في الذكرى الثانية و العشرين لرحيله
سلطان العويس كما عرفته...
يوم الثلاثاء الماضي في الرابع من يناير مرّت الذكرى الثانية و العشرين لوفاة المرحوم الشاعر الكبير سلطان بن علي العويس و الذي لا يزال حياً بيننا بمآثره و إنجازته و إبداعاته.ولا بُد من التوقف في هذه الذكرى في رحاب شعره و إبداعه و مآثره التي لا تزال تضيء مشاعل الثقافة و الفكر و الإبداع، ليس في دولة الإمارات العربية المتحدة وحسب و إنما في العالم العربي قاطبةً حيث يتوالى الإبداع المتواصل للفائزين بجوائزه الأدبية سواء المحلية منها أو العربية تترى لرفد الفكر العربي و الثقافة العربية و الإبداع العربي بالمزيد و المزيد من العطاء يوما بعد يوم.
رحم الله سلطان العويس و أسكنه فسيح جناته.
و بهذه المناسبة التاريخية ذكرى وفاته لابُد من العودة إلى سلطان الشاعر و شعر سلطان حيث يجري الشعر في شريان الأمة العربية كالنهر المتدفق من منبعه إلى مصبه، يتغلغل في مشاعر أبنائها و يستقر في وجدانهم غذاء روحيا لا مثيل له و لا رديف، ولا مندوحة دونه، ولا بديل عنه . فيظل هو المحرك الأول للوجدان، و المحرض الأقوى للخاطر، و الدافع الأهم لاستبيان المكنون. فيشكل حسا مشتركا و لغة جامعة و كينونة قائمة، تتمازج فيها المشاعر بين الحلاوة و المرارة.. حلاوة الطرب و النشوة، و مرارة الحزن و الألم.
لكن و مع مختلف الاتجاهات يبقى الصدق لُب المشاعر و كنه جوهرها، و حركة دفقها، و بيان ألقها، و ورودها و سياجها... معه يخرج الكلام من القلب ليدخل في القلب، و يفيض من الوجدان لينسكب في الوجدان فإذا بالخاطر يُصَب صباً في الرائي و الناظر، و السامع و المتابع، حيث تتفاعل الأحاسيس، و تتدفق العبارة، و تأتي الصورة معبرة و ناطقة، و واقعية و ملموسة، أو خيالية جامحة، مفعمة بالألَق و الطموح و الخيال.
فيتماهى الواقع بالخيال المشرع، و تتداخل اليوميات بالأمنيات بتناغم المبادئ والأهداف و يسمو القصد النبيل و تعلو الغاية الشريفة، فيحرك الإبداع الشاعر سواء كان رومانسيا حالما أو ثائرا متمردا، أو فيلسوفا حائرا ومتأملا، و قد كان سلطان العويس كل ذلك... فهو يجيد اللفظ سكبا و المعنى سبكا، برقة يقل نظيرها، و لا يخبو ضوءُها، و معاناة لا يشح زيتها ،ولا يخفت ألقها، ولا يذوي بريقها.
إنه شاعر الرومانسية
بكونها الأعمق عاطفة و فكراً و خيالاً، يبدع بتميز، و يجدد بامتياز، و يختار مفرداته بانتقاء و أناة و تبصّر.. إنه واحد من شعراء الرسم بالكلمات الذين جمعهم الاتجاه الإنساني الخلاّق، و استوقفتهم لوحة الطبيعة، فتحولت الريشة لديهم إلى كلمات و عبارات و قوافٍ و أوزان، حيث عزفوا بالريشة على أوتار الألوان. كما رسموا بالمداد على نسيج المدى، و حلقوا بالصورة إلى أعالي الفضاء. و منهم نزار قباني و عمر أبو ريشة و الأخطل الصغير و إيليا أبو ماضي و عبدالكريم الكرمي ( أبو سلمى) و هارون هاشم رشيد و محمود درويش و بولس سلامة و صلاح عبدالصبور و أحمد الصافي النجفي، و بدوي الجبل، و فوزي المعلوف، و أبو القاسم الشابي ، و محمد مهدي الجواهري و غيرهم و غيرهم.
