رئيس الدولة ونائباه يهنئون رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده
قارئا جيدا لفصوله ومنعرجاته:
عصر يالطا عاد: رهان فلاديمير بوتين على التاريخ...!
-- الدول لا تحصل على ما تريد لأنها على حق، ولكن لأنها تملك القدرة على إحداث الضرر
-- تم أخذ العقوبات الاقتصادية الغربية الجديدة في الاعتبار في حسابات موسكو
-- مع تشديد قبضة بوتين على أوكرانيا، سيكتشف العالم ما إذا كان رهانه هو الفائز
-- يعرف الرئيس الروسي التاريخ جيدًا، ويعرف كيف يستفيد من الظروف المتغيّرة
-- نحن في بداية عملية طويلة ومرهقة، لأن بوتين يفهم جيدًا أن الدبلوماسية والحرب مترابطتان بشكل وثيق
«لم نعد في عهد يالطا”، قال ساخطًا1 في الخامس من يناير، رئيس السياسة الخارجية للاتحاد الاوروبي، جوزيب بوريل، في إشارة إلى المناقشات الأمريكية الروسية التي جرت في جنيف حول الهيكل الأمني الأوروبي 2. “إذا أردنا التحدث عن الأمن في أوروبا، يجب أن يكون الأوروبيون حول الطاولة».
كما كان متوقعًا، شعر القادة الأوروبيون بالظلم لأن روسيا والولايات المتحدة كانتا تناقشان مصيرهما في غيابهما. لم يخفوا استياءهم من ذلك، لكن الحقائق تظل كما هي: أوروبي واحد فقط يجلس على الطاولة واسمه فلاديمير بوتين.
رغم كل عيوبه، فإن الرئيس الروسي يعرف التاريخ جيدًا، ويعرف كيف يستفيد من الظروف المتغيرة. وبالنسبة له، لا يزال زمن يالطا قائمًا.
يأتي تحرك الكرملين لإعادة تنظيم البنية الأمنية لأوروبا في وقت مناسب لروسيا. وعلى العكس من ذلك، فإن التوقيت في غاية السوء بالنسبة لأوكرانيا وأوروبا الشرقية. بعد تحدي الصين في المحيط الهادئ، أصبحت الولايات المتحدة أقل انخراطا في الأمن الأوروبي أكثر من أي وقت منذ عام 1945.
لا تزال واشنطن متمسكة بالتزاماتها تجاه الناتو، غير انها تدرك أيضًا أنه ليس لدى بكين رغبة أعلى من أن ترى منافستها تندفع إلى صراع على الحدود الشرقية لأوروبا.
وهذه الفرصة بالتحديد هي التي رآها بوتين -والمخاطرة التي اختار الأوروبيون تجاهلها.
رهان الكرملين على التاريخ بسيط. إذا أُجبرت الولايات المتحدة على الاختيار بين مصالحها الاستراتيجية في أوروبا والمحيط الهادئ، فإنها ستفضل الأخيرة وتترك لروسيا مجالًا للمناورة الذي تسعى إليه في “خارجها القريب”.
ورغم تدفق التأكيدات على عكس ذلك 3 التي قدمتها الولايات المتحدة للعواصم الأوروبية، فإن رهان بوتين يمكن أن يؤتي ثماره على المدى الطويل.
قبل وقت ليس ببعيد، كان الرؤساء الأمريكان سينددون بخداع بوتين.
واليوم، يقول بايدن إنه يريد “تسوية” مع روسيا موافقا على إجراء محادثات ثنائية.
هناك الكثير من الحديث عن قائمة مطالب روسيا في هذه المحادثات، وقد يتبيّن أنّ بعضها غير قابل للتحقيق.
وفي قلب هذه المطالب، تكمن حاجة موسكو إلى إبقاء الناتو، وإلى حد أقل الاتحاد الاوروبي، خارج ما تعتبره روسيا مجال نفوذها في الفضاء السوفياتي السابق، لا سيما في أوكرانيا. راهنا، الوقت للتشاؤم، حيث تنتظرنا محادثات صعبة، كما يتضح من نتيجة الجولة الدبلوماسية الأولى في الأسبوع الماضي.
