التخييم .. تقليد سنوي يحيي التراث ويبوح بالحكايات المدفونة تحت الرمال

التخييم .. تقليد سنوي يحيي التراث ويبوح بالحكايات المدفونة تحت الرمال


التخييم في الماضي، كان واحدا من العناصر الأساسية في حياة الآباء والأجداد، وضرورة لابد منها لتكتمل دورة الحياة، حيث كان الإماراتيون يخرجون إلى البر في أوقات الشتاء والربيع بحلالهم، ويواجهون خلاله معاناة ومشقه احتملوها بحثا عن الرزق، حتى أصبح في الوقت الحاضر نوعا من الترويح عن النفس خلال فصل الشتاء.
وبالرغم من الحداثة والحياة العصرية، فإن الأجيال الحالية حافظت عليه استمرارا للحفاظ على العادات والتقاليد المتوارثة جيلا بعد جيل، مرسخين في ذلك ممارسة دأب عليه من سبقوهم الذين كان بالنسبة لهم ممارسة اجتماعية وجماعية يقوم بها العامة حيث ينتقل الأهالي بكامل فئاتهم من حياة البحر بعد موسم صيد اللؤلؤ إلى حياة البادية بكل ما فيها من تفاصيل.
وظل جيل الشباب مرتبطا بالبادية رغم طفرة الحداثة وحياة الرفاهية التي طالت كل مناحي حياتهم، فيأخذهم الحنين إلى مرابع الطفولة ومنازل الصبا ومواقع الآباء والأجداد حيث تنبعث رائحة الأرض الطيبة حاملة الراحة للقلوب والدفء والسكينة للأرواح المتعطشة إلى سحر البادية بسكونها وهدوئها.
وتوارث الإماراتيون، تقليد التخييم في الصحراء جيلا بعد جيل، بل زاد جيل الشباب تعلقا به وحرصوا على إحياء هذه العادة المتوارثة سنويا.
وتجسد تطور التخييم المتأصل في الإمارات منذ القدم في نقل الحياة المدنية بكل أشكالها إلى مواقع التخييم، وانعكس بصورة كبيرة على طبيعة الخيام والكرفانات “البيوت المتنقلة” ومحتوياتها التي باتت أكثر تطورا ورفاهية.

عادة قديمة
ويقول المواطن عبدالله راشد المزروعي : أدركت حقبة حياة مكتملة البداوة لا يحدنا زمان ولا مكان، حيث كان التخييم آنذاك عادة وجزءا أصيلا من الموروث الشعبي المرتبط قديما بالبر والبحر على حد سواء لكنه تغير وتطور في العقود الأخيرة ليكون أكثر من مجرد عادة أو تقليد إذ تحول إلى أسلوب حياة ونوع من الرفاهية. وتحدث المزروعي عن تلك الفترة التي كان يقضيها في البادية، قائلا : كنا نستعد، أطفالا وشبابا وشيوخا للخروج إلى البراري، وأثناء رحلتنا هذه كنا نقطع مئات الكيلومترات، طبعا لم نكن نشعر بطول الطريق ولم نكن نعاني من التعب لأنها كانت بالنسبة لنا متعة لا تضاهى، وكنا نضع رحالنا في أبهى المناطق وننصب خيامنا هناك حيث الطبيعة ترد لنا الأمل بالحياة. ويؤكد على أن التخييم كان مسكنا ضروريا للمواطنين في الماضي، إذ يلجأ الأهالي إلى نصب الخيام في الصحراء والاستقرار بها لفترة قد تطول أو تقل وفقا لطبيعة المكان وقربه من موارد المياه، ويأتي الحضر ليجاوروا البدو ويستمتع الجميع بالهدوء وجمال المكان، منوها إلى أن جيل اليوم لم ينس هذا السلوك الفطري في الماضي وقلدوه بطريقتهم الخاصة وسط استذكار حياة الأجداد وعايشوه بالطريقة نفسها مع فروقات بسيطة.
ويضيف: التخييم الآن لم يعد كما كان بل تحولت الخيام التقليدية إلى منازل فاخرة في وسط الصحراء أو بالقرب من الشواطئ حيث تزود بأجهزة التلفاز ووسائل الترفيه وتتصل بالأقمار الاصطناعية وتعمل بها الأجهزة الرقمية والالكترونية.

