بدأ سباق التسلّح التكنولوجي فعلاً
معركة «استقطاب الكفاءات» تشعل الصراع بين الصين وأمريكا
قال أليكس روبن، محلل بارز لقضايا التكنولوجيا الصينية في مركز مهمة الصين التابع لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) لمدة 10 سنوات، وديفيانش كوشيك، باحث في سياسات التكنولوجيا والأمن القومي، إن الولايات المتحدة بحاجة إلى حشد طاقاتها العلمية، على نحو يرقى للاستعداد في زمن الحرب، كي تتمكن من مجاراة حملة الصين المتسارعة لاستقطاب أصحاب العقول اللامعة. وأضاف الكاتبان في مقال مشترك بموقع مجلة «ناشونال إنترست» الأمريكية: «يقود الرئيس الصيني شي جين بينغ حملة استراتيجية واضحة للسيطرة على الساحة العلميَّة العالمية، إذ وجَّهَ الجامعات والمؤسسات البحثية في بلاده بتخريج نخبة من العلماء والمهندسين القادرين على قيادة الصين نحو التفوق التكنولوجي، بما في ذلك في المجالات ذات الاستخدام العسكري المباشر. وأكد شي أن رأس المال البشري هو المورد الأهم للصين، مشدداً على أن الكفاءة الوطنية مرهونة بقدرات كوادرها العلمية.
وتعكف بكين، تنفيذاً لهذا التوجّه الاستراتيجي، على تعبئة موارد مالية هائلة لم يسبق لها مثيل، وتوفير أنظمة دعم متكاملة لتعزيز التعليم الصيني في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات، إلى جانب تقديم حوافز لجذب الكفاءات المؤهلة إلى المؤسسات البحثية التي ترعاها الدولة».
وتابع الكاتبان «يهدف شي جين بينغ بلا مواربة إلى التفوّق على الولايات المتحدة في ساحة الابتكار التكنولوجي، وذلك بإنشاء أكبر جيش علمي هندسي في العالم، في خطوة تمثّل تحدياً مباشراً للهيمنة الأمريكية في هذا المجال».
معضلة وجودية في أمريكا
وأوضح الكاتبان «تواجه الولايات المتحدة معضلة وجودية لا تقتصر على الحفاظ على مكانتها بوصفها رائدة للتكنولوجية العالمية، بل يتعين عليها تعزيز تلك المكانة بشكل حاسم. ويقتضي ذلك تعبئة الكفاءات العلمية الأمريكية بوتيرة توازي ما شهدناه في زمن الحرب، وتطبيق أنظمة حوافز قوية لتوجيه أفضل العقول إلى أبحاث الأمن القومي الحيوية، وزيادة كبيرة في الاستثمارات في التقنيات الثورية التي تضمن الازدهار الاقتصادي والتفوق العسكري الكاسح في العقود القادمة».
وتشكل المؤسسات البحثية الاستراتيجية في أمريكا – وعلى وجه الخصوص المؤسسة الوطنية للعلوم، والمعاهد الوطنية للصحة، ومديرية المهام العلمية التابعة لوكالة ناسا – خطوط المواجهة الأولى في هذا الصراع التكنولوجي.
قدَّمَت هذه المؤسسات تاريخياً ميزات تكنولوجية حاسمة عبر ابتكارات رائدة شملت الطباعة ثلاثية الأبعاد، وجراحة العيون بتقنية الليزك، وأجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي، وهي تقنيات غيّرت الصناعات المدنية والقدرات العسكرية تغييراً جذرياً على حد سواء.
تسريع وتيرة الابتكار
وإدراكاً لقوة استثمارات المؤسسة الوطنية للعلوم وأهميتها وتأثيرها، أنشأ الكونغرس منذ بضع سنوات مديرية التكنولوجيا والابتكار والشراكات، بهدف تسريع وتيرة الابتكار، وتقديم التقنيات الجديدة إلى السوق بسرعة أكبر، ما يؤدي إلى نمو اقتصادي، وخلق فرص عمل جديدة، وتعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة على المدى البعيد.