ومع ذلك، بالنسبة للكرملين، فإن إجبار واشنطن على الاعتراف بطموحاتها كقوة عظمى هو انتصار في حد ذاته. لسنوات، أرادت روسيا الانخراط في هذا النوع من المفاوضات. وأدان بوتين، الغاضب، تعدي الناتو على ما يراه مجال نفوذ روسيا الطبيعي. وعام 2008، قدم الرئيس الروسي آنذاك دميتري ميدفيديف، مقترحات لهيكل أمني أوروبي جديد.
لقد تم تجاهل دعوته بهدوء في ذلك الوقت، واليوم، تحصل موسكو أخيرًا على ما أرادته في تلك الفترة.
وبعد قطع كل هذه الطريق، فإن بوتين ليس مستعدًا للتخلي عن ذلك، ونحن في بداية عملية طويلة ومرهقة، ستتميز بالمحادثات بقدر ما تتميز بالحوادث والمعارك العسكرية الصغيرة، لأن بوتين يفهم جيدًا أن الدبلوماسية والحرب مترابطان بشكل وثيق.
حتى الآن، رفضت الولايات المتحدة رفضًا قاطعًا مطلب موسكو الرئيسي: ضمان عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو أبدًا. وهكذا، حتى الآن، واشنطن مستعدة لاتخاذ خطوة نحو موسكو فقط في قضايا من الدرجة الثانية، مثل تبادل المعلومات حول التدريبات العسكرية المنظمة في أوروبا الشرقية، أو نشر الصواريخ في هذه المنطقة. لم ينخدع الكرملين بهذه الاستراتيجية. وكان رده المنطقي هو رفع المخاطر تدريجيًا، إلى أن تضطر واشنطن إلى وضع عضوية أوكرانيا في الناتو على طاولة المفاوضات. وإلا، كما يقول المسؤولون الروس أنفسهم، سيتعين على موسكو “اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان التوازن الاستراتيجي والقضاء على التهديدات غير المقبولة لأمننا القومي».
يزعم المسؤولون الأمريكيون أن الكرملين لا يأخذ المحادثات على محمل الجد، ويسعى إلى استخدام انهيارها كذريعة لموسكو لغزو أوكرانيا.
وهم بذلك يأخذون المشكلة من الزاوية الخطأ لأن الهدف النهائي لروسيا سياسي، وهو تحقيق الاتفاق الكبير الذي كانت تسعى إليه مع الغرب منذ ثلاثين عامًا، دون الحصول عليه مطلقًا.
ان التهديد بتوغل أعمق في أوكرانيا، على سبيل المثال، عن طريق ربط شبه جزيرة القرم بمنطقة دونباس برّا، هي وسائل ضغط لهذا الغرض.
فاحتلال مساحات شاسعة من أوكرانيا لا يجذب روسيا، التي تعرف أنه يمكن أن تربح الحرب عسكريًا، ولكن ليس سياسيًا.
ففي القرم، يتمتع بوتين بدعم شعبي كبير، وفي باقي أنحاء أوكرانيا، القصة مختلفة.
علاوة على ذلك، لطالما نظر الكرملين إلى البلاد على أنها بؤرة للفساد غير قابل للشفاء ولا يمكن السيطرة عليه بشكل أســـــاســــي، لذلك من غيــــــر المرجح أن يرغب بوتين في تولي إدارتها.
ومع ذلك، يبدو أن الكرملين مستعد تمامًا لزعزعة استقرار أوكرانيا، وعلى سبيل المثال، تدمير البنية التحتية الاستراتيجية من خلال غارات عسكرية مستهدفة وهجمات إلكترونية.
الفرضية هي: إذا تدهور الوضع وتعثر، أو إذا وقع حدث سلبي في المحيط الهادئ، فسيسعى بايدن باي ثمن للحد من خسائره والاستجابة لمطالب روسيا. باختصار، بالنسبة لموسكو، يتعلّق الأمر بالتأثير على شؤون أوكرانيا من مسافة بعيدة، وخصوصا امتلاك حق النقض على سياستها الخارجية والأمنية، مما يسمح لروسيا بإبقـــــاء الغـــــرب على مسافة آمنة.
وباستثناء دول البلطيق، فإن أهداف الكرملين هي نفسها بالنسبة لبقية ما كان يُعرف سابقًا بالاتحاد السوفياتي -بيلاروسيا وكازاخستان وجورجيا وغيرها.
