إثيوبيا وحرب تيغراي:

مقدمة للتفكك على نمط يوغوسلافيا السابقة...؟

مقدمة للتفكك على نمط يوغوسلافيا السابقة...؟

-- لئن كانت إثيوبيا اليوم دولة اتحادية، فإن التقسيمات الإدارية الداخلية للبلاد تتم وفقًا لاعتبارات عرقية
-- تخاطر إثيوبيا بالغرق في حرب أهلية شاملة تطال كامل القرن الأفريقي
-- طفت على السطح النزاعات الإقليمية للأسلاف، ويبدو أن التاريخ يريد أن يعيد نفسه


   منذ أكثر من شهر، تهز حرب قاتلة بشكل خاص شمال إثيوبيا في مقاطعة تيغراي الفيدرالية. البلد الذي يزيد عدد سكانه عن 110 ملايين نسمة، وهو ثاني أكبر دولة في إفريقيا من حيث عدد السكان بعد نيجيريا، لا يبدو أنه يعرف السلام أبدًا.
  بعد فترات المجاعة، والحكم الدموي الماركسي لمنغيستو هيلا مريم، والحرب مع إريتريا، جاء دور تيغراي اليوم لكي تمزقها الحرب الأهلية. حرب تسببت في مقتل الآلاف واستضافة السودان اليوم لأكثر من 50 ألف لاجئ في ظروف مزرية.

  للوهلة الأولى، يصعب فهم شراسة السلطة المركزية الإثيوبية بقيادة رئيس الوزراء الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2019 لاستعادته السلام بين إثيوبيا وإريتريا. ومع ذلك، فإن الأسباب التي تشرح نشأة هذا الصراع هي إلى حد كبير نتيجة وصوله إلى السلطة ومعه المجموعة العرقية التي يجسدها.
   ولئن كانت إثيوبيا اليوم، منذ دستور 1994، دولة اتحادية ديمقراطية، فإن التقسيمات الإدارية الداخلية للبلاد تتم وفقًا لاعتبارات عرقية. والواقع أن هذا الدستور، المبني على نموذج شيوعي قديم، يهدف إلى إخفاء الانقسامات العرقية والدينية ودفن الشرخ التاريخي، قد كتبه حكام ذلك الزمن الذين ينتمون إلى الأقلية التيغراية، واستمروا في ممارسة احتكار السلطة لأكثر من ربع قرن.

   انتهت قبضتهم على أديس أبابا عام 2018 خلال الاضطرابات التي هزت البلاد بعنف. الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية، الحزب المؤسسي في السلطة الذي لم ينقطع تقريبًا عن ممارستها طيلة ثلاثة عقود، عيّن حينها رئيس الوزراء الحالي، الذي ينتمي إلى أغلبية الأورومو العرقية.
   أدى وصول عضو من هذه المجموعة العرقية إلى السلطة، والتي تمثل أكثر من ثلث السكان الإثيوبيين، بينما يمثل التيغراي 6 بالمائة فقط من السكان الإثيوبيين، إلى تفاقم المعارضة. فمع انتخابه، كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تمثيل أورومو على رأس الدولة.

   للتذكير، عام 1991 كانت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي هي من أطاحت بالديكتاتورية العسكرية الماركسية للحكومة العسكرية المؤقتة لإثيوبيا الاشتراكية بقيادة مينغيستو. وبالتالي، فإن الجبهة الشعبية لتحرير تيغري، اعتبرت ان لها شرعية الاحتفاظ بالسلطة، وهيمنت على الهياكل السياسية والأمنية للبلاد، حتى وصول رئيس الوزراء الحالي. والتبرير الذي قدمه تيغراي لإشعال الفتيل قبل شهر، هو قرار الحكومة المركزية تأجيل الانتخابات التشريعية في أغسطس 2020 بسبب أزمة فيروس كورونا الصحية.

   واعتبرت السلطة الإقليمية لتيغري، أن سلطات أديس أبابا لم تعد تتمتع بالشرعية الانتخابية، لتنطلق بالمناسبة إلى النزعة الانفصالية من خلال تنظيم انتخاباتها الخاصة، وبدأت الحرب بمهاجمة القوات الفيدرالية المتمركزة في عاصمة تيغراي، مكالي.
    كان رد فعل السلطة المركزية فوريًا، وشنت القوات الفيدرالية حربًا شاملة ضد الانفصاليين التيغراي بمساعدة الجيش الإريتري ولوجستيك أسمرة عاصمة إريتريا، بما في ذلك مطاراتها العسكرية. واليوم، لديها في المنطقة أكثر من نصف مجموع أفراد القوات المسلحة والفرق الآلية في البلاد.

   بالتوازي مع الصراع في تيغراي، عادت الأعمال العدائية العرقية القديمة إلى الظهور حيث طفت على السطح النزاعات الإقليمية للأسلاف في مواجهة بين ثاني أهم مجموعة عرقية في إثيوبيا بعد الأورومو، الأمهار. اشتبك الأمهريون والتغراي بشدة في الماضي، حيث يتهم الأمهرا الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بأنها ضمت، أثناء تقدمها نحو أديس أبابا عام 1991، أراضيها التي أصبحت الآن جزءً من غرب تيغراي. وحاليا، انضم رجال ميليشيات الأمهرة إلى القوات الفيدرالية، وينتشرون على بعد بضعة كيلومترات من الحدود مع تيغراي.

  هذه الحرب، التي ليست على وشك الانتهاء، تخاطر بتجاوز منطقة تيغراي. في الواقع، يتألف جيش تيغراي من قوة شبه عسكرية محنكة ومدربة بشكل جيد للغاية، ويقدر قوامها بـ 350 ألف رجل. ومع قصف الميليشيات التيغراي لأسمرة في إريتريا، وتمركز مليشيات الأمهرة على حدود التيغراي، يمكن المراهنة على أن إثيوبيا تخاطر بالغرق في حرب أهلية شاملة مع تجاوزات في جميع أنحاء القرن الأفريقي.
   ومن ثم فإن منطقة القرن الأفريقي ككل تخاطر بالاشتعال وجر السلام النسبي الذي تعرفه منذ عدة عقود إلى طوفان نيران.
   يبدو أن التاريخ يريد أن يعيد نفسه.