يراهن عليه سيّد الكرملين:

نقص في الانتباه: هل أوكرانيا مهددة بتعب الغربيين...؟

نقص في الانتباه: هل أوكرانيا مهددة بتعب الغربيين...؟

-- يعتقد ما يقرب من نصف الفرنسيين بواحد على الأقل من التفسيرات التي قدمها الكرملين عن التدخل في أوكرانيا
-- وصول مواضيع جديدة، والطابع الأكثر جمودا للحرب، يفسران عدم اهتمام الرأي العام
-- ابتعد الجمهور عن القراءة العسكرية البحتة للصراع، ووجه اهتمامه للجانب الاقتصادي
-- قلق أكبر بشأن العواقب الاقتصادية التي تطرح مسألة التوازن بين مؤازرة الأوكرانيين والعواقب الملموسة للحظر

 -- في الولايات المتحدة، يظل دعم حركة بايدن يتمتع بالأغلبية ولكنه يتآكل بســبب ارتفاع أســعار النفط

   بعد 100 يوم من الصراع، تضاءل انتباه الرأي العام الغربي بشكل كبير. وهذا “الإرهاق” من الحرب هو الذي يراهن عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفق المقربين منه...
   الباحث غيـــــوم لاجــــان، وفي حوار لموقــع أتــلانتيـكو، يسـلط الضــــــوء على مثــــــل هذا التطور الـــــذي في صـــورة حدوثـــــه سـيربك كل القراءات ان لم يقلب كل المعادلات.
   وغيوم لاجان، متخصص في قضايا الدفاع، وأيضًا استاذ محاضر في معهد العلوم السياسية بباريس، ومن مؤلفاته كتاب “الأسئلة الدولية في فيشي” “2021 الإصدار الرابع”، و”الخطوات الأولى في الجغرافيا السياسية” “2012”، وكتاب “نظريات العلاقات الدولية”، “2016”، ويشارك في مدونة مستقبل أوراسيا.

   *بعد مائة يوم من الصراع، من الواضح أن التفاعلات على الشبكات الاجتماعية المتعلقة بالموضوع الأوكراني في سقوط حر. هل هذا شاهد على ظاهرة أشمل من عدم الاهتمام بهذه الموضوعات أو فقدانه؟
   - كقاعدة عامة، يتقلب الرأي العام كثيرًا، حيث يطرد أحد الموضوعات الآخر.

 وبقدر ما كان هناك تركيز على الموضوع الأوكراني، للطابع العنيف والمفاجئ والمذهل للحرب في فبراير ومارس مع تركيز خاص على كييف وشخصية زيلينسكي، بقدر ما عدنا إلى وضع أقرب لما كان يحدث منذ عام 2014، منذ أن أُجبرت روسيا على التراجع إلى شرق أوكرانيا. إنها حرب في المقاطعات الشرقية البعيدة لأوكرانيا في دونباس، بجبهة مستقرة، حتى لو ان الروس يقضمون بعض المواقع. إن وصول مواضيع جديدة، والطابع الأكثر جمودا للحرب، يفسران عدم اهتمام الرأي العام.
   لقد ابتعد الرأي العام عن القراءة العسكرية البحتة للصراع، لأن متابعة العمليات بات أكثر صعوبة، وهو مهتمّ الآن بجوانب أخرى. والجانب الأساسي هو الاقتصادي.

   إن ما يظل في الأذهان بشكل خاص، هو تبني حزم العقوبات وقرار التخلي عن النفط الروسي بحلول نهاية العام. وهذا لافت للانتباه، خاصة أنه يقترن بعودة التضخم وارتفاع أسعار الطاقة الذي له تداعيات مباشرة على الظروف المعيشية للغربيين. هناك قلق أكبر بشأن العواقب الاقتصادية التي تدفع إلى التساؤل عن التوازن بين الالتزام إلى جانب الأوكرانيين والعواقب الملموسة للحظر.

