إعادة انتخاب ماكرون:

فرنسا: دروس جولة ثانية محفوفة بالمخاطر...!

فرنسا: دروس جولة ثانية محفوفة بالمخاطر...!

• تغذي الصعوبات المادية للفرنسيين زلزالًا أيديولوجيًا، تستمر توابعه في زعزعة ما كان، في كثير من الأحيان، إجماعًا لعقود
• تم تعبئة ناخبي التجمع الوطني بشكل مفرط مما يؤكد صحة فكرة أن ناخب التجمّع لا يحركه سوى الهجوم -الانتخابي على رأس الدولة
• من بين المرشّحين، يُصوّت لمارين لوبان فقط دعما لأفكارها وقناعة بمشروعها
• 25 بالمائة فقط من ناخبي الرئيس ماكرون مقتنعون بأفكاره
• توضح الأرقام الفوضى الأيديولوجية العميقة لبلد كان خاضعًا لاضطرابات أزمات متتالية


انتصار إيمانويل ماكرون الساحق على مارين لوبان يضفي الشرعية مرة أخرى على الرئيس، لكن لا ينبغي أن يخفي العديد من الجوانب التي تشكل حقيقة دولة ممزقة. لقد ولت الأيام التي أعلن فيها الرئيس ميتران، عشية الانتخابات الرئاسية عام 1988، أنه في الأيام التي تعقب الاقتراع، ستستأنف الحياة الطبيعية دورتها وحقوقها. لقد غيّرنا الزمن، وإذا كانت الدعوات لعقد "جولة ثالثة" من هذه الانتخابات قديمة، فإن فرنسا منقسمة بشكل نادر ما يحدث في تاريخها. وبعد أن عاشت هذه الحملة الانتخابية الرئاسية، فإنه يُخشى ان تُذكّر الرئيس والحكومة بالأوجاع الضخمة التي تعتريها.    تغذي الصعوبات المادية للفرنسيين زلزالًا أيديولوجيًا، تستمر توابعه في زعزعة ما كان، في كثير من الأحيان، إجماعًا لعقود.

مبارزة الجولة الثانية على خلفية ثلاثية التعبئة في مناطق التجمّع، ولامبالاة في أراضي اليسار
في الجولة الأولى، تم تأكيد التقسيم الثلاثي للحياة السياسية الفرنسية. ومع ذلك، تم استبعاد أحد الأقطاب الثلاثة من الجولة الثانية. وشهدت هذه الجولة الثانية تعبئة الأراضي الانتخابية للتجمّع الوطني بشكل ملحوظ أكثر من الدوائر التي صوتت بشكل كبير لجان لوك ميلينشون في الجولة الأولى. وعلى عكس الانتخابات الوسيطة، تم تعبئة ناخبي التجمع الوطني بشكل مفرط مما يؤكد صحة فكرة أن ناخب التجمّع لا يحركه سوى الهجوم الانتخابي على رأس الدولة.
   أما بالنسبة للناخبين على اليسار، فإن استرخاءهم المهم نسبيًا بالنظر الى الرهان، إذا لم يكشف بالضرورة عن لامبالاة تجاه التجمع الوطني، فإنه يخون على الأقل شكلاً من أشكال المناعة بعيدًا عما كان عليه السلوك الانتخابي لليسار وعقيدته.

إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون رئيسًا في حالة تأهب ديمقراطي
   انتصار الرئيس المنتهية ولايته لا جدال فيه. وبحصوله على 58.6 بالمائة من الأصوات، فهو أول رئيس للجمهورية الفرنسية يتم إعادة انتخابه منذ عشرين عامًا. فقد كانت الفترات الرئاسية التي سبقت سنوات إيمانويل ماكرون، هي السنوات التي شهدت انتشار آثار الأزمة في جميع مجالات الحياة في البلاد. ووضع اختيار فترة الخمس سنوات المرشحين في موقف قريب جدًا من "صانع المطر"، وتم تعديله باعتباره موزعًا للإجراءات الفنية التي حلت محل الأهداف السياسية كموضوع للنقاش.
   في مواجهة منافسته، لعب إيمانويل ماكرون كل المعزوفات. مؤلفا جبهة انتخابية كبيرة مع تحالف مدته دقيقة واحدة زمن المرور الى الخلوة ووضع ورقة الاقتراع، ووفقًا لـ "سيفيبوف وايبسوس"، فإن 25 بالمائة فقط من ناخبي الرئيس المرشح مقتنعون بأفكاره. وسيحتاج الرئيس إلى الجرأة لتجاوز ما يشكل حتى الآن الجوهر الاجتماعي للماكرونية الانتخابية، واستقطاب الفرنسيين، الذين على الهامش الجغرافي أو الاجتماعي، يعادونه.

رقم قياسي لـ التجمع الوطني / الجبهة الوطنية
   حققت مارين لوبان تقدمًا قويًا مقارنة بعام 2017 بحوالي 42 بالمائة، مستفيدة من انفجار الغضب وانعدام الثقة والشكوك الزاحفة حول مزايا النظام الفرنسي. ومن الواضح أن الضائقة الاقتصادية والاجتماعية والشعور بسقوط المكانة الاجتماعية والانحدار الملحوظ في الحياة اليومية لكل فرد، من العوامل التي لها علاقة كبيرة بهذه النتيجة.
    ومن بين المرشحين الاثنين، هي التي يُصوّت لها دعما لأفكارها وقناعة بمشروعها. ويتم التصويت أكثر لمارين لوبان من خلال العضوية، و42 بالمائة من ناخبيها هم من المتبنّين لأفكارها. إن رأس المال الانتخابي والأيديولوجي لليمين المتطرف كبير، وتمثل هذه الانتخابات مرحلة مهمة في تقدمه.
   ومع ذلك، يبدو أنه لئن كانت الموضوعات الاجتماعية افادت مارين لوبان، فإن افتقارها إلى التجسيد قد لعب دورًا. وخطابها بعد الهزيمة بلهجات "الجبهة الوطنية الأولى"، يوحي بأن السكاكين الطويلة قد استلت بخصوص تحالف يجمع "اليمين القومي".