موسم لإحياء التراث
وردا على سؤال، هل بمقدور التخييم كتقليد سنوي إحياء التراث وسط الصحراء؟ يقول المزروعي : نعم في بيوت الشعر والخيام تنعكس جوانب من الثقافة الاماراتية حيث تجهيز القهوة العربية على الطريقة التقليدية لنجد مرتادي المخيمات يقومون بتجهيزها على طريقة الآباء والأجداد، ويقوم الأصغر سنا منهم بتقديم القهوة للضيوف وكبار السن المتواجدين في المكان ممسكا الدلة بيسراه والفنجان بيمناه كما تعلم من والده، ويتجه نحو الضيف ليقف أمامه ويقدم له الفواله (تمر وطعام يقدم للضيف) ويقوم بصب القهوة في الفنجان وتقديمه ولا يبرح الفتى مكانه حتى يهز الضيف الفنجان في إشارة على الاكتفاء من شرب القهوة.
ويضيف المزروعي : تعلمنا تجهيز القهوة العربية التي لا تفارق مخيماتنا من الآباء والأجداد وتناقلتها الأجيال في ما بينهم وإن تعددت طرق تجهيزها إلا أن نكهتها الممزوجة بالهيل والزعفران تبقى دليلا على أصالة التراث الاماراتي وسط الصحراء. ويوضح المزروعي، أن الإماراتيين يحرصون على وجود القهوة العربية في مخيماتهم ويصطحبون مكوناتها معهم في حلهم وترحالهم لتجهيزها بعد أن اعتادوا على شربها يوميا في الصباح والمساء، منوها إلى أن عراقة وأصالة التراث الاماراتي حاضرة بشكل واضح في مواقع التخييم ذات اللمسات التراثية البارزة والتي تم تصميم خيامها من الداخل على الطراز التقليدي من حيث الفرش الذي تتخلله الأعمال اليدوية والسدو وغيرها من الديكورات الأخرى.
ويقول: إن المخيم فرصة لتلاقي الجيران والأهل والأصدقاء، يتسامرون مساء فيتعلم جيل الشباب من الأجداد والآباء العادات والتقاليد، وينقلون لهم خبرتهم عن أحوال الطقس ومسميات الرياح ومواسم البرد خاصة المربعانية.
ويضيف: في النهار يصطحب الكبار أبنائهم وأحفادهم في رحلات ربما تكون قريبة أو بعيدة ليطلع الأبناء على مواقع موارد المياه القديمة والتي اندثر عدد كبير منها، وفي الطريق يمرون على أشجار السدر ويشرحون لهم فوائد شجر الغاف المنتشر في المنطقة وكيف يستغلون أوراقه للأكل نتيجة لعدم توفر الخضرة قديما.
ومضى يقول: نحرص في مثل هذه الرحلات أن نجمع أمام الشباب الأعشاب والنباتات الصحراوية والجبلية المتوفرة في البيئة الإماراتية، ونعاين على أرض الواقع بعض الأعشاب التي كانت تستخدم في العلاج وتخفيف الآلام وغيرها من الأنواع التي لا تؤكل مثل العريون (العرجون)، أما البصيلات والخبيز والطراثيث والحماض تؤكل خضراء يانعة، ونبحث عن الفقع (الكمأة) الذي يكثر بعد الوسمي ووجود الرعد والبرق ويعتبر قديما وحاضرا فاكهة الصحراء اللذيذة.

المخيمات مسارح ثقافية وتراثية مفتوحة
ويقول المواطن محمد سالم النقبي، أحد الرواد في مجال التخييم السياحي: تنفرد بادية الإمارات بوجود أنواع فريدة من الأشجار والنباتات البرية والحيوانات، وتعد موطنا للعديد من الطيور النادرة التي تأقلمت مع قسوة الصحراء، ويحرص السائح على زيارة التجمعات البدوية والالتقاء بأبناء البادية الذين لا يزالون يحافظون على العديد من أنماط الحياة التقليدية المتوارثة والتعرف على تقاليدهم وعادات الكرم والضيافة لديهم وكيفية العيش في هذه الصحراء مترامية الأطراف.
وأكد النقبي، أن بادية الإمارات والمخيمات الأهلية والسياحية تكون في هذه الفترة عبارة عن مسارح ثقافية وتراثية مفتوحة تستقطب يوميا آلاف السياح من أنحاء المعمورة، يعيشون يوما ممتعا مع البدو يحتسون القهوة المحلية ويأكلون التمر ويتناولون الأكلات الشعبية مثل اللقيمات وخبز الرقاق والقرص، ويحرص السياح على ركوب الإبل ومشاهدة سباقات الهجن والتعرف على فنون وتقاليد البادية والتقاط الصور النادرة عن حياة الصحراء وجمالها الفريد.
وأشار النقبي، إلى أن السياح يستمتعون كذلك بالعروض الحية للقنص بالصقور، ويحرصون على الاشتراك في مسابقات صيد الحبارى والكروان والأرانب، ويقبلون على مشاهدة عروض الكلاب السلوقية بالإضافة إلى الإقامة داخل بيوت الشعر التراثية وتذوق الأكلات الشعبية.