بتشديد قبضة بوتين على أوكرانيا، سيكتشف العالم ما إذا كان رهانه هو الفائز.
فالعقوبات الاقتصادية الغربية الجديدة، التي أصبحت روسيا أكثر استعدادًا لها مما كانت عليه عام 2014، تم أخذها في الاعتبار في حسابات موسكو. وجددت أسعار الطاقة المرتفعة صندوق الحرب، خاصة أن أوروبا لا تزال مصدر 40 بالمائة من الغاز الروسي، بينما تنوع غازبروم إمداداتها إلى آسيا.
كما طورت الشركات الروسية سلاسل إمداد بديلة وهي معزولة بشكل أفضل عن العقوبات الغربية.
ومع ذلك، فإن مطالب موسكو لها حدود، وعاجلاً أم آجلاً، سيتعين على الكرملين الاعتراف بذلك. إن استخدام حق النقض ضد السياسة الخارجية الأوكرانية، وسلطة تخريب الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية في البلاد، هما شيئان منفصلان.
وبالنظر إلى افتقار خطة كييف للانضمام إلى حلف الناتو حاليًا إلى دعم غربي شامل، فمن الممكن نظريًا التوصل إلى حل وسط بشأن “فنلدة” أوكرانيا. في المقابل، من الصعب تخيّل اتفاقات تضفي الشرعية على الامتيازات الروسية في السياسة الداخلية لأوكرانيا.
بالنسبة لأوروبا، يظل النهج الدبلوماسي لواشنطن في كل الاحوال هزيمة وإهانة. وبالطبع، فإن الدبلوماسيين الأمريكيين سوف “يخبرون” الأوروبيين بدقة عن محادثاتهم مع روسيا، والتي من المتوقع أن تستمر في الأسابيع والأشهر القادمة. سيقولون: “لا اتفاق بشأن أوروبا بدون أوروبا”، لكن هذا الخطاب بالكاد يخفي حقيقة أن أوروبا تظل محصورة بشكل لا رجعة فيه في دور المتفرج... لأن القارة الأوروبية راهنت أيضًا على التاريخ.
يراهن الأوروبيون على حقيقة أن الرؤساء الأمريكيين عارضوا بشـــــدة التوغلات الروسية دائمًا.
وفي مواجهة دونالد ترامب، أدركت أنجيلا ميركل أن هذا الرهان كان خاسرًا، وحثت الأوروبيين على “مسك مصيرهم بأيديهم”.
بعد خمس سنوات، لم يتم إحراز أي تقدم حقيقي، وعدم التواجد على طاولة المفاوضات هو الثمن الذي يجب أن تدفعه أوروبا مقابل مماطلتها.
داخل الاتحاد الاوروبي، رفض البعض واستهزأ بالطموحات، التي تحركها فرنسا أساسا، لتعزيز استقلاليته الاستراتيجية، بما في ذلك على المستوى العسكري.
وجادلت الدول الواقعة على الجانب الشرقي من أوروبا، وهي الأكثر هشاشة تجاه روسيا، بأن خطط الدفاع الأوروبية تخاطر بقطع الروابط بين أوروبا والولايات المتحدة.
والرسالة وراء هجوم بوتين الأخير، هي أن هذا الرابط، رغم أنه لا يزال حاسمًا، لا يقدم لأوروبا سوى ضمانات متناقصة، ويجب على الاتحاد تعويضها بمفرده.
وهذه إشارة يجب على الاتحاد، بما في ذلك مكوّنه الشرقي، أن ينتبه لها.
إن فكرة بوتين عن أولويات أمريكا الاستراتيجية ليست مجرد نتاج حدسه: فالرحيل المفاجئ من أفغانستان جعلها واضحة للعالم.
وبدلاً من استجداء الولايات المتحدة لمنحهم مقعدًا إضافيًا على طاولة المفاوضات، يجب على القادة الأوروبيين أن يطلبوا من السيد بايدن مساعدتهم في معالجة السبب الكامن وراء عجزهم، وهو سياسي بشكل أساسي.
