للإعلان أهمية سياسية ورمزية

هل ستترك الجامعات الصينية التصنيفات العالمية...؟

هل ستترك الجامعات الصينية التصنيفات العالمية...؟

-- الخروج من التصنيف يمثل مرحلة جديدة في استراتيجية تطوير التعليم العالي الصيني والدبلوماسية العلمية مع القوى الغربية
-- حاجة الصين الى مواصلة تعزيز مكانة جامعاتها لجعلها مراجع عالمية ولكن «بخصائص صينية»
-- شي: «لا يمكن تحقيق التميز الأكاديمي الدولي باتباع بلدان أخرى أو من خلال اعتماد نماذج أو معايير أجنبية»
-- التطور الأكاديمي والعلمي الصيني اليوم أقل اعتمادًا على نقل المعرفة من الخارج


   أعلنت ثلاث جامعات صينية يوم 9 مايو عزمها “الانسحاب من التصنيف العالمي”. هذا الإعلان، الذي نشرته وسائل الاعلام الرسمية الوطنية، يخص جامعة الشعب (رينمين) في بكين، وكذلك جامعتي نانجينغ ولانتشو، الواقعتين على التوالي في مقاطعتي جيانغسو، شرقي البلاد، وقانسو، في الشمال الغربي، عند تقاطع هضبة التبت ومنغوليا.
   لئن تم الاعتراف بهذه الجامعات الثلاث في الصين من حيث حجمها وتاريخها، فان اسمها أقل حضورا خارج الحدود الوطنية، نظرًا لأنها ليست جزءً من “الجامعات ذات المستوى العالمي”، وهذه المؤسسات ذات المستوى العالمي، يتم تقييمها سنويًا من قبل مختلف هيئات التصنيف الدولية.

   وتأتي إعلانات هذه الجامعات رداً فورياً على خطاب الرئيس الصيني خلال زيارة لجامعة الشعب. في 25 أبريل، تحدث هذا الأخير بحدّة عن حاجة الصين الى مواصلة تعزيز مكانة جامعاتها لجعلها مراجع عالمية ولكن “بخصائص صينية”. وأعلن شي جين بينغ صراحة في هذه المناسبة، أنه لا يمكن تحقيق التميز الأكاديمي الدولي باتباع بلدان أخرى أو من خلال اعتماد نماذج أو معايير أجنبية.

حرب المعايير
     لم يكن لخطاب الرئيس، الذي أعقبته هذه الإعلانات الثلاثة للتخلي عن نظام التصنيف الدولي، أي عواقب مباشرة على سياسات المؤسسات الأخرى، لكنه يطرح السؤال حول رؤية الحزب الشيوعي الصيني فيما يتعلق بالتعليم العالي والبحث في المنافسة الدولية.
    بالتأكيد، أن للإعلان أهمية سياسية ورمزية قبل كل شيء، حيث لا يقرر المرء “الخروج” من التصنيف كما لا يقرر الدخول فيه. يمكن للجامعة في أحسن الأحوال التوقف عن تقديم بياناتها إلى هيئات التصنيف التي ستستمر في هذه الحالة في تقييمها من مصادر أخرى للبيانات، مثل قواعد البيانات الببليوغرافية وقواعد بيانات براءات الاختراع وسجلات جائزة نوبل ومحركات البحث والاستطلاعات العامة.

   والأهم من ذلك، قد يبدو إخراج الجامعات من التصنيفات الدولية قرارًا غير ملائم في السياق الجيوسياسي الحالي. تاريخيًا غائبة عن المشهد العالمي للتعليم العالي، للصين عام 2022، عشر جامعات ضمن أفضل 200 جامعة في تصنيف تايمز للتعليم العالي، مع احتلال جامعة تسينغهوا وجامعة بكين المركز السادس عشر. وتحتل سبع جامعات في الصين المرتبة الأولى في 150 من تصنيفات كيو إس.

   يتعلق الامر بصعود حديث، سريع، ومبهر دعمته الحكومة الصينية بقوة من أجل جذب المواهب والاستثمارات اللازمة للبحث العلمي في اقتصاد عالمي يعتمد بشكل وثيق على الابتكار والبحث والتطوير.
  تم الحصول على هذه الانجازات ليس فقط من خلال إصلاحات الحوكمة وطريقة تمويل الجامعات، ولكن أيضًا من خلال حرب عالمية حقيقية للمعايير التي لطالما كانت حكرا على رابطة اللبلاب الأمريكية أو أوكسبريدج. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بناءً على بحث أجراه فريق من جامعة شنغهاي جياوتونغ، طورت الصين طريقتها ومؤشرات التميز الخاصة بها، والتي عُهد بها الآن إلى مشغل خاص، وهو التصنيف الأكاديمي للجامعات العالمية. ولذلك، فإن ما يسمى بترتيب “شنغهاي” هذا، هو الذي تسبب منذ عام 2003 في زعزعة التوازنات التقليدية في السوق العالمية الكبيرة لسمعة الجامعات.