   *كما روت صحيفة واشنطن بوست، فإن بعض النخب الروسية تشرح أن بوتين يعوّل على إرهاق الغرب هذا، هو الذي بإمكانه اللعب على المدى الطويل. هل فعلا هذه إحدى استراتيجياته المحتملة؟
   - نعم بالتأكيد. يتمتع بميزة كبيرة تتمثل في عدم الاضطرار إلى الرد على أفعاله أمام الرأي العام الروسي، يتم التحكم في وسائل الإعلام، ويلتزم معظم الروس بالدعاية “74 بالمائة من الروس يؤيدون العملية”. لذلك ليس لديه مشكلة كتلك التي يمكن أن تواجهها الدول الغربية المطالبة بإقناع راي عامها بأنها على المسار الصحيح.

    أعتقد أنه من وجهة نظر الكرملين، فكرة أنه يمكنهم متابعة جهد عسكري على المدى المتوسط مأخوذة في الاعتبار على نطاق واسع. خاصة مع حلول الصيف، الطلب على الطاقة آخذ في الانخفاض، ولكن قد يكون للكرملين مصلحة في انتظار عودة الخريف، الأمر الذي سينتج عنه زيادة في احتياجات الغاز والنفط، مما قد يضع الغرب، وخاصة الأوروبيين، في وضع معقّد. في الولايات المتحدة، نرى أن دعم حركة بايدن يظل يتمتع بالأغلبية ولكنه يتآكل بسبب ارتفاع أسعار النفط.

   من جهة اخرى، يجب ألا ننسى الحرب الاعلامية. يمكن لروسيا الاعتماد على آليات الدعاية والأخبار الزائفة لتغيير الآراء الغربية. أظهر استطلاع للرأي أن ما يقرب من نصف الفرنسيين يعتقدون في واحد على الأقل من التفسيرات التي قدمها الكرملين للتدخل في أوكرانيا. ويمكن تخيّل انتشار هذا أكثر فأكثر، حيث ازداد الوضع العسكري بعدًا، وأصبح الوضع الاقتصادي غير مريح.

   *الى اي مدى يمكن ان يصبح الوضع الاقتصادي صعبا على القادة ويجعل تكلفة دعم أوكرانيا ثقيلة بحيث لا يمكن تحمّلها سياسياً؟
   - الوضع الاقتصادي في غاية الارتباك، لدينا ظاهرة تضخمية لم نشهدها منذ السبعينات، وتباطؤ في النمو، بالإضافة إلى معدلات دين عام عالية للغاية، مما يحد من إجراءات السياسة النقدية. لذلك فإن الوضع جديد ومثير للقلق. ومن الواضح أنه ليس فقط بسبب الوضع في أوكرانيا، ولكن هذا الاخير يلعب دورًا أيضًا. ويمكن أن يقوم الرأي العام بهذا الربط، مما قد يهدد الإجماع الحالي. وتجدر الإشارة أيضًا، إلى أنه في أستراليا هُزمت الحكومة المنتهية ولايتها، وفي كولومبيا احتل اليسار الصدارة لأول مرة في الجولة الأولى، وفي ألمانيا لم تكن الانتخابات المحلية في صالح الاشتراكيين الديمقراطيين، لذلك يمكن تصوّر التوترات السياسية التي يفاقمها الوضع الأوكراني.

   *نعلم أنه في عدد من البلدان النامية، لا سيما في أفريقيا وآسيا، تصوّر الصراع ليس هو نفسه. مع تزايد الاشكاليات الغذائية، هل يمكن أن يتهموا الغرب بمشاكلهم ويمارسون ضغطا؟
   - هذا وارد تمامًا. عندما ننظر إلى استطلاعات الرأي العالمية حول تصوّر الحرب في أوكرانيا، نرى فرقًا واضحًا للغاية بين الدول الغربية، حيث يُنظر إلى روسيا في الغالب على أنها مذنبة بارتكاب عدوانها، والدول الأفريقية والآسيوية المنقسمة أو حتى ملتزمة بوجهة النظر الروسية. هناك تفسيرات كثيرة. للهند علاقة عريقة وموثوقة بروسيا، وتبدو أوكرانيا بعيدة جدًا. بالنسبة للآخرين، فإن ركيزة العالم الثالث التي تميل إلى اتهام الغرب بانه مذنب في كل شيء ودائما، تسير على قدم وساق.
   ان مزج اللامبالاة ومعاداة الغرب يمكن ان يتعزّز من خلال الآثار الملموسة للحرب، ونقص المواد الاساسية، وصعوبات التزوّد. إن صورة روسيا تتحسن إلى حد ما في الحديقة الخلفية الفرنسية السابقة، كما في مالي. وقد رأينا أيضًا كيف أن ماكي سال، رئيس السنغال في زيارة لموسكو، لم يجد شيئًا خاطئًا في خطاب بوتين المهدئ بشأن اضطرابات سوق الغذاء العالمي “تشتري أفريقيا نصف قمحها من أوكرانيا وروسيا».

