المبدعون والمرأة ... شؤون وشجون
استوقفني قبل أيام مقال الأستاذ يوسف أبو لوز في الخليج الثقافي ، والذي تحدث بسطوره عن علاقة عدد من الأدباء الكبار بالمرأة ، من محمد الماغوط ، إلى بابلو نايرودا ، إلى ايلوار ، ألى لويس أراغون، الى لوركا، حيث كان من المستحسن أن يشير الأستاذ يوسف أبو لوز الى أن الأديب الفرنسي إيميل زولا قد تزوج (غالا) زوجة ايلوار بعد انفصالها عنه ، ولإيميل زولا صاحب مقال ( إني أتهم) أهمية خاصة في الأدب الفرنسي المتمرد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد مقتل دريفوس ، ومن ثم إلى الشاعر لوركا الاسباني ، مما أثار لدي التساؤل عن أدباء آخرين ، كان لهم كذلك مع المرأة شؤون وشجون ، سواء في العالم العربي ، أو في آفاق الإنسانية عامة.
والأدب كما الفلسفة ، كما الموسيقى ، لغة إنسانية عامة ، فيه ما يجرح القلب ، فيتدفق الينبوع ، كما يقول الأديب الفرنسي الفريد ديموسيه : ( اجرح القلب فهناك الينبوع ) ، والذي ترجم شعرا للعربية لدى الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة ، صاحب ديوان ( أفاعي الفردوس ) فقال :
إجرح القلب واسقي شعرك منه فدم القلب خمرة الأقلام.
وفيه كذلك ما يضفي بأجواء السعادة والسكينة والوئام ، بلا ألم أو معاناة.
ولكن السؤال الأهم: هل هناك ما يبري القلم أكثر من الألم ؟ ولا سيما الألم النبيل الذي يخرج من القلب ، ليدخل في القلب ، كقول الشاعر سلطان العويس رحمه الله في قصيدته ( ياحبيبي كيف ارجع ) :
قلت لي ألقاك صبحا نتلاقى ونودع
عجبا منك ومني هارب كيف يشيع
أنت ملاك جمال وعلى الملك تربع
وأنا خلف جداري في الزوايا أتطلع
فإذا خفت ملالا نادي من يهواك تسمع
يا حبيبي سوف أرجع يا حبيبي سوف أرجع
وهكذا أضيف إلى ما ورد في مقالة الاستاذ يوسف أبو لوز يوم أمس الأحد 04-07-2021 في جريدة الخليج الغراء ، بأن جبران خليل جبران في كتابه ( الأجنحة المتكسرة ) قصة حبه مع سلمى كرامة ، وعباس محمود العقاد في كتابه (سارة ) وقصة حبه مع الفنانة هند رستم ، كما يقول المقربون منه. وطه حسين وما أورده في الجزء الثالث من كتابه ( الأيام ) عن حياته في فرنسا ، ودراسته في جامعة السوربون ، ولقائه الأول برفيقة دربه زوجته الفرنسية سوزان ، ونزار قباني ولقائه الأول بزوجته العراقية بلقيس ، والتي قال فيها أجمل شعره . وغيرهم وغيرهم من أعلام الشعر والأدب ، الذين كان لهم مع المرأة شؤون جمعت بين الحزن والشجن ، والفرح والسرور ، بإيقاعات مرهفة سطرت أجمل الشعر في ديوان الشعر العربي القديم والحديث والمعاصر ، فغدت أيقونات أدبية وإنسانية خلاقة ، لا يشح زيتها ، ولا يخبو نورها ، ولا ينأى صداها ، في كل حين.
