يشكلان قاطرة الاتحاد الأوروبي:
ليس لدى الفرنسيين والألمان القيم نفسها ...!
-- صدمة النازية تركت آثارًا عميقة في الوعي الجماعي جعلت الألمان أول الأوروبيين رفضا للحلول السياسية الراديكالية
-- قيم يلتزم بها الألمان أكثر من الفرنسيين، وأخرى يفضلها الفرنسيون على جيرانهم
-- نسي الفرنسيون عنف ماضيهم الحربي والسياسي
-- الألمان أشد المؤيدين لمبادئ الليبرالية، من بين 22 دولة، بينما يحتل الفرنسيون المركز قبل الأخير
-- المزاج الفرنسي، الذي يمزج بين السلطوية والتمرد وعدم الانضباط، يتناقض مع الثقافة السياسية الألمانية
كتاب حديث لمؤرخين، أحدهما فرنسي والآخر ألماني “أعداء بالوراثة؟ بقلم هيلين ميار-ديلاكروا وأندرياس ويرشينج، فايارد” يلقي نظرة على التاريخ المضطرب للعلاقات الفرنسية الألمانية انطلاقا من هزيمة فرنسا عام 1870، اي قبل 150 عامًا.
يسلط الكتاب الضوء على إرادة الغزو المستمرة لألمانيا بعد تخليها، بفرض من بسمارك، على الطريقة الليبرالية والبرلمانية.
تشارلز جايغو، الذي كتب عن العمل في صحيفة لوفيغارو في 25 نوفمبر، يخلص إلى أن: “المصالحة الفرنسية الألمانية لا تستند إلى صلات اختيارية. بالتأكيد، أنه منذ نهاية القرن الثامن عشر، هناك إعجاب بالفرنكوفونية وشغف بالجرمانية في هذين البلدين، لكن ظل ذلك سمة من سمات النخب”، لينتهي بالحديث عن “اتحاد ضدّ الطبيعة بين الشعبين». المعطيات التي سأقدمها في هذه الورقة، تؤكد ذلك على مستوى مختلف عن الانعطاف التاريخي. سبق ان أكدت، في مقال سابق، على التناقضات في القيم بين الفرنسيين والألمان والتي ظهرت من الموجة الأخيرة (2017) من دراسة القيم الأوروبية. وأود أن أعود إليها بمزيد من التفصيل هنا لأن النتائج مذهلة للغاية.
فجوة في مبادئ
الديمقراطية الليبرالية
نحن امام عالمين متناقضين للغاية. توجد أنواع من القيم يلتزم بها الألمان أكثر بكثير من الفرنسيين، وأنواع من القيم يفضلها الفرنسيون على جيرانهم ما وراء نهر الراين.
الأنواع الخمسة من القيم التي يعطيها الألمان تفضيلًا ملحوظًا على الفرنسيين تتعلق جميعها بالمشاركة السياسية أو الاجتماعية والعلاقة بالديمقراطية.
وهكذا، فإن الألمان هم أشد المؤيدين لمبادئ الديمقراطية الليبرالية، من بين 22 دولة خضعت للدراسة، بينما يحتل الفرنسيون المركز قبل الأخير. تم بناء هذه النتيجة من عدة أسئلة شديدة الارتباط حول كيفية تعريف الديمقراطية، من خلال تقديم، للأشخاص المستجوبين، العديد من العناصر طُلب منهم أن يقولوا ما إذا كانت تشكل “خاصية أساسية للديمقراطية” أم لا.
وتشمل هذه العناصر على وجه الخصوص، حقيقة أن “الأفراد يختارون قادتهم في انتخابات حرة”، وهو ما يعتبره 94 بالمائة من الألمان ضروريًا (72 بالمائة من الفرنسيين)، أو حقيقة أن “الحقوق المدنية تحمي الأفراد من اضطهاد الدولة “، التي يعتبرها 84 بالمائة من الألمان (64 بالمائة من الفرنسيين) أساسية. وإذا كانت غالبية الألمان والفرنسيين يلتقون حول مبادئ الديمقراطية هذه، فان أقلية ذات دلالة من الشعب الفرنسي –ما يقارب الثلث-تنأى بنفسها.
ملامح معكوسة بشكل متماثل
لكن، مجرد الإجابة عن سؤال لن يسمح باستنتاج أن هناك تباينًا قويًا في القيم بين فرنسا وألمانيا، بل إن مجموعة من الإجابات تشكل نظامًا. الألمان مسيّسون (المرتبة الأولى في هذا المجال)، ومنخرطون في الحياة المجتمعية، وأكثر ثقة بشكل عفوي في الآخرين، ومتعلقين جدًا بالديمقراطية والمعايير المدنية (في الصدارة أيضًا في هذا المجال).
