الأكثر إثارة للقلق

جانب كبير من الولايات المتحدة يحب ترامب حقا...!

جانب كبير من الولايات المتحدة يحب  ترامب حقا...!

-- الولايات المتحدة دولة منقسمة، ربما أكثر مما كانت عليه منذ أواخر خمسينات القرن التاسع عشر
-- الفائز انتزع انتصاره بفارق ضئيل، وليس بالضربة القاضية
-- ارتفعت نسبة الإقبال بشكل كبير، لكن ليس لصالح بايدن بالكامل
-- هُزم ترامب في النهاية، لكن أمام الترامبية مستقبل مشرق
-- دونالد ترامب هو الكاهن الذي يمنح الغفران


   أعلن فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، إلا أن ملامح فوزه -وصورة البلد الذي سيحاول قيادته -تختلفان كثيراً عن الصورة التي كان قد وضعها السياسيون ورسمتها استطلاعات الرأي قبل الانتخابات.
   لقد توقع العديد من المحللين -ويبدو أن الأرقام تثبت صحة ذلك -أن ترامب لن يخسر فحسب، بل سيتفتت أشلاء. عام 2016، أقروا بأن العديد من الناخبين أرادوا منح هذا الشخص المغمور والبراق فرصة.

لكن عام 2020، بعد رؤيته وهو يعمل طيلة أربع سنوات، سيتراجعون عن قرارهم، وسيرغبون في إعادة البضاعة إلى المتجر، وسترتفع المشاركة، خاصة بين النساء والشباب. وكل هذا سيؤدي بطبيعة الحال إلى انتصارات مدوية لبايدن والديمقراطيين الآخرين.    يبدو المنطق واضحا... يمر الاقتصاد بأزمة خطيرة، ويرفض ترامب التفاوض على حزمة تحفيز مع مجلس النواب ذي الأغلبية الديمقراطية، وتسبب الوباء في مقتل أكثر من ربع مليون أميركي، ويقتل ألف آخرين كل يوم، لكن ترامب يقول إن أرقام الوفيات كاذبة أثارها الأطباء الجشعون.    إنه يخرق جميع قواعد المواطنة الصالحة، ويضغط على وزير العدل لمقاضاة جو بايدن وهيلاري كلينتون، ويختار تجاهل التقارير الاستخباراتية عندما تتعارض مع تحيزاته، ويحذر العشرات من كبار المسؤولين السابقين والعسكريين المتقاعدين، وكثير منهم يحظى بتقدير كبير، من أنه ليس في مستوى المهمة في البيت الأبيض.

مرآة أمريكا
   ومع ذلك، يبدو أن كل هذا كان أقل بكثير مما كان متوقعًا. ارتفعت نسبة الإقبال بشكل كبير لكن ليس لصالح بايدن بالكامل، والفائز سيكون قد انتزع انتصاره بفارق شعرة، وليس بصفعة في وجه خصمه.   
 وهذا يثير سؤالاً أكثر انفتاحًا وأكثر إزعاجًا.
خلال الحملة، بايدن والعديد ممن تحدثوا نيابة عنه، من بينهم الرئيس الأسبق باراك أوباما، أحد أكثر الرجال شعبية في الحياة العامة، قالوا عن بعض أوجه قصور ترامب انها: “لا تعكس من نحن؟”... في النهاية قد يكون صحيحا.

   من المعتاد الاعتقاد بأن هيلاري كلينتون خسرت لأنها كانت لا تحظى بشعبية، وأنها خاضت حملة سيئة، ولأن الروس تدخلوا في وسائل التواصل الاجتماعي، وان جيمس كومي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، أعاد فتح التحقيق في رسائل البريد الإلكتروني للمرشحة قبل أيام قليلة من الانتخابات.
كل هذا صحيح دون شك، لكن يظهر الآن سبب أبسط: الكثير من الأمريكيين يحبون ترامب حقًا -ويظل هذا صحيحًا حتى عندما لا تكون هيلاري كلينتون موجودة أو، على حد علمنا، لا يوجد تدخل خارجي.

