في الوقت الذي نميل به إلى تبسيط كل معقد، وجعل كل مهمة صعبة قابلة للتطبيق بخطوات سهلة؛ نرتطم أحيانا بجدران من موروثات متفرقة، أقوال، عادات، أو معتقدات.
بعض الثقافات تمتلك الكثير من الأسرار غير القابلة للتفسير والتي لا تمتلك -في الكثير من الأحيان- مصدرا علميا أو حكاية تستنبط منها أو أرضا صلبة من التجارب تستند إليها. وبالرغم من أن التنفس، والجوع، والعطش، وبعض العمليات الحيوية الطبيعية التي تعمل بها أجهزتنا بأجسادنا بطريقة تلقائية دون حاجتها إلى أمر مباشر منك، بل حاجة الجسم هي الأمر الفيصل، فإن جسمك يخبرك بالجوع فتأكل، ويخبرك بالعطش فتشرب الماء، وتتنفس بينما أنت نائم، مسافر، منشغل!

ولكن هناك الكثير من المعتقدات التي تنتشر وتنتقل بين الأجيال بحركة سلسة وبكامل الإيمان بأنها صحيحة. الأمر البديهي أنك تشرب الماء حين تشعر بعطشك الشديد، تمشي مسافة طويلة،
 تُجري تمارين رياضية. فهل من أمر بديهي كشرب الماء أن يحتاج إلى قواعد ومعتقدات؟ فهناك من ينصحك بشربه بعد الأكل، وهناك من ينفي صحة هذه النصيحة ويخبرنا بأن شرب الماء قبل الأكل هو الأفضل. وهناك من ينصحك بمستوى معين من شرب الماء في اليوم، وعلى استقامة موازية يقف من يحذرك من شرب الماء بكثرة! فهل شرب الماء معادلة معقدة لهذا الحد؟

مغالطات.. أن تشرب أو أن لا تشرب!
- الماء للنحافة: العديد من الحميات التي تُخاطب أولئك الذين يعانون من السمنة المفرطة منتشرة في طيات السحاب إن شئنا، سنجد العديد من الخطط والنصائح والحميات التي -مرة أخرى- لا تستند إلى أي دراسة أو علم ولا تنظر للأبعاد المختلفة بين الأجسام واحتياجاتها من خلف الشاشات. ونظرا لأن موضوع الرشاقة هو نجم يحاول الكثير الصعود للإمساك به، فهناك ما يُسمى (ريجيم الماء) وهو نظام يعتمد أساسا على شرب الماء بكميات كبيرة تُشعر الشخص بالشبع فيمتنع عن الأكل.
جاكلين هينسون البالغة من العمر 40 عاما، والتي اتبعت هذا النظام الذي وعدها بخسارة 6-7 كيلوغرامات في الأسبوع الأول، وُجدت ميتة في حمامها بعد شرب 4 لترات من الماء خلال ساعتين! بعد وفاتها وُجد أن شرب الماء بهذه الكمية قد أدى إلى تورمات في الدماغ! وعلى الرغم من خطورة المأساة التي حدثت فإن هناك دراسات تؤكد أن شرب المزيد من الماء قد يؤدي إلى خسارة الوزن، ولكن ليس بإفراط ولا باتباعه كحمية أساسية تُغني عن باقي النظام، ولا بشرب الماء حين تشعر بالجوع! ولا حتى بتصديق الوعود المبالغ بها والتي كلفت السيدة هينسون حياتها.

- الامتناع عن الشرب أثناء التمارين الرياضية:
وهذا بالفعل ما أشار إليه البروفيسور تيم نواكس في كتابه (Water-logged) والذي كتبه بعد سنوات من ممارسته لرياضة الجري كمحترف،
يقول: لقد كنت موجودا في قاعة التمرين حين نصحوني بعدم شرب الماء أثناء التمارين، ومع مرور الأيام تتبدل النصائح. فكنت هناك أيضا حين نصحوني بزيادة شربي للماء. وأنا أردت القول في كتابي بأنك إن نصحت أحدهم بشرب المزيد من الماء؛ فيبدو أنك المسؤول ويجب أن تواجه مشكلة أو عقوبة ما.
يُشير البروفيسور في كتابه إلى أن الامتناع عن شرب الماء طوال فترة التمرين قد تتعب الجسد وتنهكه قبل البدء بممارسة الرياضة كلاعب في حلبة السباق،
وهو ما يجعله مشوشا، فاقدا للوعي أحيانا. ويشير أيضا إلى أنك إن كنت معتادا على شرب كميات هائلة من الماء بشكل طبيعي فأنت تفقده من خلال البول، ولكن في بعض الحالات يفقد دماغك القدرة على إبلاغ جسدك بهذا الأمر ويتورّم، وفي الكثير من الأحيان يؤدي إلى الموت.