في حين يعرض الفرنسيون إلى حد كبير ملامح معكوسة بشكل متماثل. ويمكن أن نرى ذلك أيضًا فيما يتعلق بالنتائج التي حقق فيها الفرنسيون تقدمًا واضحًا هذه المرة على الألمان. نجد في نسبة كبيرة من الفرنسيين مزيجًا غريبًا من الدعوة الى سطوة السلطة، ان لم يكن جاذبية معينة للحلول السياسية السلطوية والفردية الممزوجة بقبول (بالتأكيد أقلي) للعنف السياسي.
وهكذا، في حين يرغب 78 بالمائة في “أن تُحترم السلطة أكثر” (54 بالمائة من الألمان)، فإن الفرنسيين ليسوا سوى 32 بالمائة يجدون من غير المبرر “طلب تعويض يتجاوز ما يستحقه المرء” (76 بالمائة من الألمان)، ويرى 59 بالمائة فقط أن “العنف السياسي” غير مبرر تمامًا (81 بالمائة من الألمان). ونضيف أن 13 بالمائة من الفرنسيين يرون أن “ يحكم الجيش البلاد”، سيكون وسيلة جيدة لحكمها (2 بالمائة من الألمان).
من الواضح أن هذا المزاج الفرنسي، الذي يمزج بين السلطوية والتمرد وعدم الانضباط، يتناقض مع الثقافة السياسية الألمانية القائمة على الاحترام الصارم للقواعد الديمقراطية والسلوك الحضاري والبحث عن حلول وسط.
لقد أبرزت حتى الآن السمات المتناقضة للبلدين فقط، لكن من الواضح أنهما يشتركان أيضًا في مجموعة من القيم، لا سيما الالتزام المشترك بالليبرالية الثقافية. كما ان تراجع المعتقدات الدينية، المرتبط به، في مستوى مماثل في البلدين (حتى وان كان الألمان أكثر انخراطًا في المؤسسات الدينية). الفرنسيون أكثر انفتاحًا من الألمان تجاه الأقليات والمهاجرين (رغم أن سياسة ألمانيا بشأن هذا الموضوع كانت في السنوات الأخيرة أكثر سخاءً من السياسة الفرنسية). كما يشترك البلدان أيضًا في المستوى نفسه من الثقة في أوروبا وفي المؤسسات بشكل عام.
النازية تركت بصماتها
لذلك لا يمكننا أن نقول إنّ عالم القيم الفرنسي والألماني غير متجانسين جذريًا. لأنه إذا كان الحال كذلك، فإنه سيشكل مشاكل خطيرة في أوروبا. لكننا مع ذلك نتعامل مع نموذجين متناقضين جدا، حتى لو كان الاعتراف بالحرية الفردية هو السائد بالطبع في كل منهما.
يبدو أن ألمانيا استخلصت كل دروس التاريخ ونبذت ماضيها العدواني والسلطوي. ومن الواضح أن الصدمة التاريخية للنازية قد تركت آثارًا عميقة في الوعي الجماعي الذي جعل الألمان أول الأوروبيين (إلى جانب النمساويين) يرفضون الحلول السياسية التسلطية الراديكالية، مثل حقيقة أن البلاد يمكن أن تحكم من قبل “رجل قوي لا يعنيه البرلمان أو الانتخابات”، أو أن “يدير الجيش البلاد “. ان الألمان هم أيضًا الأقل قومية بين جميع الأوروبيين.
لا شك أن لدى الفرنسيين ماض أقل ثقلا في حمله، كما أن قادتهم ونخبهم يعتبرون أن القيم الفرنسية الناتجة عن الثورة لها بُعد كوني ويمكن أن تكون نموذجًا. وغالبًا ما يتم التشهير بالغطرسة الفرنسية بشأن هذا الموضوع في أوروبا. وعلى عكس الألمان، نسى الفرنسيون ماضيهم القائم على العنف الحربي والسياسي، عندما لا يتعهدونه. كما لم تكن فرنسا قط، على عكس ألمانيا، دولة تسويات وحلول وسط نقابية وسياسية. ان تأثير الماركسية، الذي يتخذ اليوم وجهًا مختلفًا ولكنه يبقى حاضرا للغاية، لا يزال قويا هناك دائمًا، بينما اختفى تمامًا تقريبًا من المشهد الألماني.
إن أي ديمقراطي ليبرالي يتحلى بالاعتدال السياسي، والذي سيفحص بعين محايدة البيانات القليلة التي قدمتها للتو، سيختار بالتأكيد العيش في ألمانيا. يبقى، كما يحب الرئيس ماكرون أن يقول، “فن العيش على الطريقة الفرنسية” الذي لا يقدر بثمن، والذي ربما يرجح كفة الميزان.