تاريخياً، دعمت الولايات المتحدة بحماس جهود التكامل الأوروبي، لكن حماسها لم يمتد إلى التكامل الدفاعي الأوروبي. وطيلة سنوات، مارست واشنطن ضغوطًا على الأوروبيين لزيادة ميزانياتهم الدفاعية الوطنية. ومع ذلك، قوبلت خطط دمج قدراتهم الدفاعية في إطار أوروبي بدون حماس على أساس أنها ستتداخل مع حلف الناتو. إن الانقسامات المريرة في أوروبا بشأن استقلالها الاستراتيجي، تنبع في جزء كبير منها من عدم ارتياح أمريكا التقليدي لهذا الطموح.
لن يكون هذا كافيًا لدفع الاتحاد الاوروبي إلى الأمام، لكن اعتراف الولايات المتحدة بالجهود الأوروبية لدمج قدرات الدفاع الوطني سيزيل عقبة رئيسية، وسيكون أكثر من خدمة نزيهة.
ففي نهاية المطاف، يمكن أن يساعد حتى واشنطن في سد الضعف الاستراتيجي الذي يأمل بوتين حاليًا في استغلاله، أي أن الولايات المتحدة ستجد صعوبة في توزيع طاقتها بين أوروبا والمحيط الهادي والشرق الأوسط.
وماذا لو قرر شي، الذي لا شك أنه يتابع التطورات في أوكرانيا باهتمام، أن الوقت مناسب لمواجهة تايوان؟ وماذا لو رأت إيران في ذلك فرصة لتعزيز طموحاتها النووية؟ ليست هناك حاجة لأن يتحد السلطويون في جميع أنحاء العالم وينسقون بدقة خطة لهجوم مشترك.
ان الولايات المتحدة، بالطبع، ليست القوة الوحيدة التي بنى عليها الأوروبيون مستقبلهم. اعتمدت القارة أيضًا على انتشار القانون والمبادئ الدولية، التي تم تدوينها في إعلانات ومعاهدات الأمم المتحدة، والتي كان من المفترض أن تجعل سياسات القوى العظمى بالية.
وكان أحد هذه المبادئ، هو أن الدول ذات السيادة، كبيرة كانت أم صغيرة، متساوية وحرة في التصرف في شؤونها.
لطالما اعتقد الأوروبيون -ولايزالون على ما يبدو -أن السياسة الخارجية تصريحية. صحيح أن بوتين وشي وغيرهما من الزعماء الأقوياء يحبون أن يقولوا إنهم يتصرفون وفقًا للقانون الدولي ومبادئ الشرعية المعترف بها، لكن من الواضح أن نسختهم من القانون الدولي تختلف بشكل ملحوظ عن نسخة الغرب، ولا يوجد حكم لتحديد من هو على حق.
لسوء الحظ، أوروبا مخطئة. شئنا أم أبينا، “زمن يالطا” عاد. الدول لا تحصل على ما تريد لأنها على حق، ولكن لأن لديها القدرة على إحداث الضرر.
وعلى هــــــذا النحـــــــو، فإن المستقبل غير غامض للغاية لأنه، على عكس ما يميل السياسيون الأوروبيـــــون إلى اعتقاده، ســــيكون الأمـر كما كان في الماضي.
سيقرره المتحدون وفي موقع قوة، لا الصغار والضعفاء والمنقسمين وحتى تحلّيهم بالعدل والفضيلة واحترام القواعد، لن يغير شيئًا. سيجلس المعسكر الأول إلى طاولة المفاوضات، بينما يُبلَّغ أطراف المعسكر الثاني بمصيرهم عبر شاشات متداخلة. هذا غير عادل بشكل فظيع، لكن كلما أدركنا ذلك مبكرًا، كلما استطعنا الردّ بشكل أفضل.
ربما حينها، بدلاً من شجب الظلم السائد في عصرنا، ستطرح أوروبا على نفسها مسالة كيفية التعامل مع هذا الظلم.