- شرب كميات كبيرة من الماء فور الاستيقاظ:
من المغالطات الشائعة أن شرب كميات كبيرة من الماء عند استيقاظك هو أفضل ما يمكنك القيام به. ولكن الحقيقة أنك بهذا الفعل تضعف حمض المعدة وتقلل من كفاءة أنزيمات البنكرياس والذي يؤدي إلى الالتهاب. يفضل الاكتفاء بكأس واحدة من الماء لا أكثر في بداية أول 30 دقيقة إلى ساعة.

- تجنب شرب الماء قبل النوم:
يعتقد الجميع بأن شرب الماء قبل النوم قد يعكر علينا صفو نومنا الطويل ويزعجنا في الليل للنهوض مسرعين إلى دورة المياه. ولكن يُنصح من أهل الاختصاص أن شرب كوب من الماء قبل النوم يمكنه أن يقلل بشكل كبير من خطر الإصابة بسكتة دماغية أو نوبة قلبية أثناء النوم.

- شرب الماء أثناء تناول الطعام:
من الأخطاء الشائعة بشكل كبير، الأمر الذي من شأنه أن يبطئ عملية الهضم ويقلل من قدرة الجسم على إنتاج ما يكفي من الإنزيمات اللازمة لهضم الأطعمة بشكل صحيح. بغياب عملية الهضم السليم، يمكن أن يحدث تراكم للنفايات السامة بغض النظر عن ما تأكله. فينصح بالاكتفاء بشرب كوب واحد فقط أثناء تناولك لطعامك، على أن لا يكون باردا، فبرودة السوائل من شأنها أيضا أن تبطئ عملية الهضم وقد تسبب التشنج أيضا لبعض الأفراد. وأيضا شرب الماء أثناء تناول طعامك أو بعد الانتهاء لا يضر طالما أنه لا يزيد على كوب واحد، وليس كما يشاع عن شرب الماء بعد الانتهاء من تناول الطعام بأنه يمتص العناصر الغذائية التي اكتسبها الجسم من الوجبة.
علامات يخبرك بها جسدك عن عطشه!.
يُكوّن الماء نسبة 65% من جسم الإنسان تقريبا؛ وتختلف بالاعتماد على العمر والجنس. أنت تشعر بالعطش أساسا حين يفقد جسدك ما يُقارب 2-3% من كمية الماء به. حينها يبدأ الأداء العقلي والتنسيق الجسدي بالضعف.
 وهنا يكون قد وصل -بالفعل- لنسبة 1% جفاف! الماء هو اللبنة الأساسية لبناء خلايا الجسم، وهو المسؤول عن نقل الأكسجين في الدم إلى باقي خلايا الجسم، يدخل في تكوين كل عضو في جسمك حتى العظام والحبل الشوكي،
ويساعد في عملية الهضم والتنفس والمحافظة على درجة الحرارة! فمن البديهي أن فقدان مكوّن أساسي كالماء سيُفزع جسدك، وسيدفعه لإرسال الإشارات حتى تنتبه، وكأنه يقول لك (أنت لست مريضا، أنت عطش!)، فكيف يخبرنا جسدنا بذلك؟