لقد غلبت صور الشاعر الكبير سلطان العويس- رحمه الله- على أفكاره أحيانا فطغى الخيال، كما غلبت أفكاره على صوره في أحايين كثيرة فبرز الموضوع، كانت القصيدة لديه تبدأ بكلمة، ثم يتدافع القول بالدفق، كما يدفع الألم بالقلم، فتذرف الدمعة الكلمة، أو تبوح الابتسامة بالعبارة، و تنساب المفردات مترادفات أو متناقضات بعد لأي.
لماذا ! لأن الشاعر سلطان العويس مرهف بسليقته، محاور بطبعه يستمزج رأي الأصدقاء بشعره، و يصغي للرأي الآخر و يستحسن هذا الرأي أو يستهجن ذاك. و يأنس بالشؤون و الشجون الانطباعية أو المعرفية، فهو دائم ينعتق من الأنا، و ينأى عن النرجسية، و يجترح المداد من الفؤاد، و يتفاعل مع الآخر، فيخلص مترويا إلى انتقاء المفردة الأجمل في العبارة الأرقى، و الدلالة الأوضح، و الخطاب المباشر.
فلدى سطان يتناغم صدر البيت الشعري مع عجزه، ليأتي رنين القافية منسابا برقة، واضحا بصيرورة، جليّ القصد و المعنى، رقيق الحاشية، لا تقض مضجعه مبالغة، ولا تعتوره لفظة حوشية أو ممزوجة أو متقعرة.
إن شعر سلطان العويس هو بمثابة( خلطة سحرية) تتألف من عناصر عدة، أولها العفوية، و ثانيها الصدق، و ثالثها البساطة، و رابعها الوضوح ، و خامسها و أهمها الأداء الانسيابي السهل الممتنع . يخرج بشعره من الفؤاد ليدخل في الفؤاد.
فهو يحسن توظيف النبرة الشعرية الهادئة، مع إضفاء البساطة والشفافية على حركية المعاني ذات الدلالة المباشرة، التي لا تحتاج الى إغواء التأويل، أو شغف الكشف، أو تعقيد المعنى، أو ارتياب المتاهات.
و هذه العناصر عينها لا تتردد، و هي تجوب بساتين التراث و بواديه و فيافيه و قفاره، و أزاهيره و رياضه، لتقطف الثمار ناضجة يانعة من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام، و إلى أرض الرافديّن، و إلى مصر و المغرب و الأندلس و المهجر الأمريكي، لتلتقي بكل روافدها مع ربوع الإمارات الدافئة بصحرائها و شواطئها و رياضها و بوحها. فيأتي شعر سلطان العويس نسيجا جامعا بين مرتع صباه على شاطئ الفشت في حيرة الشارقة، و مجالس العائلة، و اللقاءات مع الشعراء، و معالم وطنه و بيئته، و همومه و تطلعات أمته. و يبرز متأثرا و مؤثرا متفاعلا و فاعلا ، ممهورا ببلاغة الاختزال، طرباً و مطربا بإيقاع النغم، مفعما باكتناز الدلالة،
هادفا بسمو القصد و نبل الغاية، مع فكره الثري بالتجربة و المعاني و الرؤى الشاملة، و الجامعة. قال لي ذات مرة ( وردة في الهند جعلتني شاعراً) حيث كانت قصيدته ( يا وردة) و قد نظمها في الهند، وكانت أول قصيدة له.
فصدق الشاعر دائما هو سر خلود شعره، و نبض الإنسان في شخصه، و نكران الذات في غاياته و أهدافه و مقاصده، و هكذا هو سلطان العويس الشاعر المفكر الإنسان.
لقد عرفت الشاعر الكبير سلطان العويس عن كثب، و نهلت من معين معارفه و تجاربه الكثير، و أدركت شمولية فكره و موضوعية رأيه و تفاصيل يومياته، و التصقت بمجالسه في دبي و الذيد و خورفكان و بيروت و بحمدون أنهل من معينها الثّرّ، و أستقي من روافدها المتعددة، و أجد في سلطان دائما معلم الجميع، المؤلف بين الحضور، المحاور و المصغي و المتأمل، يعشق الثقافة، لا يبرح أجواءها. كما يأنس بتعدد الآراء، و يوازن بحكمة بالغة بين الجد و الطرافة، و الاحترام و المودة، و صواب القول، و نقاء السريرة. لقد كان ربّاناً حاذقاً باقتدار، مثلما كان شاعراً إنساناً بامتياز ، رحمه الله.
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ )
صدق الله العظيم ( آل عمران: ١٨٥)