مصادر
1 -بوليتيكو -مقال جوزيب بوريل أوكرانيا والولايات المتحدة وروسيا والصين المحادثات والقوات على الحدود
2 -رويترز –بدء محادثات متوترة حول أزمة أوكرانيا-10 يناير 2022
3 -موقع البيت الأبيض -الالتزام الدبلوماسي للولايات المتحدة مع الحلفاء والشركاء الأوروبيين قبل المحادثات مع روسيا-10 يناير 2022
*دكتور في النظرية السياسية. عمل بشكل خاص كمستشار للمفوضية الأوروبية، ثم مع فريق الاتصال في الكرملين، حتى عام 2015. وهو مؤلف كتاب “الأقوياء” “أجندة للنشر، 2020»
-- تم أخذ العقوبات الاقتصادية الغربية الجديدة في الاعتبار في حسابات موسكو
-- مع تشديد قبضة بوتين على أوكرانيا، سيكتشف العالم ما إذا كان رهانه هو الفائز
-- يعرف الرئيس الروسي التاريخ جيدًا، ويعرف كيف يستفيد من الظروف المتغيّرة
-- نحن في بداية عملية طويلة ومرهقة، لأن بوتين يفهم جيدًا أن الدبلوماسية والحرب مترابطتان بشكل وثيق
«لم نعد في عهد يالطا”، قال ساخطًا1 في الخامس من يناير، رئيس السياسة الخارجية للاتحاد الاوروبي، جوزيب بوريل، في إشارة إلى المناقشات الأمريكية الروسية التي جرت في جنيف حول الهيكل الأمني الأوروبي 2. “إذا أردنا التحدث عن الأمن في أوروبا، يجب أن يكون الأوروبيون حول الطاولة».
كما كان متوقعًا، شعر القادة الأوروبيون بالظلم لأن روسيا والولايات المتحدة كانتا تناقشان مصيرهما في غيابهما. لم يخفوا استياءهم من ذلك، لكن الحقائق تظل كما هي: أوروبي واحد فقط يجلس على الطاولة واسمه فلاديمير بوتين.
رغم كل عيوبه، فإن الرئيس الروسي يعرف التاريخ جيدًا، ويعرف كيف يستفيد من الظروف المتغيرة. وبالنسبة له، لا يزال زمن يالطا قائمًا.
يأتي تحرك الكرملين لإعادة تنظيم البنية الأمنية لأوروبا في وقت مناسب لروسيا. وعلى العكس من ذلك، فإن التوقيت في غاية السوء بالنسبة لأوكرانيا وأوروبا الشرقية. بعد تحدي الصين في المحيط الهادئ، أصبحت الولايات المتحدة أقل انخراطا في الأمن الأوروبي أكثر من أي وقت منذ عام 1945.
لا تزال واشنطن متمسكة بالتزاماتها تجاه الناتو، غير انها تدرك أيضًا أنه ليس لدى بكين رغبة أعلى من أن ترى منافستها تندفع إلى صراع على الحدود الشرقية لأوروبا.
وهذه الفرصة بالتحديد هي التي رآها بوتين -والمخاطرة التي اختار الأوروبيون تجاهلها.
رهان الكرملين على التاريخ بسيط. إذا أُجبرت الولايات المتحدة على الاختيار بين مصالحها الاستراتيجية في أوروبا والمحيط الهادئ، فإنها ستفضل الأخيرة وتترك لروسيا مجالًا للمناورة الذي تسعى إليه في “خارجها القريب”.
ورغم تدفق التأكيدات على عكس ذلك 3 التي قدمتها الولايات المتحدة للعواصم الأوروبية، فإن رهان بوتين يمكن أن يؤتي ثماره على المدى الطويل.
قبل وقت ليس ببعيد، كان الرؤساء الأمريكان سينددون بخداع بوتين.
واليوم، يقول بايدن إنه يريد “تسوية” مع روسيا موافقا على إجراء محادثات ثنائية.
هناك الكثير من الحديث عن قائمة مطالب روسيا في هذه المحادثات، وقد يتبيّن أنّ بعضها غير قابل للتحقيق.
وفي قلب هذه المطالب، تكمن حاجة موسكو إلى إبقاء الناتو، وإلى حد أقل الاتحاد الاوروبي، خارج ما تعتبره روسيا مجال نفوذها في الفضاء السوفياتي السابق، لا سيما في أوكرانيا. راهنا، الوقت للتشاؤم، حيث تنتظرنا محادثات صعبة، كما يتضح من نتيجة الجولة الدبلوماسية الأولى في الأسبوع الماضي.
ومع ذلك، بالنسبة للكرملين، فإن إجبار واشنطن على الاعتراف بطموحاتها كقوة عظمى هو انتصار في حد ذاته. لسنوات، أرادت روسيا الانخراط في هذا النوع من المفاوضات. وأدان بوتين، الغاضب، تعدي الناتو على ما يراه مجال نفوذ روسيا الطبيعي. وعام 2008، قدم الرئيس الروسي آنذاك دميتري ميدفيديف، مقترحات لهيكل أمني أوروبي جديد.
