه الجهود بدعم قوي من المجتمع المدني، الدعم الذي لا يمكن أن يتطور دون أن يتمكن المجتمع من تكوين رؤية “عامة” لما هو على المحك.
«علاقات خاصة” مع روسيا
يضاف إلى ذلك التحدي الثالث، التحدي الذي يواجهه الألمان على وجه الخصوص. لطالما كانت هناك فكرة معينة عن “العلاقات الخاصة” بين ألمانيا وروسيا، وهي فكرة مدعومة من اليسار كما من اليمين، وفوق كل شيء، فإن الحزب الاشتراكي الديمقراطي هو المعنيّ بالأمر.
ان حزب ويلي براندت الاشتراكي الديمقراطي، هو الذي ساهمت سياسة الانفراج مع الاتحاد السوفياتي التي اعتمدها في السبعينات في انهيار الكتلة السوفياتية ونهاية الحرب الباردة، وتقسيم البلاد والقارة. وقد كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بعد إعادة توحيد ألمانيا وانهيار الاتحاد السوفياتي في التسعينات، هو من أنشأ ودعّم العديد من أشكال المناقشة والتعاون على مستوى المجتمعات والشركات المدنية الألمانية والروسية، والذي كان دائما على قناعة بأن الأمن في أوروبا يجب أن يتم مع روسيا، وليس ضدها.
وأن يدين مستشار من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أولاف شولتز، الآن العدوان المسلح لروسيا على جارتها؛ فقد يكون أدرك أن الرئيس الروسي كذب عليه، وأن العديد من ممثلي الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذين التزموا لسنوات بالصداقة الألمانية الروسية، أُجبروا على ترك مهامهم -كل هذا يشكل تحديًا آخر، تحدّ أخلاقيّ لفاعلين سياسيين في ألمانيا، قريبين أو منتمين إلى حزب المستشار شولتز الذي قلب لتوه السياسة التقليدية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بسبب العدوان الروسي. إضافة إلى أنّ المستشار السابق للحزب الاشتراكي الديمقراطي، غيرهارد شرودر، لا يزال يرفض، بعد اندلاع الحرب من قبل صديقه فلاديمير بوتين، الاستقالة من نياباته المربحة لشركات الدولة الروسية، ولهذا تأثير كبير في هذا النقاش العام في منعطف تاريخي.
مستشار سابق لحلف الناتو.
-- الأغلبية مطالبة بتشجيع النقاش الاستراتيجي في البلاد بدلاً من محاولة تفاديه كما في الماضي
-- هل انتهى التردد الألماني، وضبط النفس، والإيمان بالحوار «من يتكلم لا يطلق النار»؟
-- سيكون نقـاشـًا سـاخنا حــول دور القوات المسلحة الألمانية في العلاقات الدولية
كانت المفاجأة كاملة -أو كادت. إن ما أعلنه المستشار أولاف شولتز في 27 فبراير من على منبر البوندستاغ، يغيّر جذريًا مسار سياسة الأمن والدفاع الألمانية. تفاصيل هذا التغيير، التي صرح المستشار أنها ضرورية في مواجهة “المنعطف التاريخي” في 24 فبراير، تاريخ الهجوم الروسي على أوكرانيا، لم تكن معروفة بالكامل لشركائه المقربين. فقد تخلى أولاف شولتز فجأة عن المواقف التي دافعت عنها ألمانيا لسنوات عديدة، وخاصة، من قبل حزبه، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحزب الخضر -حتى 25 فبراير. لم يكن الوزراء، باستثناء وزير المالية، ولا قادة الكتل البرلمانية للتحالف، على دراية بالإعلانات المحددة التي كان المستشار على وشك إصدارها: اتفاق ألمانيا على منع نظام المعاملات المالية الدولية سويفت لروسيا، رغم أنه ينطبق في البداية فقط على عدد مختار من البنوك الروسية؛ إنشاء صندوق إضافي بقيمة 100 مليار يورو لبرامج تسليح الجيش الألماني؛ الانفاق بانتظام من الآن فصاعدًا أكثر من 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. كل هذا بعد السماح عشية اتخاذ هذه القرارات بتسليم الأسلحة إلى أوكرانيا. لقد كسر المستشار المحرمات في السياسة الألمانية بطريقة غير مسبوقة.
