الحملات الانتخابية في أمريكا تتحول معركة على ماضيها العرقي
يجري استنزاف السباق الرئاسي الأمريكي لسنة 2024 والذي يمثل في ظاهرة معركة لتشكيل مستقبل البلاد، على نحو متزايد في نقاش محتدم حول إعادة النظر في الماضي وإعادة تعريفه وإعادة تصوره.
فقدت أمريكا سردية وطنية مشتركة
وعلى مدار الأيام العشرة الماضية، ناقش مرشحون من مختلف الأطياف السياسية تعقيدات عصر العبودية وعصر إعادة الإعمار وإلغاء الفصل العنصري في القوات المسلحة، والقتل خارج نطاق القانون، وهي لحظة نادرة في الشأن السياسي الرئاسي الحديث تحول فيها تاريخ السود إلى موضوع أكثر هيمنة من الموضوعات التقليدية كالضرائب أو الجريمة.. ففي 21 يوليو (تموز)، دافع حاكم فلوريدا رون ديسانتيس، المرشح للرئاسة عن الحزب الجمهوري، عن المعايير الجديدة التي اعتمدتها ولايته في تدريس التاريخ، والتي توحي بأن العبودية كانت مفيدة لبعض الأشخاص المستعبَدين.
إدانة “الظلامية والإنكار»
وقبل ذلك بساعات، سافرت نائب الرئيس كامالا هاريس إلى جاكسونفيل بولاية فلوريدا، لإدانة تلك المعايير باعتبارها “دعاية سياسية”، وبعد ذلك بأربعة أيام، أعلن الرئيس بايدن إقامة نصب تذكاري وطني لإيميت تيل، الصبي الأسود الذي قُتل بوحشية سنة 1955، مستغلاً هذه المناسبة لإدانة “الظلامية والإنكار” من جانب من يسعون إلى “دفن التاريخ». وتقول صحيفة “واشنطن بوست” إنه منذ ذلك الحين، انضمت الحملات الجمهورية الأخرى، بما في ذلك حملة الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى المعركة، حيث عمدت إلى مهاجمة ديسانتيس مع اعتناقها في الوقت نفسه الكثير من المُثل التي دافع عنها وتتعلق بكيفية تأطير التاريخ بشأن قضايا العرق.وتلخص هذه المعركة السياسية والتدريسية المحتدمة نقاشاً أوسع انتشر في كافة أنحاء البلاد، حول ما يجب تدريسه بشأن العرق والتاريخ وأوجه التقاطع بين الاثنين.
كما تسلط الضوء على اتساع رقعة الحروب الثقافية المتزايدة التي تشهدها الولايات المتحدة، والتي استحكمت الآن في الفصول الدراسية في عموم المدارس الأمريكية، لتجريد الأمريكيين من الحس المشترك بالتاريخ، ما يجعل الكثيرين منهم يرون الماضي من خلال عدسة الاستقطاب المعاصر.
وتنقل الصحيفة الأمريكية عن جوناثان زيمرمان، أستاذ تاريخ التعليم بجامعة بنسلفانيا، قوله إن “معظم نقاشاتنا السابقة كانت تدور حول من يتم تضمينه في القصة، لا القصة نفسها.. ففقدت أمريكا سردية وطنية مشتركة».
انقسام حزبي
واحتدم هذا الصراع في السنوات الأخيرة مع تحول سجل أمريكا التاريخي المعني بالعرق بشكل متزايد إلى ساحة للانقسام الحزبي، وكلفت هذه المعركة معلمين وظائفهم وأجبرت آخرين على فرض رقابة ذاتية على أنفسهم، ودفعت قطاع نشر الكتب المدرسية إلى الانهيار، وأعادت تشكيل الكيفية التي يتعلم بها الطلاب مسائل العرق والعرقية في الفصول الدراسية في كل أنحاء البلاد. ومع انتشار التوترات من اجتماعات مجالس إدارة المدارس المحلية إلى المجالس التشريعية بالولايات ثم إلى البيت الأبيض، والآن إلى الحملات الانتخابية، صار التاريخ موضوعاً محدِّداً للهوية بالنسبة للمتنافسين الطامحين إلى سدة الرئاسة.وقد تعرض ديسانتيس (الذي وضعت أجندته “المحافظة” فلوريدا في طليعة عملية مراجعة كيفية تدريس تاريخ السود) لانتقادات شديدة، على خلفية دعمه مجموعة من معايير التدريس في المرحلة المتوسطة، والتي تشمل تعليم “كيف طور العبيد مهارات استطاعوا في بعض الحالات تطبيقها على نحو عاد عليهم بالمنفعة الشخصية».
وفيما حاول ديسانتيس توضيح موقفه في خضم عملية تغيير أوسع نطاقاً لاستراتيجية حملته الأسبوع الماضي، كانت في الإدانة التي لاقاها من كلا الحزبين دلالة على أن محاولته ربما تواجه عثرات.وأدان السيناتور تيم سكوت (الجمهوري عن ولاية ساوث كارولينا)، الذي أشاد برحلة عائلته الأمريكية من أصل أفريقي “من القطن إلى الكونغرس”، مُثنياً في الوقت نفسه على التاريخ الأمريكي الذي أتاح هذا الصعود، الحجج التي ساقها ديسانتيس حول المنافع المفترضة التي حققها المستعبَدون.وقال سكوت، الذي يسعى أيضاً للفوز بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة: “لا يوجد جانب إيجابي في العبودية”، مشيراً إلى ضرورة نظر ديسانتيس في توضيح موقفه.. “الناس يواجهون أوقاتاً عصيبة، وأحياناً يندمون على ما يقولون».
هاريس توبخ حاكم فلوريدا
كما عمدت هاريس، وهي عادة على طرف نقيض مع سكوت في مسائل التاريخ العرقي والعدالة، أيضاً إلى توبيخ حاكم فلوريدا، فبعد أن بلغها أمر هذه المعايير بوقت قصير، قامت برحلة لم يجرِ التخطيط لها مسبقاً إلى جاكسونفيل، لانتقاد ما سمّته “التاريخ التنقيحي” الذي يتم ترويجه في الفصول الدراسية.
وقالت في 21 يوليو (تموز)، بعد يومين من كشف وزارة التعليم في فلوريدا النقاب عن معاييرها الجديدة: “ليس هناك ما يدعو إلى مناقشة ما إذا كان المستعبَدون استفادوا من العبودية.. هل تمازحونني؟ دعونا لا ننشغل بما يحاولون القيام به، وأعني إثارة جدالات لا داعي لها لتقسيم بلدنا».وبادر معاونو ديسانتيس إلى الرد على منتقديه في كلا الحزبين، زاعمين أن السياسيين اجتزأوا الاقتراح من سياقه، ومنوهين إلى أن البرامج التعليمية الأخرى تقول أيضاً إن المستعبَدين طوروا مهارات استغلوها بعد الحرب.