لقد تم تجاهل دعوته بهدوء في ذلك الوقت، واليوم، تحصل موسكو أخيرًا على ما أرادته في تلك الفترة.
وبعد قطع كل هذه الطريق، فإن بوتين ليس مستعدًا للتخلي عن ذلك، ونحن في بداية عملية طويلة ومرهقة، ستتميز بالمحادثات بقدر ما تتميز بالحوادث والمعارك العسكرية الصغيرة، لأن بوتين يفهم جيدًا أن الدبلوماسية والحرب مترابطان بشكل وثيق.
حتى الآن، رفضت الولايات المتحدة رفضًا قاطعًا مطلب موسكو الرئيسي: ضمان عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو أبدًا. وهكذا، حتى الآن، واشنطن مستعدة لاتخاذ خطوة نحو موسكو فقط في قضايا من الدرجة الثانية، مثل تبادل المعلومات حول التدريبات العسكرية المنظمة في أوروبا الشرقية، أو نشر الصواريخ في هذه المنطقة. لم ينخدع الكرملين بهذه الاستراتيجية. وكان رده المنطقي هو رفع المخاطر تدريجيًا، إلى أن تضطر واشنطن إلى وضع عضوية أوكرانيا في الناتو على طاولة المفاوضات. وإلا، كما يقول المسؤولون الروس أنفسهم، سيتعين على موسكو “اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان التوازن الاستراتيجي والقضاء على التهديدات غير المقبولة لأمننا القومي».
يزعم المسؤولون الأمريكيون أن الكرملين لا يأخذ المحادثات على محمل الجد، ويسعى إلى استخدام انهيارها كذريعة لموسكو لغزو أوكرانيا.
وهم بذلك يأخذون المشكلة من الزاوية الخطأ لأن الهدف النهائي لروسيا سياسي، وهو تحقيق الاتفاق الكبير الذي كانت تسعى إليه مع الغرب منذ ثلاثين عامًا، دون الحصول عليه مطلقًا.
ان التهديد بتوغل أعمق في أوكرانيا، على سبيل المثال، عن طريق ربط شبه جزيرة القرم بمنطقة دونباس برّا، هي وسائل ضغط لهذا الغرض.
فاحتلال مساحات شاسعة من أوكرانيا لا يجذب روسيا، التي تعرف أنه يمكن أن تربح الحرب عسكريًا، ولكن ليس سياسيًا.
ففي القرم، يتمتع بوتين بدعم شعبي كبير، وفي باقي أنحاء أوكرانيا، القصة مختلفة.
علاوة على ذلك، لطالما نظر الكرملين إلى البلاد على أنها بؤرة للفساد غير قابل للشفاء ولا يمكن السيطرة عليه بشكل أســـــاســــي، لذلك من غيــــــر المرجح أن يرغب بوتين في تولي إدارتها.
ومع ذلك، يبدو أن الكرملين مستعد تمامًا لزعزعة استقرار أوكرانيا، وعلى سبيل المثال، تدمير البنية التحتية الاستراتيجية من خلال غارات عسكرية مستهدفة وهجمات إلكترونية.
الفرضية هي: إذا تدهور الوضع وتعثر، أو إذا وقع حدث سلبي في المحيط الهادئ، فسيسعى بايدن باي ثمن للحد من خسائره والاستجابة لمطالب روسيا. باختصار، بالنسبة لموسكو، يتعلّق الأمر بالتأثير على شؤون أوكرانيا من مسافة بعيدة، وخصوصا امتلاك حق النقض على سياستها الخارجية والأمنية، مما يسمح لروسيا بإبقـــــاء الغـــــرب على مسافة آمنة.
وباستثناء دول البلطيق، فإن أهداف الكرملين هي نفسها بالنسبة لبقية ما كان يُعرف سابقًا بالاتحاد السوفياتي -بيلاروسيا وكازاخستان وجورجيا وغيرها.
بتشديد قبضة بوتين على أوكرانيا، سيكتشف العالم ما إذا كان رهانه هو الفائز.
