تمجيد أمراء حرب التسعينيات:

صربيا الكبرى، العشق الأعمى لليمين المتطرف...!

صربيا الكبرى، العشق الأعمى لليمين المتطرف...!

-- العديد من الحركات اليمينية المتطرفة في صربيا تختبئ وراء أهداف إنسانية أو بيئية
-- يستخدم اليمين المتطرف الفرنسي الحروب والتوترات العرقية في البلقان لدعم بعض أفكاره


   تمجيد أمراء حرب التسعينيات، الذين حوكموا وأدينوا، والذي يهدف إلى تقديمهم كمدافعين عن أوروبا المسيحية ضد المسلمين، يحشد الشبكات القومية والهووية، خاصة في فرنسا.    يمتد وجه راتكو ملاديتش باللونين الأسود والأبيض، بارتفاع مترين وعرض 4 أمتار. ظهرت هذه اللوحة الجدارية تكريما لـ “جزار البلقان”، المحكوم عليه بالسجن المؤبد بتهمة “الإبادة الجماعية” و “جرائم ضد الإنسانية” و “جرائم الحرب”، في 23 يوليو على جدار في منطقة تجارية في بلغراد.    عندما ذهبت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية إلى هناك في مطلع نوفمبر، كانت الجدارية ملطخة باللون الوردي. وخطط نشطاء مناهضون للفاشية لتدمير اللوحة الجدارية بعد بضعة أيام، في 9 نوفمبر. تم منعهم من ذلك: رفضت الشرطة التجمع بحجة أنها لا تستطيع ضمان سلامته.    أدى هذا التبرير إلى مشهد سريالي لدولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي: ضباط شرطة يحمون لوحة جدارية ويقبضون على ناشطين ألقيا البيض على رسم لمجرم حرب. قام وزير الداخلية ألكسندر فولين بالرحلة مساء، حيث خرج احتجاجان، أحدهما مناهض للفاشية، والآخر مؤيد لملاديتش، في شوارع مجاورة. ووصف الوزير التجمّع الأول بأنه “حقير وسيء النية».

   توضح هذه الحلقة إلى أي مدى لا يشعر اليمين المتطرف الصربي باي عقدة، متحرر، ويتمتع بقنوات في حكومة الرئيس ألكسندر فوتشيتش.
 مع ان هذا الاخير يقدم نفسه على أنه زعيم يميني تقليدي وعادي عندما يتعامل مع الاتحاد الأوروبي.
 ويقسم ويده على قلبه بأنه تغيّر بعد أن كان وزيرا في حكومة شارك فيها حزب سلوبودان ميلوسيفيتش، وأعلن أنه مقابل كل صربي يقتل، سيصفّي 100 مسلم.
   في البلاد، تعتمد سرديّة اليمين المتطرف لصربيا الكبرى -التي ستوحد جميع الشعوب الصربية -إلى حد كبير على تمجيد أمراء الحرب الصرب في صراعات التسعينيات، الذين يُوصفون بأنهم مدافعون عن أوروبا المسيحية في مواجهة مسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفو.
   هذا الأخير، وهو بلد صغير أعلن استقلاله من جانب واحد عام 2008 دون أن تعترف به بلغراد، هو موضوع تعبئة مركزية للقوميين الصرب. فهو بالنسبة لهم، قلب أمّتهم منذ معركة كوسوفو بولي عام 1389.
وتزعم صربيا أنها ضحية للإمبريالية الأمريكية، التي انتزعت منها هذه المقاطعة السابقة بعد قصف عام 1999.

ملهم للإرهاب
  خارج حدود صربيا، غالبًا ما يستخدم الإرهابيون اليمينيون هذا النموذج. عام 2019، استمع برينتون تارانت إلى أغنية تكريما لرادوفان كاراديتش (الزعيم السياسي لصرب البوسنة المدان بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” و “جرائم حرب” و “إبادة جماعية”)، قبل أن يقتل 51 شخصًا في مسجدين في كرايستشيرش، نيو-زيلندا. وكان قد نقش على سلاحه أسماء الشخصيات الصربية المرموقة التي قاتلت ضد الإمبراطورية العثمانية في القرن الرابع عشر. وقال أندرس بريفيك، وهو إرهابي نرويجي قتل 77 شخصًا بالرصاص في 2011، خلال محاكمته، إنه “استلهم من القومية الصربية».
   في فرنسا، يهتم سديم من الأفراد والأحزاب والتجمعات اليمينية المتطرفة، اهتمامًا كبيرًا بمفهوم صربيا الكبرى، المشوب بالقومية.

جان ماري لوبان، أولاً، الذي تبنى قضيتهم خلال الحروب في يوغوسلافيا، ودعمت معظم عناصر حركته تاريخياً الكروات الكاثوليك. “عندما برزت قضية كوسوفو، كان يُنظر إلى الصرب على أنهم مدافعون مسيحيون عن أوروبا ضد الألبان وغالبيتهم من المسلمين. وفي نهاية التسعينات، انزلقت مشكلة اليمين المتطرف من اليهودية إلى الإسلام، وفي هذه المرحلة بدأت القومية الصربية تحظى بشعبية”، يحلل جوفو باكيتش، عالم الاجتماع بجامعة بلغراد.