-- قيم يلتزم بها الألمان أكثر من الفرنسيين، وأخرى يفضلها الفرنسيون على جيرانهم
-- نسي الفرنسيون عنف ماضيهم الحربي والسياسي
-- الألمان أشد المؤيدين لمبادئ الليبرالية، من بين 22 دولة، بينما يحتل الفرنسيون المركز قبل الأخير
-- المزاج الفرنسي، الذي يمزج بين السلطوية والتمرد وعدم الانضباط، يتناقض مع الثقافة السياسية الألمانية
كتاب حديث لمؤرخين، أحدهما فرنسي والآخر ألماني “أعداء بالوراثة؟ بقلم هيلين ميار-ديلاكروا وأندرياس ويرشينج، فايارد” يلقي نظرة على التاريخ المضطرب للعلاقات الفرنسية الألمانية انطلاقا من هزيمة فرنسا عام 1870، اي قبل 150 عامًا.
يسلط الكتاب الضوء على إرادة الغزو المستمرة لألمانيا بعد تخليها، بفرض من بسمارك، على الطريقة الليبرالية والبرلمانية.
تشارلز جايغو، الذي كتب عن العمل في صحيفة لوفيغارو في 25 نوفمبر، يخلص إلى أن: “المصالحة الفرنسية الألمانية لا تستند إلى صلات اختيارية. بالتأكيد، أنه منذ نهاية القرن الثامن عشر، هناك إعجاب بالفرنكوفونية وشغف بالجرمانية في هذين البلدين، لكن ظل ذلك سمة من سمات النخب”، لينتهي بالحديث عن “اتحاد ضدّ الطبيعة بين الشعبين». المعطيات التي سأقدمها في هذه الورقة، تؤكد ذلك على مستوى مختلف عن الانعطاف التاريخي. سبق ان أكدت، في مقال سابق، على التناقضات في القيم بين الفرنسيين والألمان والتي ظهرت من الموجة الأخيرة (2017) من دراسة القيم الأوروبية. وأود أن أعود إليها بمزيد من التفصيل هنا لأن النتائج مذهلة للغاية.
فجوة في مبادئ
الديمقراطية الليبرالية
نحن امام عالمين متناقضين للغاية. توجد أنواع من القيم يلتزم بها الألمان أكثر بكثير من الفرنسيين، وأنواع من القيم يفضلها الفرنسيون على جيرانهم ما وراء نهر الراين.
الأنواع الخمسة من القيم التي يعطيها الألمان تفضيلًا ملحوظًا على الفرنسيين تتعلق جميعها بالمشاركة السياسية أو الاجتماعية والعلاقة بالديمقراطية.
وهكذا، فإن الألمان هم أشد المؤيدين لمبادئ الديمقراطية الليبرالية، من بين 22 دولة خضعت للدراسة، بينما يحتل الفرنسيون المركز قبل الأخير. تم بناء هذه النتيجة من عدة أسئلة شديدة الارتباط حول كيفية تعريف الديمقراطية، من خلال تقديم، للأشخاص المستجوبين، العديد من العناصر طُلب منهم أن يقولوا ما إذا كانت تشكل “خاصية أساسية للديمقراطية” أم لا.
وتشمل هذه العناصر على وجه الخصوص، حقيقة أن “الأفراد يختارون قادتهم في انتخابات حرة”، وهو ما يعتبره 94 بالمائة من الألمان ضروريًا (72 بالمائة من الفرنسيين)، أو حقيقة أن “الحقوق المدنية تحمي الأفراد من اضطهاد الدولة “، التي يعتبرها 84 بالمائة من الألمان (64 بالمائة من الفرنسيين) أساسية. وإذا كانت غالبية الألمان والفرنسيين يلتقون حول مبادئ الديمقراطية هذه، فان أقلية ذات دلالة من الشعب الفرنسي –ما يقارب الثلث-تنأى بنفسها.
ملامح معكوسة بشكل متماثل
لكن، مجرد الإجابة عن سؤال لن يسمح باستنتاج أن هناك تباينًا قويًا في القيم بين فرنسا وألمانيا، بل إن مجموعة من الإجابات تشكل نظامًا. الألمان مسيّسون (المرتبة الأولى في هذا المجال)، ومنخرطون في الحياة المجتمعية، وأكثر ثقة بشكل عفوي في الآخرين، ومتعلقين جدًا بالديمقراطية والمعايير المدنية (في الصدارة أيضًا في هذا المجال).