فالعقوبات الاقتصادية الغربية الجديدة، التي أصبحت روسيا أكثر استعدادًا لها مما كانت عليه عام 2014، تم أخذها في الاعتبار في حسابات موسكو. وجددت أسعار الطاقة المرتفعة صندوق الحرب، خاصة أن أوروبا لا تزال مصدر 40 بالمائة من الغاز الروسي، بينما تنوع غازبروم إمداداتها إلى آسيا.
كما طورت الشركات الروسية سلاسل إمداد بديلة وهي معزولة بشكل أفضل عن العقوبات الغربية.
ومع ذلك، فإن مطالب موسكو لها حدود، وعاجلاً أم آجلاً، سيتعين على الكرملين الاعتراف بذلك. إن استخدام حق النقض ضد السياسة الخارجية الأوكرانية، وسلطة تخريب الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية في البلاد، هما شيئان منفصلان.
وبالنظر إلى افتقار خطة كييف للانضمام إلى حلف الناتو حاليًا إلى دعم غربي شامل، فمن الممكن نظريًا التوصل إلى حل وسط بشأن “فنلدة” أوكرانيا. في المقابل، من الصعب تخيّل اتفاقات تضفي الشرعية على الامتيازات الروسية في السياسة الداخلية لأوكرانيا.
بالنسبة لأوروبا، يظل النهج الدبلوماسي لواشنطن في كل الاحوال هزيمة وإهانة. وبالطبع، فإن الدبلوماسيين الأمريكيين سوف “يخبرون” الأوروبيين بدقة عن محادثاتهم مع روسيا، والتي من المتوقع أن تستمر في الأسابيع والأشهر القادمة. سيقولون: “لا اتفاق بشأن أوروبا بدون أوروبا”، لكن هذا الخطاب بالكاد يخفي حقيقة أن أوروبا تظل محصورة بشكل لا رجعة فيه في دور المتفرج... لأن القارة الأوروبية راهنت أيضًا على التاريخ.
يراهن الأوروبيون على حقيقة أن الرؤساء الأمريكيين عارضوا بشـــــدة التوغلات الروسية دائمًا.
وفي مواجهة دونالد ترامب، أدركت أنجيلا ميركل أن هذا الرهان كان خاسرًا، وحثت الأوروبيين على “مسك مصيرهم بأيديهم”.
بعد خمس سنوات، لم يتم إحراز أي تقدم حقيقي، وعدم التواجد على طاولة المفاوضات هو الثمن الذي يجب أن تدفعه أوروبا مقابل مماطلتها.
داخل الاتحاد الاوروبي، رفض البعض واستهزأ بالطموحات، التي تحركها فرنسا أساسا، لتعزيز استقلاليته الاستراتيجية، بما في ذلك على المستوى العسكري.
وجادلت الدول الواقعة على الجانب الشرقي من أوروبا، وهي الأكثر هشاشة تجاه روسيا، بأن خطط الدفاع الأوروبية تخاطر بقطع الروابط بين أوروبا والولايات المتحدة.
والرسالة وراء هجوم بوتين الأخير، هي أن هذا الرابط، رغم أنه لا يزال حاسمًا، لا يقدم لأوروبا سوى ضمانات متناقصة، ويجب على الاتحاد تعويضها بمفرده.
وهذه إشارة يجب على الاتحاد، بما في ذلك مكوّنه الشرقي، أن ينتبه لها.
إن فكرة بوتين عن أولويات أمريكا الاستراتيجية ليست مجرد نتاج حدسه: فالرحيل المفاجئ من أفغانستان جعلها واضحة للعالم.
وبدلاً من استجداء الولايات المتحدة لمنحهم مقعدًا إضافيًا على طاولة المفاوضات، يجب على القادة الأوروبيين أن يطلبوا من السيد بايدن مساعدتهم في معالجة السبب الكامن وراء عجزهم، وهو سياسي بشكل أساسي.
تاريخياً، دعمت الولايات المتحدة بحماس جهود التكامل الأوروبي، لكن حماسها لم يمتد إلى التكامل الدفاعي الأوروبي. وطيلة سنوات، مارست واشنطن ضغوطًا على الأوروبيين لزيادة ميزانياتهم الدفاعية الوطنية. ومع ذلك، قوبلت خطط دمج قدراتهم الدفاعية في إطار أوروبي بدون حماس على أساس أنها ستتداخل مع حلف الناتو. إن الانقسامات المريرة في أوروبا بشأن استقلالها الاستراتيجي، تنبع في جزء كبير منها من عدم ارتياح أمريكا التقليدي لهذا الطموح.