   خلال تلك العشرية، سافر جان ماري لوبان عدة مرات إلى البلقان للقاء رادوفان كاراديتش أو فويسلاف سيسيلي، وهو شخصية من اليمين المتطرف الصربي “نجح خطابه العنيف جدا تقريبًا في تقديم ميلوسيفيتش كشخص ملائكي، بالمقارنة”، حسب لوران هاسيد، الجغرافي في جامعة السوربون-باريس-نورد.
  مسار آخر يلفت الانتباه: موقف أرنو غويلون، المنافس العابر في رئاسية 2012 عن كتلة الهوية، الذي رمى المنديل بعد بضعة أشهر من حملته الانتخابية. ويطلق عليه اليوم أرنو غوجون، وهو نسخ صوتي لاسمه باللغة الصربية يستخدم على جميع شبكاته الاجتماعية.
   حصل على الجنسية عام 2015 لعمله الإنساني مع جمعية كوسوفو تضامن، التي أسسها عام 2004 لمساعدة الصرب في جيوب كوسوفو، ولا سيما في ميتروفيتشا. منذ نوفمبر 2020، يشغل منصب مدير مكتب التعاون مع المغتربين وصرب المنطقة، وهو نوع من الإدارة الوزارية.

«سان دوني، كوسوفو فرنسا»
    في يونيو 2019، خصصت “لو فيغارو ماغازين” عشر صفحات من التقارير الصحفية لمحنة الصرب في ميتروفيتشا، الذين تم تصويرهم على أنهم مقاتلون مسيحيون شجعان في مواجهة اضطهاد الألبان والمافيا الإسلامية المتاجرة بالبشر.
 مع مكافأة إضافية، مقابلة مع ارنو غويلون، وإعلان على صفحة كاملة يحث فيها على التبرع لجمعيته.
    خلال تلك الفترة، بدأت ماريون ماريشال وإريك زيمور في الحديث عن صربيا وكوسوفو، وعقد أوجه تشابه مع فرنسا.
“انظروا إلى سين سان دوني، هذه هي كوسوفو فرنسا. هناك استبدال للسكان، في كوسوفو انتهى الأمر بالحرب والاستقلال”، قال الكاتب السابق اليميني المتطرف والمرشح اليوم لسباق الاليزيه والرئاسية الفرنسية 2022.

   «إنهم يعتقدون بوجود خطة منسقة من قبل المسلمين لاستبدال السكان الصرب منذ أكثر من قرن”، يفكك لويك تريغوريس، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الكاثوليكية في باريس. وهذا ما تسفّهه البيانات الديموغرافية للعشرينيات.
    بالإضافة إلى ذلك، يستخدم اليمين المتطرف الفرنسي الحروب والتوترات العرقية في البلقان لدعم فكرته القائلة بأنه لا يمكن لأحد أن يعيش مع الآخر إذا كان الآخر مختلفًا. “حسب رأيهم، لا مفرّ من الحرب الأهلية بل هي مطلوبة”، يضيف لويك تريغوريس.
   لاقت هذه الأطروحات بعض النجاح في فرنسا. على موقعها، تدّعي جمعية كوسوفو تضامن، أنّ في صفوفها “11 ألف متبرع خاص، منهم 95 بالمائة يقيمون في فرنسا”، و30 متطوعًا فرنسيًا. ويتابع صفحتها على فيسبوك أكثر من 15 ألف شخص.
وعلى الشبكة الاجتماعية، تجتذب العديد من المجموعات الناطقة بالفرنسية المؤيدة للقوميين الصرب، بضعة آلاف من المشتركين، مثل “كوسوفو الصربية”، التي لديها 6 الاف مشترك.

     تخلّى أرنو غويلون نسبيًا عن هذه السردية منذ انتقاله إلى صربيا. “إنه يريد بناء حياة جديدة هنا، تتمحور حول عمله الإنساني”، يرى جوفو باكيتش. ويتمتع غويلون بشعبية رائعة في صربيا. “يسعد الناس عندما يقول شخص من الغرب إن كوسوفو صربية”، تشرح إيرينا ريستيتش، دكتورة مساعدة في معهد العلوم الاجتماعية في بلغراد.
   لا أحد تقريبًا مهتم بماضيه في أقصى اليمين الفرنسي. في واحدة من المرات القليلة التي سأله فيها صحفي عن هذا، ادعى غويلون أن جيل الهوية لم يكن على اليمين ولا على اليسار. ورغم أن البعض أشار إلى عدم دقة ملاحظاته، إلا أنه لم يتمّ ربطه أبدًا باليمين المتطرف. وسئل نشطاء تقدميون عنه، فقالوا إن رأيهم إيجابي عنه، جرّاء عمله الإنساني.
ولاحظت ماريا إجناتيجيفيتش، الباحثـــــة في مركـــــز ابحـاث بلغراد للسياسة الأمنية، أن “العديد من الحركات اليمينية المتطرفة في صربيا تختبئ وراء أهداف إنسانية أو بيئية».