   *هل باستطاعة السياسيين مقاومة هذا الإرهاق العام؟ وهل ستسعى روسيا لتقويته؟
-    يجب أولاً بذل جهد بيداغوجي بشأن أسبابنا لدعم أوكرانيا : الدفاع عن القانون الدولي والأمن العالمي. علينا أن نُفهم الناس أن ما يفعله بوتين، إذا أصبح معممًا في أوروبا، سيشير إلى العودة إلى سياسة القوة وانعدام الأمن الإقليمي التي كنا نحاول التخلص منها منذ عام 1945. وعلينا أيضًا أن نُفهم الناس أنه ما هو ابعد من تغيير المزودين، سيتعين التفكير في مسائل التحوّل الطاقي. وسيتطلّب هذا الكثير من البيداغوجيا. وستكون الانتخابات التشريعية في فرنسا، والانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، مثيرة للاهتمام أيضًا من هذه الزاوية.

  ستبذل روسيا قصارى جهدها للحفاظ على ضغطها من خلال المعلومات المضللة. إنها تستخدم كثيرا خطاب التهديد النووي واستخدام الأسلحة الكيميائية أو غيرها من الأسلحة إذا استمر الغرب في دعم أوكرانيا، وقد استسلم البعض للخوف. ولا شك أننا سنرى محاكمات يتم تداولها إعلاميا بكثافة لأعضاء كتيبة آزوف لإظهار أن روسيا محقة تمامًا في اعتبار الأوكرانيين نازيين. ويمكنها أيضًا محاولة قلب المسؤولية عن العقوبات الاقتصادية، وإلقاء مسؤولية أزمة الغذاء على عاتق الغربيين.

  *هل سيناريو استسلام الغرب للإرهاق ووقف دعمه لأوكرانيا وحركته ضد روسيا ممكن؟
    - المؤكد، هو أن هناك نقاش جار حول الاستراتيجية التي يجب اتباعها في أوروبا. تؤيد الدول الشرقية ودول البلطيق والدول الاسكندنافية بشدة سياسة الحزم مع الدعم الهائل لأوكرانيا لإضعاف روسيا قدر الإمكان. الدول الغربية والجنوبية، منها فرنسا، لئن تحافظ على دعمها لأوكرانيا، فإنها تدعو إلى وضع تفاوضي وتسوية وحلّ وسط، راغبة في عدم “إذلال” روسيا.

   مع ذلك ينتابني شعور بأن الصدمة كانت من النوع الذي سيدفع الحكومات لمواصلة الجهود على الرغم من تردد الرأي العام.
خاصة أنه يجب التذكير بأن السويد وفنلندا قررتا الانضمام إلى الناتو، لأن رأيهما العام أصبح مؤيدًا لذلك. وبالمثل، قررت الدنمارك الاقتراب من الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالدفاع، بينما كان هناك حتى الآن رفض حقيقي في الرأي العام الدنماركي.
 لكل هذا، أعتقد أن الخوف الذي تسببه روسيا سيكون أقوى من الانزعاج الناتج عن القرارات الغربية.

من الصعب تخيل عودة الاتحاد الأوروبي إلى العمل كالمعتاد، خاصة أن الأوكرانيين يرفضون تقديم تنازلات. وسيؤدي هذا إلى إطالة أمد الصراع، مع استمرار الدعم على الرغم من الآراء الانتقادية المتزايدة.