اجتمع في جلسة استثنائية بناء على طلب المستشار بعد ثلاثة أيام من الهجوم العسكري الروسي على الجارة الأوكرانية، تم اختيار البرلمان الفيدرالي ليكون مسرحًا، في يوم أحد، حيث كرّست الزعامة السياسية لأولاف شولتز نفسها، وقد طال انتظارها منذ 8 ديسمبر 2021 تاريخ توليه منصبه. على المستوى الوطني، تم ترسيخ رفض تسليم الأسلحة إلى “مناطق الأزمات” داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر، وكان جزءً من حمضهما النووي.
وتم تأكيد هذا المبدأ مرة أخرى في اليوم التالي للهجوم الروسي على أوكرانيا من قبل وزير الداخلية (اشتراكي ديمقراطي) في بث تلفزيوني. وخلال الحملة الانتخابية العام الماضي، تعرض روبرت هابيك، الزعيم المشارك لحزب الخضر آنذاك، ونائب المستشار الآن، لانتقادات شديدة من قبل أصدقائه لقوله خلال زيارة إلى دونباس أنه ربما يكون من الصعب حرمان الأوكرانيين من الأسلحة الدفاعية. وكان أولاف شولتز قد شارك في الموقف الرافض هذا. ومنذ يوم السبت الماضي، أصبح هذا المنطق من الماضي.
قرار الناتو، الذي تم تأكيده عام 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا، والذي يقضي بأن تنفق الدول الأعضاء ما لا يقل عن 2 بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع اعتبارًا من عام 2024، لم يتم قبوله لا من قبل الخضر، كانوا حينها في المعارضة، ولا من قبل عدد كبير من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي، بتوقيع وزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير، وافق مع ذلك على هذا الالتزام. بل أن توقعات ميزانية وزير المالية أولاف شولتز”2018-2021” أعلنت عن انخفاض طفيف في الإنفاق بداية من عام 2022 بعد زيادات بنحو 1.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. وموافقة الحزب الاشتراكي الديمقراطي. منذ يوم الأحد الماضي، تجعل ذاك الرفض من الماضي. هل تشير هذه التفاصيل بوضوح إلى مدى التغيير السياسي الذي أعلنه المستشار. هل انتهى التردد الألماني، وضبط النفس، والإيمان بالحوار “من يتكلم لا يطلق النار”؟ على الصعيد الدولي، هل رفعت ألمانيا قدمها عن الفرامل وقررت وضعها على المسرّع؟ الوضع أكثر تعقيدًا من ذلك، وهو أمر لا يثير الدهشة بالنظر الى خطورة الأحداث -فالحرب على الحدود، أطلقتها قوة نووية عظمى. وتبرز اليوم ثلاثة تحديات بشكل عاجل.
إلى أي مدى الحكومة
مستعدة للذهاب؟
من ناحية، يجب ترجمة الإجراءات المعلنة إلى أفعال. وهذا هو التحدي الذي يجب أن تواجهه السياسات الحزبية التي لا تزال تشكل إطار العمل لجميع الإجراءات الحكومية. وهذا لن يكون سهلا. فمع العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على روسيا، تسير الأمور بسرعة نسبيًا، غير ان مدى الإجراءات المتعلقة بنظام سويفت سيتم تقييمها لاحقًا. لأن ألمانيا، أكثر من الدول الأوروبية الأخرى، تعتمد بشكل كبير على واردات الهيدروكربونات من روسيا “55 بالمائة من الغاز، 37 بالمائة من النفط، 50 بالمائة من الفحم».
بالتأكيد، قررت الحكومة الجديدة القيام بكل شيء وبسرعة لإخراج البلاد من هذا الوضع، لأن روسيا قد تقرر أيضًا إيقاف هذه الصادرات. لن تحدث هذه التغييرات بين عشية وضحاها. وفي غضون ذلك، تريد ألمانيا أن تكون قادرة على الاستمرار في دفع ثمن وارداتها. إن الوقف الكامل لنظام سويفت سيجعل مثل هذه العمليات في غاية الصعوبة، ولم يستبعد وزير المالية ذلك. تشديد هذه العقوبات المالية لا يزال ممكنا، وقد أوقفت عديد الشركات عملياتها في روسيا، مما سيترك بصماته على الاقتصاد الألماني والأوروبي. لم نصل بعد إلى نهاية التصعيد، لكن إلى أي مدى مستعدة الحكومة الألمانية الذهاب؟ وبأي مخاطر سياسية؟ يبقى ذلك للمراقبة.