ومن الأهمية بمكان، برأي الكاتبيْن، أن تستثمر أمريكا إحدى أبرز مزاياها الاستراتيجية: قدرتها على جذب واستبقاء أفضل الكفاءات الأجنبية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM). فقد كانت الولايات المتحدة تاريخياً الوجهة العالمية المفضلة للعلماء والمهندسين والباحثين المتميزين الساعين إلى الحرية والفرص. وقد ساهم هذا التدفق في تعزيز القدرات التكنولوجية الأمريكية بشكل كبير، بينما حرم في الوقت ذاته المنافسين الاستراتيجيين من هذه الموارد البشرية الحيوية. وتعي بكين تماماً هذه الأفضلية، وهي تسارع إلى تنفيذ سياسات تهدف إلى وقف تدفّق المواهب إلى الخارج وعكس مساره.
من جانبهما، يقول الكاتبان، يجب أن نرد بإجراءات هجرة مبسطة لحمَلَة الشهادات المتقدمة، وتوفير مسارات سريعة لخريجي تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، نزولاً على طلب الرئيس ترامب، إلى جانب توسيع نطاق فرص البحث العلمي التي تجعل الولايات المتحدة الخيار الأول للمواهب التقنية العالمية.
وأوضح الكاتبان أن هذه الطفرات التكنولوجية ظهرت نتيجة التلاقي بين التمويل العام طويل الأمد للأبحاث ومجموعة كبيرة من المواهب الاستثنائية داخل تلك المؤسسات. ويُعدُّ جمع هذه الكفاءات العلمية المتميزة الشق الأصعب في تأسيس بيئة بحثية متفوقة، وهو في ذات الوقت الحلقة الأضعف والأسرع عرضة للتداعي.
وفي القطاعات التكنولوجية المتقدمة المرتبطة بالأمن القومي، يرضى كثير من الباحثين برواتب أقل مقابل شرف المساهمة في دعم التفوق التكنولوجي الأمريكي. وأي خرق لهذا التفاهم الضمني المتمثل في «خدمة وطنية» علمية سيفضي إلى ضرر طويل الأمد على مستوى البحث والتطوير، وهي ثغرة استراتيجية تحاول الصين استغلالها عن طريق ضخ استثمارات ضخمة في تطوير المواهب وإنشاء مراكز أبحاث رائدة تديرها الدولة لتحقيق التقدم التكنولوجي.
إهمال استراتيجي
ولفت الكاتبان النظر إلى أن الإهمال الاستراتيجي لا يقتصر على إضعاف فرص التقدّم الأمريكي، بل يمنح خصمنا الرئيس – الصين – تفوقاً مباشراً. فقد ركّزت المؤسسات الصينية على استقطاب العاملين الأمريكيين المُسَرَّحين من وظائفهم في شركات التكنولوجيا أو الوكالات البحثية الحكومية، وخاصةً أولئك الذين يملكون خبرات متقدمة. ومنذ أن صنّفت الحكومة الأمريكية برنامج «ألف موهبة» على أنه تهديد للأمن القومي عام 2019، تطورت هذه البرامج وتوسّعت بشكل متسارع.
وأشار الكاتبان إلى أن بكين طوّرت هذه الأنشطة بشكل مدروس، وأصبحت تعتمد على آليات متطورة لاستقطاب الخبرات الأجنبية لصالح مؤسسات البحث الصينية، من خلال تقديم حوافز متكاملة. وأي تراجع كبير في الكوادر البحثية الأمريكية أو في التمويل المخصّص لها، سيؤدي إلى تسريع نقل التكنولوجيا إلى منافسنا الاستراتيجي الأبرز.
واختتم الكاتبان مقالهما بالقول: «بدأ سباق التسلّح التكنولوجي فعلاً. وعلى الولايات المتحدة أن ترد بوضوح وحزم واستثمار استراتيجي، وإلا فإنها تخاطر بالخضوع الدائم في الهرم التكنولوجي الذي سيحدّد موازين القوة العالمية في هذا القرن».