وأذكر في إحدى لقاءاتي المتواصلة في السبعينيات من القرن الماضي ، مع الأديب الكبير ميخائيل نعيمة ، أننا تطرقنا في الحوار إلى أسباب عزوفه عن الزواج ، وعلاقته بالمرأة ، وفلسفته بعزوبيته ، فقال : كانت نظرتي للحياة منذ وعيت نظرة مثالية طوباوية ، تميل إلى التنسك ، فلقبوني بناسك الشخروب.وهو الوادي المعروف في بسكنتا في لبنان ، كما كنت أميل دائما إلى العقل والروح أكثر مما أميل إلى الجسد والشهوة. فجمعت بين الفلسفة والتصوف ، بعمق انساني يسمو فوق كل الشهوات في هذا العالم. وهنا سألته لسبر أعماق وجدانه : هل ذلك صدى لطوباوية المسيح عليه السلام؟ أم أصداء للإنغماس في الفلسفة في الشرق والغرب والشمال والجنوب، لاسيما وأنك تركن إلى فلسفة بوذا ، وترتاح إلى تصوف تاغور ، وتتوغل في فلسفة زرادشت ؟ فأجاب بكل صراحة : (أنا تلميذ بترارك الفيلسوف الإيطالي الشهير الذي وضع اعتبار إنسانية الإنسان فوق كل إعتبار، وسمي بالإنسان الأول).
وبالعودة إلى جبران خليل جبران وما ورد من رسائل متبادلة بينه وبين الأديبة اللبنانية (مي زيادة) والتي أوردها كاملة الأديب اللبناني توفيق صايغ في كتابه ( أضواء جديدة على جبران ) فإن العلاقة الروحية والوجدانية ، إلى جانب توارد الخواطر ، وتلاقي الأفكار الثقافية الإنسانية وتفاعلها بين جبران ومي زيادة ، قد عكست آفاق السمو بكل معانيه ، مع أن كل المحيطين بمي زيادة في ندوة الثلاثاء في بيتها في القاهرة في ثلاثينيات القرن الماضي ، كانوا معجبين بجمالها وأدبها وبحواراتها ، أمثال طه حسين ، و العقاد ، وأحمد لطفي السيد ، وإسماعيل صبري وغيرهم ، حتى قال فيها الشاعر المصري إسماعيل صبري بيته الشهير :
إن لم أمتع بمي ناظري غدا
أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
وهكذا تبقى المرأة شأنا مركزيا لافتا للأدباء والشعراء والفلاسفة على مر العصور ، ويكفينا ما أورده الشاعر اليوناني الكبير هوميروس في الإليازة الملحمة الخالدة من شعر البطل أخيل لعشيقته هيلانا ، كما ورد في تعريب الإليازة للشاعر اللبناني سليمان البستاني :
بيد أن الخطب كل الخطب آه
أن تكوني في سبيات العدا
تذرفين الدمع عن مر الحياة
تشربين الماء كالعبد الأسير
من مسيس أو ينابيع حفير .
وكذلك ما ورد من شعر إمرئ القيس ، وعنترة بن شداد ، وقيس بن الملوح ، وشعر جرير ، ومدى عفته ووفائه لزوجته بقوله :
لولا الحياء لهاجني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار
ولعل أطرف ما يروى في هذا الشأن عن الفيلسوف الإنجليزي العالمي الساخر برناردشو ، يوم التقى الممثلة الأميريكية الشهيرة مارلين مونرو ذات الجمال الباهر في العام 1960 ، وبادرته مونرو : ما رأيك يا مستر شو في مشروع زواج بيننا ؟ فيأتي الأولاد والبنات بجمالي وبذكائك ؟!
فأجابها برنارد شو ساخرا : وإذا حصل العكس ؟!
هكذا هي رحلة المبدعين مع المرأة على مر العصور تجمع بين الدمعة والإبتسامة ، والألم والأمل ، تقارب ونفور ، وتفاضل وتكامل ، وقطيعة ووصال ، ولكنها المرأة التي بقيت في كل الأحوال محرضة للشاعر ، ومثيرة للفلسفة ومحطا للجدل ، ووسيلة وغاية ، وتماهي وحيرة. تحضر ولا تغيب ، وتذكر ولا تنسى ، تلهم على الإبداع ، أو تودي إلى الجنون. ولكنها أبدا النصف الآخر الذي يتوازن الكون ويكتمل به.
( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة )
صدق الله العظيم.