استعادة كرامة النقاش السياسي
   بدت هذه الحملة بين الجولتين أكثر جدارة من الأولى، حيث تضررت من خضوع طوعي وارادي لمعظم المترشحين لقواعد وسائل الإعلام التي أحالت السياسة إلى تلفزيون الواقع، منتزعة تسييس القضايا، ومختزلة المشاريع في جمل ورسائل صادمة ومثيرة.
   وبرفضه الذهاب إلى برنامج سيريل حنونه، اتخذ الرئيس المنتهية ولايته وجهة نظر معاكسة لمحادثاته مع ماكفلاي وكارليتو كمنافسين له، وبالتالي جنّب حملته والوظيفة شكلاً من أشكال الإهانة المميتة للسياسة.
  يُعرض في أي مكان، يتعرض الخطاب السياسي لأضرار جسيمة تؤدي إلى تدنّي قيمته أو رفضه. عند الإيطاليين، ساهم هذا النوع من برامج إمبراطورية برلسكوني الإعلامية في انحدار السياسة: سياسيونا هم ضحايا موافقون على ان يدانوا بعنف.
   في هذا المستنقع الذي يخلط بين لغة التكنو والصمامات المخصصة لتويتر أكثر من تنوير المواطنين حول رؤى هذا وذاك، غرقت عدة حملات في الانغلاق حول نفسها، مما جعل الانتخابات الرئاسية نوعًا من الشرط لتحقيق خطة إعادة التنظيم الحزبية. وكانت هذه هي حالة فاليري بيكريس، ولكن بشكل خاص، حالة أريك زمور، الذي كرس مساعديه أنفسهم لرسم الخطوط العريضة لـ "وحدة اليمين" -ولا سيما ناخبيهم.

ماتت أسطورة 21 أبريل
   عشية الجولة الأولى، منح ايفوب، وهو معهد اقتراع مشهور، 51 بالمائة من نوايا التصويت لإيمانويل ماكرون و49 بالمائة لمارين لوبان. قبل أيام قليلة من الجولة الثانية، نشر نفس المعهد دراسة استقصائية كشفت أن 49 بالمائة من النساء يعتبرن مارين لوبان نسوية. لا شك أنه لا توجد رغبة في هذه الاستطلاعات للعب على المخاوف أو الانفعالات أو التشويق بين الجولتين، مجرد أرقام توضح الفوضى الأيديولوجية العميقة لبلد كان خاضعًا (مثل الآخرين في هذا الشأن) لاضطرابات أزمات متتالية.
   عشرون عامًا تفصل بين 21 أبريل 2002 الشهير و24 أبريل 2022. وقد تم استهلاك شعار "21 أبريل" حتى العظم من قبل اليسار، مما جعل منه طيلة عقدين نوعا من المُبعد الشيطاني، والمُشعر بالذنب لأغراض التعبئة، وأحيانًا، أعطى قيمة لطقوس سحرية عند استحضاره. ومع ذلك، كان الدرس الرئيسي لعام 2002 هو الهجرة الجماعية للعمال والموظفين الذين تركوا الحزب الاشتراكي. فقد كشف التراكم الانتخابي، الحقيقي، عن تلقيح اليسار بالأدواء التي كانت ستجرفه بعد خمسة عشر عامًا.

نتائج أولى، تأكيدات أولى
النتائج المبكرة جدا التي وصلت يوم الأحد 24 أبريل من جزر الأنتيل شدّت المراقبين، مع ان أقاليم ما وراء البحار هي ملخص للصعوبات التي شهدت فرنسا تطورها، وعلى هذه الأراضي، التي سيطر عليها غالبًا في الجولة الأولى ميلينشون، لوحظ تحوّل واضح نحو مارين لوبان.
   تعاني أقاليم ما وراء البحار من مشاكل كبيرة مرتبطة بانخفاض مستوى المعيشة، وعجز مزمن من حيث تكافؤ الفرص، وأحيانًا تسارع انعدام الأمن ... هذه النتائج بمثابة كاشف أو مرآة مكبرة لما يمكن أن يعمل غالبًا كوقود أساسي لصاروخ التجمع الوطني. بين الجولتين، كان التعارض بين معسكرين، وبدرجة أقل بين فئتين من المواطنين. وهذا لا يعفي أي ناخب من مسؤولية اختياراته. ومع ذلك، فإن جنوح الأوساط الشعبية الى اليمين هو واقع رقيق، إذا كان يحمل تصويت التجمع الوطني، فلا يمكن أن يمحو الطبيعة الهائلة لثقل الامتناع عن التصويت وترتيب الأولويات المختلفة على مدى ثلاثة أجيال. لم يسبق أن ارتقى الحزب الذي أسسه جان ماري لوبان عالياً بمفرده ضد الجميع. وفي هذا السياق، فإن فوز الرئيس ماكرون هذا يلزمه: إعادة حياكة الروابط بين النخب والشعوب، والتوصل إلى توافق، والنظر في المآسي الاجتماعية الجارية ... ويمكن أن تكون فترة ولايته الجديدة، هي فترة الوئام والتضامن.
-----------
عضو مرصد الراديكاليات السياسية في مؤسسة جان جوريس، باحث في العلوم السياسية، متخصص في الحقوق والأبعاد الثقافية للسياسة، من مؤلفاته "إلى غد غرامشي".