المطالبة بالاستقلالية
   قد يبدو أن وضع شي جين بينغ نفسه اليوم كمدمر لهيمنة المعايير الغربية أمرًا مثيرًا للسخرية نظرًا لأن الصين بالتحديد هي التي فرضت المعايير السائدة على نطاق عالمي.
   أكثر كمّا وأقل تركيزًا على السمعة والمكانة، مكّنت هذه المعايير بعض الجامعات الصينية خلال عشرين عامًا من التعاون على قدم المساواة مع أفضل الجامعات في العالم، من تكثيف التبادلات الأكاديمية، لانتداب علماء صينيين خريجين في الخارج، وخصوصا ألا يتم تقييمها بناءً على أبعاد لا تسيطر عليها، أو تكون هشة فيها، مثل الحرية الأكاديمية.
   وهكذا، فإن إعلان الخروج من التصنيف يمثل مرحلة جديدة في استراتيجية تطوير التعليم العالي الصيني، والدبلوماسية العلمية مع القوى الغربية.

   ان رسالة شي جين بينغ واضحة: التطور الأكاديمي والعلمي الصيني اليوم أقل اعتمادًا على نقل المعرفة من الخارج. فباعتبارها ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، للصين حاجة أقل للغرب كمصدر للشرعية لأن مرحلة تقدمها الاقتصادي والعلمي كافية للإعلان عن تميز جامعاتها. وهكذا، انتهى الوقت الذي كان من الضروري التأثير على معايير الآخرين. ان البلاد تتقدم في استراتيجيتها، وتنتقل إلى مستوى أعلى.
   من خلال هذه الدعوة لرفض النماذج والمعايير الأجنبية، لا يخاطب شي جين بينغ الدول الغربية فحسب، بل يتحدث أيضًا إلى بقية العالم. يتنزل في إطار الاستمرارية في السياسة الخارجية على مدى السنوات العشر الماضية، يؤكد الرئيس الصيني من جديد معارضته للتدخل الخارجي، خاصة عندما يكون غربيًا.

   وباستخدام تعبير “بخصائص صينية”، فإنه يعتمد تقليدا عند القادة الصينيين منذ تأسيس سياسة الانفتاح الاقتصادي من قبل دنغ شياو بينغ في الثمانينات لاستلهام الأمثلة الأجنبية دون الحاجة إلى تبرير أي تناقضات، وخاصة بدون السماح لأي نموذج معين أن يعتبر نفسه كذلك. ومن المفارقات، أن هذه الصيغة التي تبدو وكأنها انغلاق، كانت على مدى الأربعين عامًا الماضية، وسيلة قوية للصين للاقتراض من الخارج بحرية كاملة.

   وهكذا، فإن دعوة الجامعات لإنشاء نظام مستقل للعلم والمعرفة أكثر من مجرد خطاب انعزالي، انها مطالبة بالاستقلالية تجاه الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة. وتمشيا مع المبادئ التي سادت في افتتاح “طريق الحرير الجديد” وتكثيف الاستثمارات في القارة الأفريقية، تواصل الصين مخاطبة الدول الأخرى، في محاولة لجلب المزيد منها إلى النظام المناهض لأمريكا الذي تدعو إليه، ولتشكيلهم في “دائرة أصدقاء” على حد تعبير أستاذة العلوم السياسية أليس إيكمان.

   ان القيادة العالمية الجديدة التي يحاول شي جين بينغ تثبيتها كبديل عن نظام الولايات المتحدة، تدافع عن نظام قيم يختلف عن نظام الأنظمة الديمقراطية ولكنه مع ذلك يريد أن يكون حديثًا وفعالاً من حيث النتائج، لا سيما على مستوى العلم والتعليم.
   أما عن الآثار المحتملة لهذه التصريحات، فلا يزال من المبكر الجزم فيها. في الوقت الحالي، الجامعات الثلاث المتحمسة التي أعلنت، في أعقاب الخطاب الرئاسي، عن رغبتها في إدارة ظهرها للتصنيف العالمي ليست من بين المتصدرين، ولديها علاقات ضعيفة مع جامعات أمريكا الشمالية.