- الشعور بالجوع باستمرار:
 يقوم دماغك أحيانا بالخلط بين الحواس المختلفة، فإن كنت قد أكلت للتو ومع ذلك تشعر بالجوع؛ فيُحتمل أن جسدك يسأل عن الماء لا الطعام.
- الشعور بالتعب والضعف: الماء هو وقود الجسد، فعندما لا يأخذ جسدك كفايته من وقوده الذي يحتاج فإنه يعمل على تقليل نشاطه للحفاظ على مستوى طاقته المتدنية!
- جفاف البشرة: الجلد هو العضو الأكبر مساحة في الجسم، البشرة الجافة هي أولى العلامات التي يخبرك بها جسدك أنه بحاجة إلى الترطيب الداخلي، الجلد الجاف أيضا يصعب عليه التخلص من الأوساخ التي بدورها تسبب حب الشباب.
- صداع غير مفسر: إذا لم يكن هناك تفسير للصداع النصفي الذي تعاني منه فجأة؛ فقد تكون هذه إشارة أخرى يرسلها جسدك ليخبرك بأنه بحاجة إلى الماء. ولاختبار ذلك، قم بشرب الماء وتناول وجبة خفيفة إذا انتابك صداع تعتقد بأنه دون سبب، وانتظر، قد يتلاشى الصداع تماما!
- صعوبة في التركيز: قد يكون من المفاجئ لك أن تعلم أن 70% من دماغك يتكوّن من الماء! هذه النسبة المرتفعة تُشكّل عاملا قويا يقف وراء عدم تركيزك إذا قلّت هذه النسبة وعانى دماغك من الجفاف!
- آلام المفاصل: الماء ضروري للغاية للحفاظ على عمل العظام والمفاصل بشكل صحيح. فهو يساعد على نقل العناصر الغذائية من خلال الدم إلى المفاصل، ويسمح بانتقال المواد الضارة من مفاصلك. بدون الماء، يمكن أن تصبح المفاصل جافة وتحتك ببعضها البعض مما يسبب الألم.
-  جفاف في العينين: نقص الماء يؤدي إلى جفاف مجاري الدموع في عينيك، فإذا شعرت باحمرار وحكة في عينيك، عليك بتجربة شرب بضعة أكواب من الماء!

حرب التعطيش!
بالنظر لأهمية الماء لكل الكائنات الحية التي تعيش على الكرة الأرضية، والتي لا تحتاج إطلاقا إلى خرافات تُخبرنا كيف نشرب أو متى علينا أن نشرب.
 فأجسامنا تقوم بتنبيهنا على أكمل وجه دون تعقيد، فالأمر في النهاية يرتبط بالمقام الأول بإحساسك بالعطش! فيبدو أن العطش هو الخطر الذي سيهدد الإنسان في بعض الأماكن. فأنت تستطيع أن تبقى على قيد الحياة دون طعام لمدة تتعدى 20 يوما ولكنك لا تستطيع الصمود في وجه العطش لأكثر من ثلاثة أيام!
وهذا سيناريو مر ببعض الدول، ففي عام 2015 عانت ساو باولو إحدى مدن البرازيل وأكثرها اكتظاظا بالسكان من موجة عطش حين قلّت مستودعاتها من المياه نحو 4% فقط!
 وهذا ما تعاني منه أيضا مدينة بانغلور جنوب الهند، وجد أن 85% من مياه المدينة هي صالحة للري ولكنها غير صالحة للشرب إطلاقا!
 وهذه مشكلة تعاني منها مدينة القاهرة، إذ يبدو أن نهر النيل الشاهد على الحضارات ومصدر 97% من مياه مصر عرضة لأن يكون مصدرا غير صالح للشرب ومياها غير معالجة ومليئا بالنفايات السكنية. وتُظهر أرقام منظمة الصحة العالمية أن مصر تحتل مرتبة عالية بين الدول من حيث عدد الوفيات المرتبطة بتلوث المياه.
في مشهد من فيلم “127Hours” والمقتبس من قصة حقيقية لمغامر ومتسلق للجبال يُحتجز بين صخرة وجبل لمدة 127 ساعة عالقة يده فيها تحت الصخرة! وفي محاولات يائسة لتخليص نفسه من هذا الأسر يضطر لبتر يده وتخليص نفسه والجري حُرا بعد أن مرّ بمراحل عطش وهلوسة.
ولكن ما أن رأى أناسا يتجهون نحوه حتى طلب منهم ماء ليشربه،
 فلك أن تتخيل قيمة أن تشعر بالعطش وتجد كوب ماء يمنع جفافك، فذاك الذي بتر يده، بادر بطلب الماء قبل أن يتألم ويبكي على يده المبتورة!