   النقطة المهمة هي أننا دولة منقسمة، ربما أكثر مما كنا عليه منذ أواخر خمسينات القرن التاسع عشر -منقسمون ليس فقط أيديولوجيًا وسياسيًا (وهو أمر طبيعي؛ والهدف من الانتخابـــــات هو الحســـــم في ذلك) ولكن أيضـــــًا في رؤيتنا للعالم.
   ويبدو أن المعسكرين يسكنان عوالم مختلفة. في أحد العالمين، نلاحظ الوقائع، واحترام العلم، وتعطي قيمة على الأقل لأهداف الديمقراطية والكياسة؛ وفي العالم الآخر، لا. وينظر الاثنان إلى بعضهما البعض بازدراء تقشعر له الأبدان. هُزم ترامب في النهاية، لكن أمام الترامبية مستقبل مشرق.

تأكيد أفكاره المظلمة
   في أحدث إصدار لنيويورك ريفيو أوف بوكس، يتذكر الكاتب المسرحي والباحث والاس شون عندما كان صغيرا، في العشرين سنة التي تلت الحرب العالمية الثانية (والتي تتوافق أيضًا مع شباب جو بايدن)، ان السياسيين الأمريكيين كانوا يفوزون بالأصوات من خلال وعدهم بمساعدة المحتاجين. ويكتب شون: “بدا الأمريكيون مدمنين على تصور أن بلادهم تمثل الفضيلة والعدل والطيبة في عالم يكاد يكون فيه الشر في المقدمة».

   وكما علم لاحقًا من الكتب التي قرأها ومن أسفاره ومناقشاته، فقد ارتكبت أمريكا أيضًا لفترة طويلة “مذابح لا توصف” منذ بدايات وجودها.
ومع ذلك، فإن القيم التي ورثناها منعتنا من التعمق في الجانب المظلم بل ودفعتنا إلى القيام بأشياء جديرة بالثناء حقًا. والجديد مع ترامب هو أنه تخلى عن هذه الأسطورة تمامًا، ووفقًا لشون، يبدو أن العديد من الأمريكيين “يشعرون بارتياح كبير».

   ويتابع: “حقيقة أن زعيم أحد حزبينا “...” لم يخجل من الكشف عن أنانيته أمام معاناة الآخرين، ولم يخجل من الكشف عن بهجة المتعة التي تلهمه اياها ممارسة القسوة ... كل هذا ساعد الناس على الشعور بأنهم لم يعودوا بحاجة للخجل من أن يكونوا هكذا أيضًا. وأنهم ليسوا مجبرين على ان يكونوا غير مرتاحين لمجرد أنهم لا يهتمون بمصير الآخرين.

 “...” في عالم يريد فيه الأغنياء الإذن لأخذ ما يمكنهم أخذه دون الشعور بأي خجل، وحيث يشعر الكثير من غير الأغنياء بالقلق من فقدان كل شيء ويجدون صعوبة في القلق بشأن بؤس الآخرين، ترامب هو الكاهن الذي يمنح الغفران، وبمعنى ما، يبدو أنه يقول لأتباعه أن التعاطف ربما يكون مجرد قيمة جديدة للنخبة الثقافية التي يكرهها وهم معه كثيرًا، مثل النطق بجمل طويلة والاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية.»
   قبل نصف قرن ، صاغ بعض الأكاديميين اليساريين ، في بريطانيا على وجه الخصوص، عبارة “الاشتراكية القائمة بالفعل” لوصف دول الإمبراطورية السوفياتية ، وخاصة ألمانيا  الشرقية.

 وكانت الفكرة هي التمييز بين هذه الأنظمة الاستبدادية والجامدة، التي اعتبروها تشويهات للاشتراكية، والمثل الأصلية لهذه الأيديولوجية. وبالمثل، قد يكون من المفيد الآن الإشارة إلى حياتنا السياسية الحالية على أنها “أمريكا كما هي قائمة بالفعل».
   لأن هذه هي حقيقة ما نحن عليه، رغم أن الكثير منا يشعر أن هذه ليست الطريقة التي ينبغي أن نكون عليها.