«القيم الأوروبية
 وطريقة الحياة»
   يبدو أن بعض الروابط بين جمعيته واتباع الهوية الفرنسيين قد تم الحفاظ عليها بعد رحيل غويلون إلى صربيا. وجاء تقرير على قناة سي 8 عام 2017، بعنوان” الوجه الخفي للجبهة الوطنية” ليُثبت ذلك، كاشفا الروابط القائمة بين كتلة الهوية وجمعية شباب الجبهة الوطنية.
  ويُظهر الفيلم الوثائقي، أن إحدى علامات التعرّف على اتباع الهوية هي السوار الأرثوذكسي التقليدي (“بروجانيكا”) الذي تبيعه منظمة تضامن كوسوفو لتمويل أعمالها. وقد تم الاتصال بهؤلاء في عدة مناسبات، ولم يستجب أي من رابطة تضامن كوسوفو ولا مكتب التعاون مع المغتربين الصربيين، لطلبات إجراء مقابلة.
   في التجمع الوطني، هناك أيضًا ألياف صربية معينة، واضحة وجليّة خاصة في البرلمان الأوروبي. يشارك العديد من نواب التجمّع الوطني الفرنسي في الوفود البرلمانية الدولية لصربيا أو كوسوفو، ويأخذون الكلمة بانتظام تحت قبة البرلمان عند ذكر هذه البلدان.
   وزار أعضاء البرلمان الأوروبي من التجمع الوطني صربيا والكيان الصربي البوسني عدة مرات خلال العقد الماضي. في بلغراد، يعد نصب الامتنان لفرنسا محطة ضرورية بالنسبة لهم.
 هذا التمثال المهيب الذي يبلغ ارتفاعه أربعة أمتار، ويصور امرأة برونزية على قاعدة من الرخام الأبيض، يرمز إلى الصداقة الفرنسية الصربية وتضامن السلاح في الحرب العالمية الأولى.
   ويصرّ نواب التجمع الوطني على هذه الذاكرة المشتركة: “صربيا هي الدولة الأكثر إثارة للاهتمام في البلقان بسبب تقارب ثقافي وتاريخي معين وعلاقة قوية جدًا بفرنسا”، كتبت جولي ليشانتو، النائب الأوروبية عن التجمع الوطني، في ليبراسيون. إن الشعب الصربي هو الوحيد من بين المرشحين أو المرشحين المحتملين للعضوية الذي يشاركنا قيمنا الأوروبية وأسلوب حياتنا».

إحياء الاستفزازات القومية
   ستانيسلاف سريتينوفيتش، مدير الأبحاث في المعهد الوطني للتاريخ المعاصر في بلغراد، يريد تدقيق هذا الاهتمام اليميني المتطرف بصربيا: “من الطبيعي أن تهتم الأحزاب المتطرفة في فرنسا بالمسائل المفتوحة للسياسة الدولية مثل كوسوفو وميتوهيا “الاسم الصربي الرسمي للبلد” وصربيا. لكن هذا لا يشكل حقيقة العلاقة الفرنسية الصربية، لأن هذه الأحزاب ليست في السلطة”، يعتبر المؤرخ، الذي يصنف حزب الرئيس فوتشيك في يمين الوسط.
   النائب الاوروبية الألمانية من الخضر فيولا فون كرامون توباديل، مقررة كوسوفو، لا تملك نفس التحليل. فمن وجهة نظرها، إن الخطب المتكررة لنواب مجموعة الهوية والديمقراطية، اليمينية المتطرفة، ليس لها أي تأثير على سياسة البرلمان الأوروبي. في المقابل، تعتبر أن هذه الخطب “تٌسمّم النقاش العام الفرنسي”.
 وقالت: “لا يرغب ماكرون أبدًا في معارضة ذلك وجهاً لوجه، وهذا ما يفسر جزئياً سبب رفضه تحرير التأشيرات لسكان كوسوفو».
   أشارت المفوضية الأوروبية في 2018، إلى أنّ هذه الدولة قد استوفت جميع المعايير للاستفادة من هذا التحرير، لكن المجلس الأوروبي يعارض ذلك بسبب تحفظات عدة دول، منها فرنسا.
   ويحذر العديد من مراقبي اليمين المتطرف، مثل ماريا إجناتيجيفيتش وجوفو باكيتش، من إحياء الاستفزازات القومية الصربية في المنطقة، وتشكل التهديدات الانفصالية التي أطلقها ميلوراد دوديك في البوسنة مثالاً واضحاً على ذلك. إنهم قلقون من رؤيتهم ينسجون شبكة من الدعم الأوروبي دون أن يثير ذلك قلق بروكسل.