يطرح صندوق الدفاع البالغ 100 مليار يورو أيضًا مشاكل سياسية لم يتم ذكرها في خطاب المستشار. يقترح أولاف شولتز دمج إنشاء هذا الصندوق في الدستور. وهذا يعني أنه سيحتاج إلى أصوات المعارضة، أي الاتحاد المسيحي الديمقراطي / الاتحاد المسيحي الاجتماعي، لأن أي تغيير في الدستور يتطلب أغلبية الثلثين في مجلسي البرلمان، البوندستاغ والبوندسرات.
ولكن، رغم ان فريدريك ميرز، الزعيم الجديد للمعارضة، أكد للمستشار دعم حزب المستشارة السابقة ميركل لمشروعه “صوتوا مع أحزاب التحالف على قرار يدعم موقف المستشار” فإنه يضع شروطًا لهذا الصندوق فيما يتعلق بقواعد مديونية الدولة. وستكون هذه مشكلة خاصة لوزير المالية كريستيان ليندنر، الذي، من ناحية، كزعيم للحزب الليبرالي، يمثل جانب التقشف في الائتلاف، لكنه، من ناحية أخرى، تبنّى مشروع المستشار هذا، واعطاه اسما يتماشى مع أصدقائه لتهدئتهم حيث سيكون هذا الصندوق بمثابة صندوق “استثمار من أجل الحرية”. يبقى أن نرى ما سيحدث عند تقديم النصوص.
لم يكن الجميع مسرورًا بإعلان المستشار زيادة الإنفاق على الميزانية العسكرية إلى ما يزيد عن 2 بالمائة أيضًا، وكان أول من أشاد به نواب المعارضة الحزب المسيحي الديمقراطي، والجانب الليبرالي من الائتلاف، في حين تساءل نواب حزب الخضر والاشتراكيين الديمقراطيين. وطالب الجناح اليساري للحزب الاشتراكي الديمقراطي على الفور بألا تلحق هذه الزيادة في الميزانية العسكرية التي يريد دعمها، الضرر بالبرامج الاجتماعية؛ ويصر الخضر على ألا يؤثر هذا على المشاريع المكلفة للغاية للانتقال البيئي للاقتصاد.
لقد ازداد ثقل المهمة، الثقيلة اصلا، لهذا التحالف، المطالب بتحديث البلاد والسيطرة على تغيّر المناخ مع احترام انضباط معين في الميزانية. ويبقى أن نرى ما إذا كان سيتم الحفاظ على هذه الالتزامات وكيف سيتم الوفاء بها. وستكون هذه أيضًا مشكلة كبيرة لوزيرة الدفاع كريستين لامبرخت “الحزب الاشتراكي الديمقراطي”، التي تجد نفسها في مواجهة مشكلة تنظيم بيتها لإدارة برامج الإنفاق والمقتنيات بشكل أفضل، والتي هي موضوع انتقادات متعددة ومنذ فترة طويلة. فقبل أن ننفق أكثر، يجب أن ننفق بشكل أفضل.
التزام استراتيجي
هنا يأتي التحدي الثاني -التحدي الاستراتيجي. حتى الآن، يتم الحديث، كما جرت العادة، عن المال. وفي كثير من الأحيان، كانت المناقشات السياسية الدولية في ألمانيا تدور حول المال. والسؤال: المال لفعل ماذا، ولأي غرض، غالبًا ما يتم تركه جانبًا.
غير ان هذا السؤال يُطرح الآن أكثر من أي وقت مضى. لا تُعرف السياسة الألمانية بانخراطها في المناقشات الاستراتيجية، سواء في سياق الاتحاد الأوروبي ورؤية الاستقلال الاستراتيجي، وسواء داخل الناتو ومسألة اتجاهه للمستقبل. واليوم، هذه الأسئلة تثار نهائيا. فبالإضافة إلى الالتزامات المالية التي أعلن عنها المستشار، يجب على الحكومة أن تفسح المجال لالتزام استراتيجي.
