قد تتجه الولايات المتحدة وأوروبا قريباً نحو طلاق فوضوي
هل تحرق نار الإيديولوجيا العلاقات الأطلسية؟
عزا محللون في أوروبا والولايات المتحدة تغيير العلاقات العابرة للأطلسي، إلى لهجة واشنطن العدوانية وسياسة إدارة ترامب تجاه أوكرانيا، وإعادة ضبط العلاقات مع روسيا، وأخيراً، إلى رسوم ترامب الجمركية واحتمال نشوب حرب تجارية مع الاتحاد الأوروبي.
لكن هذه التحركات السياسية الأمريكية الكبيرة لا تروي القصة الكاملة حسب الباحث البارز في مؤسسة أتلانتيك كاونسيل أندرو ميتشتا. فمعظم التوتر الحالي في العلاقات العابرة للأطلسي مدفوع بالاختلافات الإيديولوجية بين القاعدة السياسية لدونالد ترامب، والعقلية السائدة بين النخب الأوروبية.
تأثير شبه معدوم
كتب ميتشتا في موقع «1945» أنه حتى وقت قريب، كان للإيديولوجيا تأثير ضئيل أو معدوم على العلاقات بين أوروبا وأمريكا. فطالما اتبعت واشنطن نهجها النيوليبرالي الراسخ في السياسة الاقتصادية، ظلت متمسكة بالعولمة مساراً لتحقيق «ترابط معقد». ولم يخل التناوب الانتخابي الرئاسي بين الديمقراطيين والجمهوريين بالتوازن العام العابر للأطلسي بشكل خطير.
وفي الأمن القومي، عزز توفير الولايات المتحدة توفر الجزء الأكبر من قدرات حلف شمال الأطلسي، ناتو، الذي أثبت أنه صفقة القرن لأكبر اقتصادات أوروبا، استمرار الوضع على ما هو عليه. أدى ذلك مع مرور الوقت إلى تفكيك السلاح، بحكم الأمر الواقع في جميع أنحاء القارة بعد الحرب الباردة.
صدمة أولى... غير كافية
صدمت إدارة ترامب الأولى هذا الإجماع الإيديولوجي العابر للأطلسي في البداية، لكن أغلبية المؤسسة السياسية الأوروبية اعتبرته انحرافاً مؤقتاً. حتى مع رضوخ بعض دول الحلف نوعاً ما لمطالب ترامب بزيادة إنفاقها الدفاعي، سرعان ما رحبت بانتخاب جو بايدن رئيساً واعتبرته عودة إلى الوضع السابق، حيث لم تكثف إلا الدول الواقعة على طول الجناح الشرقي لحلف ناتو جهودها لإعادة بناء جيوشها.
تواصل هذا التقاعس عن الإنفاق الدفاعي من أكبر اقتصادات أوروبا، رغم أن الحرب الدائرة في أوكرانيا تذكر باستمرار بسرعة تغير جوارها المباشر.
ظل إجماع بروكسل اليساري الليبرالي مهيمناً، وكان من المرجح أن يوصف أي تمرد من المواطنين بـ «شعبوي» ويُرفض على الفور. حتى قبل تولي الإدارة الأمريكية الجديدة السلطة وإطلاق نهجها الخشن تجاه التحالف العابر للأطلسي، استُقبل انتخاب ترامب للمرة الثانية بنظرة أوروبية منكرة وبتشديد على إجماع بروكسل.
فلاحون متمردون
في محادثات خاصة مع سياسيين أوروبيين، كانت هناك علامات واضحة على أن الأمريكيين الذين لم يؤكدوا الإجماع اليساري الليبرالي، باتوا يُعتبرون الآن أشبه بالفلاحين المتمردين الذين يجب التعامل معهم بتعالٍ بدل فهمهم، ناهيك عن قبولهم أنداداً ومحاورين. لم يطل الوقت قبل أن يتعارض ازدراء إدارة ترامب الواضح لقلة إنفاق أوروبا الدفاعي مع القناعة بأن «أوروبا تتمتع بالقدرة على التصرف»، وبالتالي يمكنها أن تسلك طريقها، كما قال مسؤول أوروبي. أضاف الكاتب أن الاختلاف الإيديولوجي اليوم بين إدارة ترامب وقادة أوروبا الرئيسيين أدى إلى حجب الحقائق الأساسية للجغرافيا السياسية الأوروبية بشكل خطير، ما ضغط على العلاقة العابرة للأطلسي والمتوترة أصلاً. وفي المقابل، أدت تحركات إدارة ترامب لإعادة تعريف الافتراضات حول الطبيعة التأسيسية للعلاقة الثنائية إلى تأجيج النار التي تهدد بابتلاع حلف ناتو.
فاعل دولي؟
مع التركيز على المبارزة الإيديولوجية، يبدو أن الكثيرين على جانبي المحيط الأطلسي، نسوا أن «أوروبا» بصفتها «فاعلاً» موحداً في الشؤون الدولية موجودة إلى حد كبير في أذهان نخبة بروكسل، أو السياسيين في واشنطن العاصمة. فالاتحاد الأوروبي منظمة قائمة على المعاهدات، ومبنية على أسواق مشتركة، وقواعد تنظيمية، وتفتقر حالياً إلى القدرة على لعب دور دفاعي هادف.
علاوة على ذلك، فإن هذه النظرة إلى أوروبا باعتبارها لاعباً مستقلاً هي في الواقع مظهر من مظاهر الاستياء من الولايات المتحدة، وهو استياء، برز وتفاقم بفعل تصريحات إدارة ترامب، لكنه تزايد بشكل مطرد خلال العقود الثلاثة التي تلت الحرب الباردة.
وبالنظر إلى أن دول أوروبا الغربية خاصة لم تعد تشعر في تلك الفترة بتهديد وجودي من روسيا، كما أوضحه بناء ألمانيا خطي أنابيب نورد ستريم 1 و2، كان الملل الناجم عن الاضطرار إلى الاعتماد على الدفاع الأمريكي تذكيراً باستمرار ضعف أوروبا، وافتقارها إلى مكانة القوة العظمى.
دون هدوء... النتيجة واحدة
إن الانحراف المتزايد في العلاقات الأوروبية الأطلسية اليوم، لا يقتصر على التعريفات الجمركية، أو أولويات السياسة الاقتصادية فحسب، بل يتعلق أساساً بالاختلافات الإيديولوجية بين إدارة ترامب والنخب الحاكمة في عواصم أوروبية رئيسية.
وما لم يسد الهدوء ويبدأ الجانبان الإنصات لبعضهما البعض، ويضعان جانباً تصوراتهما الآيديولوجية المسبقة ويعيدان النظر في أساسيات الجغرافيا السياسية، واستعادة مقدار ضئيل من الاحترام المتبادل على الحوار، فقد تتجه الولايات المتحدة، وأوروبا قريباً نحو طلاق فوضوي.