استباق الشكوك
   ومع ذلك، يمكن أن ينذر مثل هذا الخطاب بسياسات جديدة تؤدي إلى مزيد من القيود على التنقل الأكاديمي، ان لم تكن قيودا حقيقية أكثر صرامة من القيود الحالية، وتعاقب نشاط الباحثين والطلاب، وبالتالي، تذكّر ببدايات الثورة الثقافية، في منتصف الستينات.
   سيكون من السهل تبرير هذه القيود في نظر الرأي العام الصيني، وحتى الرأي العام الدولي، نظرًا لأن السياق الصحي لوباء كوفيد-19 قد أدى بالفعل إلى قيام الحكومة بتقييد التنقل الدولي الداخل والخارج بشكل كبير لعدة أسابيع: إصدار جوازات سفر جديدة للمواطنين الصينيين، وإلغاء معظم الرحلات الدولية من وإلى الصين، والمصادرة المؤقتة لجوازات السفر في بعض المقاطعات.

   وتعكس هذه الإجراءات قصيرة المدى، سلسلة من الإصلاحات التي قللت، في السنوات الأخيرة، من أهمية تدريس اللغة الأجنبية في التعليم الثانوي وامتحانات الالتحاق بالجامعة، حتى قرار الحكومة عدم فتح الامتحانات هذا العام للاختبار الدولي “التعيين المتقدم” الذي يستخدم على نطاق واسع من قبل خريجي المدارس الثانوية الصينية للوصول إلى الجامعات الأمريكية.
   لا شك أن الأزمة الصحية تؤثر على الاشعاع الدولي للجامعات الصينية. وبسبب القيود المفروضة على الحريات الأساسية، والظروف القاسية للمراقبة، والحجر الصحي، يتراجع المرشحون الأجانب لصالح وجهات أخرى. ولا أحد يعرف ما إذا كانت الصين ستكون قادرة على الاحتفاظ بمركزها الثامن في قائمة البلدان المضيفة للتنقل الدولي الوافد، بعد أن شهدت تدفقات متزايدة باستمرار منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين (بيانات كامبوس فرنسا 2018).

   وهكذا، فإن ما يسمى بـ “الخروج” من التصنيف سيكون وسيلة لاستباق الشكوك التي تحيط بإمكانية استمرار الجامعات الصينية الكبرى في تحسين ترتيبها في السنوات القادمة. بعد أن اكتسبت بعض المكانة العالمية من خلال صعودها السريع في التصنيف الدولي، فقد ترى هذه الجامعات مكاسب قليلة من الاقتصار على الاقتراب من السقف دون أن تكون قادرة على الوصول إلى القمة.

   ومع ذلك، فإن الإعلان المحتمل عن القيود الدائمة على حرية حركة الطلاب والباحثين، وكذلك تنفيذ سياسة انعزالية حقيقية في المسائل الأكاديمية، سيكون لعبة خطيرة. فمن خلال الإشارة في خطابه في جامعة الشعب إلى أن الجامعات الصينية يجب أن “ترث الجين الأحمر” و “تتبع الحزب”، يبدو أن شي جين بينغ يريد إعادة الاتصال بممارسات سنوات الثورة الثقافية “1966-76”. ففي تلك الحقبة، كان اختيار النخب وترقيتها يعتمد في المقام الأول على الولاء السياسي: كان لابد من تعريف المرء على أنه “أحمر” لخدمة الحزب في تحقيق طموحاته لتنمية البلاد. و”المعاينة”، أي الكفاءة، ليست كافية.

   ان رهانات القرن الحادي والعشرين مختلفة، ويدرك شي جين بينغ، أن التنمية والتأثير الجيوسياسي لبلده يعتمدان أساسًا على قدراته التكوينية والتقدم العلمي وإمكاناته للابتكار.
   وفي المستقبل القريب، قد نشهد، في نفس الوقت، قيودا مفروضة على التنقل الأكاديمي، وتطورا مستمرا للتأثير العلمي والفكري الصيني في جميع أنحاء العالم، وتحقيق نبوءة المؤرخة الأمريكية ريبيكا إي. كارل التي كتبت عام 2020، أن “عصر شي جين بينغ يتشكل، في آن واحد، كالأكثر انعزالًا بشكل مخيف والأكثر تطلعا إلى الخارج في تاريخ الصين».

*عالمة اجتماع، عضو في وحدة البحوث المشتركة اران “المركز القومي للبحث العلمي، معهد أبحاث الصحة البيئية والمهنية”، معهد الدراسات العليا في الصحة العامة.