في حين يعرض الفرنسيون إلى حد كبير ملامح معكوسة بشكل متماثل. ويمكن أن نرى ذلك أيضًا فيما يتعلق بالنتائج التي حقق فيها الفرنسيون تقدمًا واضحًا هذه المرة على الألمان. نجد في نسبة كبيرة من الفرنسيين مزيجًا غريبًا من الدعوة الى سطوة السلطة، ان لم يكن جاذبية معينة للحلول السياسية السلطوية والفردية الممزوجة بقبول (بالتأكيد أقلي) للعنف السياسي.
وهكذا، في حين يرغب 78 بالمائة في “أن تُحترم السلطة أكثر” (54 بالمائة من الألمان)، فإن الفرنسيين ليسوا سوى 32 بالمائة يجدون من غير المبرر “طلب تعويض يتجاوز ما يستحقه المرء” (76 بالمائة من الألمان)، ويرى 59 بالمائة فقط أن “العنف السياسي” غير مبرر تمامًا (81 بالمائة من الألمان). ونضيف أن 13 بالمائة من الفرنسيين يرون أن “ يحكم الجيش البلاد”، سيكون وسيلة جيدة لحكمها (2 بالمائة من الألمان).
من الواضح أن هذا المزاج الفرنسي، الذي يمزج بين السلطوية والتمرد وعدم الانضباط، يتناقض مع الثقافة السياسية الألمانية القائمة على الاحترام الصارم للقواعد الديمقراطية والسلوك الحضاري والبحث عن حلول وسط.
لقد أبرزت حتى الآن السمات المتناقضة للبلدين فقط، لكن من الواضح أنهما يشتركان أيضًا في مجموعة من القيم، لا سيما الالتزام المشترك بالليبرالية الثقافية. كما ان تراجع المعتقدات الدينية، المرتبط به، في مستوى مماثل في البلدين (حتى وان كان الألمان أكثر انخراطًا في المؤسسات الدينية). الفرنسيون أكثر انفتاحًا من الألمان تجاه الأقليات والمهاجرين (رغم أن سياسة ألمانيا بشأن هذا الموضوع كانت في السنوات الأخيرة أكثر سخاءً من السياسة الفرنسية). كما يشترك البلدان أيضًا في المستوى نفسه من الثقة في أوروبا وفي المؤسسات بشكل عام.
النازية تركت بصماتها
لذلك لا يمكننا أن نقول إنّ عالم القيم الفرنسي والألماني غير متجانسين جذريًا. لأنه إذا كان الحال كذلك، فإنه سيشكل مشاكل خطيرة في أوروبا. لكننا مع ذلك نتعامل مع نموذجين متناقضين جدا، حتى لو كان الاعتراف بالحرية الفردية هو السائد بالطبع في كل منهما.
يبدو أن ألمانيا استخلصت كل دروس التاريخ ونبذت ماضيها العدواني والسلطوي. ومن الواضح أن الصدمة التاريخية للنازية قد تركت آثارًا عميقة في الوعي الجماعي الذي جعل الألمان أول الأوروبيين (إلى جانب النمساويين) يرفضون الحلول السياسية التسلطية الراديكالية، مثل حقيقة أن البلاد يمكن أن تحكم من قبل “رجل قوي لا يعنيه البرلمان أو الانتخابات”، أو أن “يدير الجيش البلاد “. ان الألمان هم أيضًا الأقل قومية بين جميع الأوروبيين.
لا شك أن لدى الفرنسيين ماض أقل ثقلا في حمله، كما أن قادتهم ونخبهم يعتبرون أن القيم الفرنسية الناتجة عن الثورة لها بُعد كوني ويمكن أن تكون نموذجًا. وغالبًا ما يتم التشهير بالغطرسة الفرنسية بشأن هذا الموضوع في أوروبا. وعلى عكس الألمان، نسى الفرنسيون ماضيهم القائم على العنف الحربي والسياسي، عندما لا يتعهدونه. كما لم تكن فرنسا قط، على عكس ألمانيا، دولة تسويات وحلول وسط نقابية وسياسية. ان تأثير الماركسية، الذي يتخذ اليوم وجهًا مختلفًا ولكنه يبقى حاضرا للغاية، لا يزال قويا هناك دائمًا، بينما اختفى تمامًا تقريبًا من المشهد الألماني.
إن أي ديمقراطي ليبرالي يتحلى بالاعتدال السياسي، والذي سيفحص بعين محايدة البيانات القليلة التي قدمتها للتو، سيختار بالتأكيد العيش في ألمانيا. يبقى، كما يحب الرئيس ماكرون أن يقول، “فن العيش على الطريقة الفرنسية” الذي لا يقدر بثمن، والذي ربما يرجح كفة الميزان.