دفع فكرة المشككين في أوروبا إلى الواجهة:

غولدسميث، المخترع المنسي للبريكسيت والسيادية...!

غولدسميث، المخترع المنسي للبريكسيت والسيادية...!

  • جعل من التشكيك في الاتحاد الأوروبي موضوعاً سياسياً مستقلاً في المملكة المتحدة
  • توفي غولد سميث بسبب سرطان البنكرياس، وهي المعركة الوحيدة التي خسرها في حياته
  • طرح السير غولدسميث أفكارًا متمردة في زمنه، تشترك جميعها في إدانة النمو بأي ثمن
  • كان رجل الأعمال اللامع، ورجل الصحافة المتقلب، ناشطًا بيئيًا مبكرًا

السير جيمس غولدسميث أحد الشخصيات البراقة في السبعينيات والثمانينيات. جاء من سلالة من المجتمع الإنجليزي الراقي، وعائلة أم من أوفيرني، ولقبه يستحضر أخيه إدوارد، الناشط والمفكر البيئي، وابنة أخته كليو، الممثلة في موضة الثمانينات، ابنته جمينا، الزوجة السابقة لعمران خان، رئيس وزراء باكستان الحالي، وابنه زاك، وزير البيئة الحالي في المملكة المتحدة والمرشح السابق الذي هزم لمنصب عمدة لندن.    شخصية روائية، عُرف بخطفه بالطائرة لرفيقته الأولى ماريا إيزابيل باتينيو، ابنة ملياردير بوليفي من أجل أن يتزوجها. بعد ذلك، كان خبيرا ماليا بارزًا، وحقق ثروة، وأصبح بدوره مليارديرًا، بدءًا من صناعة الأدوية والأغذية الزراعية.
رجل صحافة غريب الأطوار
   شغوفًا بعالم الإعلام، ولكن ربما كان مزهوّا جدًا وأقل مهارة من سيلفيو برلسكوني في هذا المجال، لم يحصل على النتائج التي توقعها. عرف الجمهور الفرنسي العام غولدسميث عن طريق شراء مجلة لاكسبريس، التي عهد بزمام أمورها لفريق يتألف على وجه الخصوص من جان فرانسوا ريفيل وريموند آرون وأوليفييه تود، الذين أقام معهم علاقات عاصفة توشّحها خلافات ومصالحات مذهلة.
   ثم أسّس مجلة الآن في المملكة المتحدة، مجلة إخبارية زالت بسرعة وكانت فريدة من نوعها في البلاد، أشادت بها مارغريت تاتشر، الا ان مالكها نسفها لمجرد نزوة بعد فترة وجيزة. ويروي جان فرانسوا ريفيل، في مذكراته، بعنوان لص في بيت فارغ (بلون)، بشيء من المودة، هذا المدير الصحفي اللامع والغاضب وصاحب الحضور الطاغي والغائب، والمتدخل دون أن يرغب أبدًا في تولي ادارة المجلة مباشرة.
   ترك غولدسميث العمل عام 1987 وعاد لفترة وجيزة عام 1989. ثم كرس نفسه للقتال من أجل تأكيد رؤيته للعالم، والتي تأسست في البداية على قاعدة بيئية صارمة.