وبناء على تصريحات أولاف شولتز، الأغلبية مطالبة بأن تشجع النقاش الاستراتيجي في البلاد بدلاً من محاولة تفاديه كما في الماضي. وسيكون نقاشًا حول دور القوات المسلحة في العلاقات الدولية، وهو نقاش مرفوض في مجتمع يفضل الابتعاد عن كل ما هو عسكري “لأسباب تاريخية، هذا صحيح؛ لكن هل لا يزال هذا صالحًا؟”؛ مجتمع لا يهتم كثيرًا بقواته المسلحة وبالذين يشكلونها، الجنود؛ مجتمع وجد راحته في موقع بعيد عن الصراعات، حيث لا يُقبل سوى جيش للدفاع عن الأرض، لأن المجتمع لا يرى أي تهديد للبلاد. كما سيدور النقاش حول دور السياسة الأمنية والدفاعية لأوروبا. هل يجب أن تكون أوروبا قادرة وبأي شكل على لعب دور جيوسياسي يجعل صوتها مسموعًا ومحترمًا؟ وسيكون النقاش حول مستقبل الناتو ودور الولايات المتحدة في أوروبا، والذي سيستمر في التركيز بشكل أكبر على الصين والمحيط الهادئ، وستكون مناقشة حول روسيا والمكانة التي يجب أن تحتلها في أوروبا.
كل هذا مطروح على الطاولة عندما يتعين على ألمانيا اتخاذ قرار بشأن الجهود التي هي على استعداد لبذلها لإعادة بناء قوة دفاع ذات مصداقية، وهي لم تعد كذلك، إذا سلّمنا بصيحات رئيس اركان قوات البر التحذيرية؛ وعندما سيأخذ الحلفاء التزامات برلين على محمل الجد، وهي التزامات أكبر اقتصاد في أوروبا. من الجيد أن نعلن، في مواجهة الحرب الحالية في أوكرانيا، عن زيادة هائلة في الجهود المالية. ولن يكون هذا كافياً إذا لم تقترن هذه الجهود بدعم قوي من المجتمع المدني، الدعم الذي لا يمكن أن يتطور دون أن يتمكن المجتمع من تكوين رؤية “عامة” لما هو على المحك.
«علاقات خاصة” مع روسيا
يضاف إلى ذلك التحدي الثالث، التحدي الذي يواجهه الألمان على وجه الخصوص. لطالما كانت هناك فكرة معينة عن “العلاقات الخاصة” بين ألمانيا وروسيا، وهي فكرة مدعومة من اليسار كما من اليمين، وفوق كل شيء، فإن الحزب الاشتراكي الديمقراطي هو المعنيّ بالأمر.
ان حزب ويلي براندت الاشتراكي الديمقراطي، هو الذي ساهمت سياسة الانفراج مع الاتحاد السوفياتي التي اعتمدها في السبعينات في انهيار الكتلة السوفياتية ونهاية الحرب الباردة، وتقسيم البلاد والقارة. وقد كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بعد إعادة توحيد ألمانيا وانهيار الاتحاد السوفياتي في التسعينات، هو من أنشأ ودعّم العديد من أشكال المناقشة والتعاون على مستوى المجتمعات والشركات المدنية الألمانية والروسية، والذي كان دائما على قناعة بأن الأمن في أوروبا يجب أن يتم مع روسيا، وليس ضدها.
وأن يدين مستشار من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أولاف شولتز، الآن العدوان المسلح لروسيا على جارتها؛ فقد يكون أدرك أن الرئيس الروسي كذب عليه، وأن العديد من ممثلي الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذين التزموا لسنوات بالصداقة الألمانية الروسية، أُجبروا على ترك مهامهم -كل هذا يشكل تحديًا آخر، تحدّ أخلاقيّ لفاعلين سياسيين في ألمانيا، قريبين أو منتمين إلى حزب المستشار شولتز الذي قلب لتوه السياسة التقليدية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بسبب العدوان الروسي. إضافة إلى أنّ المستشار السابق للحزب الاشتراكي الديمقراطي، غيرهارد شرودر، لا يزال يرفض، بعد اندلاع الحرب من قبل صديقه فلاديمير بوتين، الاستقالة من نياباته المربحة لشركات الدولة الروسية، ولهذا تأثير كبير في هذا النقاش العام في منعطف تاريخي.
مستشار سابق لحلف الناتو.