لن يكون هذا كافيًا لدفع الاتحاد الاوروبي إلى الأمام، لكن اعتراف الولايات المتحدة بالجهود الأوروبية لدمج قدرات الدفاع الوطني سيزيل عقبة رئيسية، وسيكون أكثر من خدمة نزيهة.
ففي نهاية المطاف، يمكن أن يساعد حتى واشنطن في سد الضعف الاستراتيجي الذي يأمل بوتين حاليًا في استغلاله، أي أن الولايات المتحدة ستجد صعوبة في توزيع طاقتها بين أوروبا والمحيط الهادي والشرق الأوسط.
وماذا لو قرر شي، الذي لا شك أنه يتابع التطورات في أوكرانيا باهتمام، أن الوقت مناسب لمواجهة تايوان؟ وماذا لو رأت إيران في ذلك فرصة لتعزيز طموحاتها النووية؟ ليست هناك حاجة لأن يتحد السلطويون في جميع أنحاء العالم وينسقون بدقة خطة لهجوم مشترك.
ان الولايات المتحدة، بالطبع، ليست القوة الوحيدة التي بنى عليها الأوروبيون مستقبلهم. اعتمدت القارة أيضًا على انتشار القانون والمبادئ الدولية، التي تم تدوينها في إعلانات ومعاهدات الأمم المتحدة، والتي كان من المفترض أن تجعل سياسات القوى العظمى بالية.
وكان أحد هذه المبادئ، هو أن الدول ذات السيادة، كبيرة كانت أم صغيرة، متساوية وحرة في التصرف في شؤونها.
لطالما اعتقد الأوروبيون -ولايزالون على ما يبدو -أن السياسة الخارجية تصريحية. صحيح أن بوتين وشي وغيرهما من الزعماء الأقوياء يحبون أن يقولوا إنهم يتصرفون وفقًا للقانون الدولي ومبادئ الشرعية المعترف بها، لكن من الواضح أن نسختهم من القانون الدولي تختلف بشكل ملحوظ عن نسخة الغرب، ولا يوجد حكم لتحديد من هو على حق.
لسوء الحظ، أوروبا مخطئة. شئنا أم أبينا، “زمن يالطا” عاد. الدول لا تحصل على ما تريد لأنها على حق، ولكن لأن لديها القدرة على إحداث الضرر.
وعلى هــــــذا النحـــــــو، فإن المستقبل غير غامض للغاية لأنه، على عكس ما يميل السياسيون الأوروبيـــــون إلى اعتقاده، ســــيكون الأمـر كما كان في الماضي.
سيقرره المتحدون وفي موقع قوة، لا الصغار والضعفاء والمنقسمين وحتى تحلّيهم بالعدل والفضيلة واحترام القواعد، لن يغير شيئًا. سيجلس المعسكر الأول إلى طاولة المفاوضات، بينما يُبلَّغ أطراف المعسكر الثاني بمصيرهم عبر شاشات متداخلة. هذا غير عادل بشكل فظيع، لكن كلما أدركنا ذلك مبكرًا، كلما استطعنا الردّ بشكل أفضل.
ربما حينها، بدلاً من شجب الظلم السائد في عصرنا، ستطرح أوروبا على نفسها مسالة كيفية التعامل مع هذا الظلم.
مصادر
1 -بوليتيكو -مقال جوزيب بوريل أوكرانيا والولايات المتحدة وروسيا والصين المحادثات والقوات على الحدود
2 -رويترز –بدء محادثات متوترة حول أزمة أوكرانيا-10 يناير 2022
3 -موقع البيت الأبيض -الالتزام الدبلوماسي للولايات المتحدة مع الحلفاء والشركاء الأوروبيين قبل المحادثات مع روسيا-10 يناير 2022
*دكتور في النظرية السياسية. عمل بشكل خاص كمستشار للمفوضية الأوروبية، ثم مع فريق الاتصال في الكرملين، حتى عام 2015. وهو مؤلف كتاب “الأقوياء” “أجندة للنشر، 2020»