من الليبرالية المتطرفة
 إلى نقد النمو بأي ثمن
   صديق مقرب لمارغريت تاتشر، اشتهر غولدسميث بتمسكه بالليبرالية المتطرفة دون ان يخفي ذلك، مع الحفاظ على علاقات ودية للغاية مع رئيس وزراء حزب العمال هارولد ويلسون، الذي جعله من النبلاء.
   ومع ذلك، كان لهذه الليبرالية المتطرفة المبدئية سقفها وحدودها عندما واجهها غولدسميث بقناعاته البيئية، ثم مع تطور التكامل الأوروبي.
والرابط بين هاتين النقطتين الأخيرتين، التجارة الحرة، هو الذي نجح في إبعاده عن النموذج النيوليبرالي، وعن أطروحات ريكاردو، وعن بناء الشركات العابرة للوطنية، التي كانت أكثر شراهة ونهما، حسب رايه، من الشركات التقليدية متعددة الجنسيات التي لا تزال تحترم إلى حد ما حدود الدول والديمقراطيات... لذلك انعطف وتحوّل في مطلع التسعينات.
   من الواضح أن تأثير شقيقه إدوارد غولدسميث لم يكن غريبا. ناشط بيئي، مؤلف العديد من الكتب والجمعيات التي تروج لمفهوم راديكالي إلى حد ما عن البيئة، تتبناه في بعض الأحيان قطاعات معينة من اليمين المتطرف، كان لإدوارد تأثير على شقيقه الى درجة جعله يبيع إحدى شركاته الكندية في مجال الخشب.
   وبعد تقاعده من العمل، قسم غولدسميث وقته بين العديد من الاقامات الفخمة، ومزرعة في المكسيك، ومزرعة في إسبانيا، وقصر في بورغوني، حيث كان كل ما يزرعه عضويا، وحيث تعيش الحياة البرية بسلام.
   عام 1993، نشر كتاب “الفخ”، الذي يعرض فيه تفاصيل أفكاره البيئية والحمائية والمشككة في أوروبا. ومن التشكيك في المؤشرات الاقتصادية، مثل الناتج القومي الإجمالي، الى تسليط الضوء على مفهوم تنمية بوتان؛ ومن النقد الحاد للزراعة المكثفة، مع الأخذ كمثال جنون البقر والكائنات المعدلة وراثيًا، إلى انتقاد “أكاذيب” الطاقة النووية المدنية، يطرح السير جيمس غولدسميث أفكارًا لا تزال متمردة في ذلك الوقت، بما أنها تشترك في نقطة هي ضرورة مراجعة النمو بأي ثمن.
   وخصوصا، يوجه انتقاداته الشديدة لأوروبا ما بعد ماستريخت، ولا سيما توقع نقاط ضعف العملة الموحدة والهيكل المؤسسي للاتحاد الأوروبي. أخيرًا، بينما كان العالم يحتفي بتوقيع اتفاقيات الغات وولادة منظمة التجارة العالمية، فإنه وجّه نقدًا جذريًا للتجارة الحرة، وهاجم أطروحات ديفيد ريكاردو. وستكون الموضوعات التي تناولها في قلب النقاش العام في فرنسا خاصة طيلة ربع قرن. وأصبح كتابه من أكثر الكتب مبيعًا حيث بيعت منه 100 ألف نسخة
السير جيمس
 ينزل  إلى الحلبة
   عام 1994، هو عام أول انتخابات أوروبية بعد ماستريخت. في فرنسا، فاز معسكر “نعم” في الاستفتاء بفارق ضئيل. وعلى اليسار، عرض جان بيير شيفانمن قائمته، وعلى اليمين، تعذّر على فيليب سيغين وشارل باسكوا الامر، فطرح فيليب دي فيلييه قائمة وحصل على دعم جيمي غولدسميث.
   متأخرا في استطلاعات الرأي بأقل من 5 بالمائة، بعيدًا جدًا عن قائمة الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية -التجمع من أجل الجمهورية برئاسة دومينيك بوديس، فهو مدين لعملية مالية صغيرة من غولدسميث لفائدة معهد سبر اراء ليحصل على اذابة جليد ارقامه. وفي نفس الوقت، تمّ توزيع إحدى الصحف التي ينتجها باتريك بويسون في كل منزل. وتقول الحملة “لا” ثلاث مرات: لماستريخت، للجات، لشنغن... النجاح مضمون.
   في 12 يونيو 1994، حصلت قائمة فيلييه-غولدسميث، على 12 فاصل 34 بالمائة من الأصوات، وكان الفوز. وبعد دخولهم البرلمان الأوروبي، تولى نواب “الأغلبية لأوروبا أخرى”، مع النواب الدنماركيين من حركة يونيو، رئاسة أول مجموعة برلمانية أوروبية متشككة في أوروبا، مجموعة أوروبا الأمم... ليصبح غولدسميث رئيسها.
   شرع جيمي غولدسميث على الفور في بناء أول حزب حقيقي يشكك في أوروبا في المملكة المتحدة، حزب الاستفتاء. ولئن تم تأسيس حزب استقلال المملكة المتحدة في نهاية عام 1993، أي قبل عام من حزب الاستفتاء، فمن الواضح أن هذا الأخير هو الذي دفع فكرة المشككين في أوروبا إلى الواجهة.
   إن هدف الحزب السياسي هو المطالبة بإجراء استفتاء، وهو أمر ملتبس بما فيه الكفاية، لكي تكون نتيجته موضع شك وتساؤل: “هل تريد أن تكون المملكة المتحدة جزءً من دولة فيدرالية أم مجموعة من الأمم ذات سيادة؟”. لكن هذا يبقى واضحًا بما فيه الكفاية في ذلك الوقت لكي تصبح مسألة الانضمام إلى العملة الموحدة تحتاج الى استشارة شعبية. لذلك كان جيمي غولدسميث هو من جعل من التشكيك في الاتحاد الأوروبي موضوعاً سياسياً مستقلاً في المملكة المتحدة.
   في مايو 1997، حصل حزب الاستفتاء على 800 ألف صوت، أو 2 فاصل 6 بالمائة. ولئن لم يكن لديه نائب، فمن المرجّح أن ذلك كلّف حزب المحافظين 10 أو 15، وخصوصا أجبر توني بلير على التعهد باستشارة البريطانيين بشأن العملة الموحدة.
  توفي جيمي غولدسميث بعد شهرين في مزرعته في ماربيا بإسبانيا بسبب سرطان البنكرياس، وهي المعركة الوحيدة التي خسرها في حياته.

فاراج قبل فاراج
   بعد ذلك بعامين، وصل شاب في أوائل صيف 1999 على متن دراجة هوائية الى برلمان ستراسبورغ. إنه أحد النواب الثلاثة المنتخبين من حزب استقلال المملكة المتحدة، وهو طريف، ويحضر كل يوم ثلاثاء لقاءات مجموعة اس او اس ديمقراطية المشككة في أوروبا، لكنه لا يجرؤ كثيرًا على التحدث باستثناء الوشوشة إلى جيرانه المباشرين على النقيض تماما من السير جيمس: سيجسد نايجل فاراج مع ذلك تدريجياً التشكيك البريطاني تجاه أوروبا.
   بعد اختفاء جيمي غولدسميث، انضمّ نشطاء من حزبه إلى حزب فاراج. ومع ذلك، كان غولدسميث هو فاراج قبل فاراج.  لقد وضع الفكرة المتشككة في أوروبا في قلب الحياة السياسية البريطانية وسمح بما لا يمكن تصوره: خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
عضو مرصد الراديكاليات السياسية في مؤسسة جان جوريس، باحث في العلوم السياسية، متخصص في اليمين والأبعاد الثقافية للسياسة، ومؤلف العديد من البحوث منها “إلى اللقاء غرامشي” “منشورات سارف 2015”.