صدر حديثاً عن دار «روايات»
غدير الخنيزي في «مدن داخلية».. سيرة أدبية مكتوبة بالشوارع والأشجار
تحول الكاتبة غدير الخنيزي في كتابها الصادر حديثاً عن دار روايات “مدن داخلية”، تجربة التجول والترحال في المدن وشوارعها وأزقتها، إلى مسار حر للتجول في الذات واكتشاف عوالمها، حيث ترصد وهي توثق إقامتها في المنامة ورحلاتها إلى باريس ومينيابوليس مفهوم الذاكرة، وعلاقة الإنسان بالمكان، وتعيد توصيف المعنى الجوهري للزمن بوصفه مساحة مفتوحة يلتقي فيها الراهن بالماضي والمستقبل، ويتشابك فيها المتخيل مع الواقع.
وتقدم الخنيزي في كتابها الذي جاء في 131 صفحة من القطع المتوسط، تجربة سردية مختلفة في أدب الرحلات، إذ تستند إلى مرجعيتها الأكاديمية والمهنية كمعمارية لتكتب أدباً جديداً، تتحاور فيه اليوميات مع التأملات الفلسفية، وتمتزج فيه السيرة الذاتية مع التأريخ المروي والمكتوب، وكأنها تشيّد بذلك معماراً مغايراً لأدب الترحال والسفر في خزانة الأدب العربي.
تستهّل الخنيزي كتابها بتحديد المعنى المراد لعدد من المفاهيم والمفردات التي تتكئ عليها في بناء علاقتها مع الأمكنة وفي رسم ملامح تجربتها في الكتابة عنها، إذ تستهل الكتاب بمقطع من قصيدة الشاعر أدونيس يقول فيه: “وأعرف أن الطريق لغة في عروقي وليس المكان”، وكأنها بذلك تقول إن الطرق مسالك لتشكيل المعنى وقول ما يمكن واكتشاف ما ينبغي، تماماً كما اللغة.
ثم تنتقل لتضع القارئ عند مقصدها من مفردة “الرحلة”، فتكتب في “التمهيد”: “قد تبدو الفصول المقبلة نسيجاً لرحلة عابرة للتاريخ والأمكنة والثقافات… لكن الرحلة الحقيقية هي التي جرت بالداخل، واستعادتها كانت عملية آثارية تخيلية شاقة بدأت بالتنقيب وانتهت بالترميم، تخللتها مراحل متواشجة من تفكيك طبقات الذات».
ولا تتوقف الخنيزي عند ذلك، وإنما تفرد فصلاً لتكشف معنى “التسكع”، وهو التوصيف الذي استخدمته في العنوان الفرعي للكتاب “التسكع في المنامة وباريس ومينيابوليس”، فتكتب في ذلك: “التسكع فن. أن تتجوّل في المدينة وتهيم في شوارعها وميادينها وأسواقها وفضاءاتها سعياً للذة مؤجلة في العثور على ما تبحث عنه، قد لا تعلم ما هو، وقد تصل له في أقل الأماكن توقعاً».
تسلّم الكاتبة بهذه المفاهيم وغيرها من الإشارات الاستهلالية مفاتيح عملها الأدبي للقارئ، وتتركه يتجول في ذاكرتها، فترسم له طرقاً معبّدة لتأمل مدينة المنامة قبل عقود ماضية، واكتشاف علاقتها مع سكانها، وأثر اللغة المحكية على رمزيتها كمدينة تتبدل ملامحها وتتمسك بروحها، كما تفتح للقارئ نوافذ وأبواباً للنظر إلى باريس بعيداً عن صورتها السائدة، والوقوف عند أميريكا من مدينة قلَّ من زارها أو حتى عرفها في المنطقة العربية؛ مدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا.
تمرر الخنيزي سيرتها في الكتاب تماماً كما لو أنها تعبر شارعاً في مدينة، تشير إلى تفاصيل هنا وأخرى هناك، تتوقف عند علامات وتروي ذكريات وتضع الأسئلة من جديد أمام الأسئلة لتصبح الإجابات خيار القارئ للمشي نحو الأمام، فتكتب: “أحاول تفكيك حقيقة اعتيادي أن أجيب (المنامة) عندما يسألني الناس في الخارج من أي مدينة أنا؟ كيف لي أن أشرح لمن هو غير بحريني توليفة (النعيم) و(جد حفص) و(رأس الرمان) و(المنامة)، وبأنني أسكن في قرية أبو صيبع، وبالتحديد المخططة في الثمانينات كامتداد للقرية الأصلية؟»
هذا ما تحاول الوصول إليه في طريقها لمدينة المنامة، في الوقت الذي تتحوّل كتابتها عن باريس إلى يوميات تفصيلية تبدأ من لحظة وصولها لمطار شارل ديغول إلى أن تغادرها، فتكتب: “سرت مبتعدة عن معهد الدراسات الفرنسية في يومنا الأخير وأنا أشعر أنني سأفتقد هذا البناء الصغير المنفصل عن بقية مباني جامعة بورغونيا. مقطورة خارجية من الألمنيوم المعزول، مؤلفة من أربعة صفوف تستقبل الطلاب من كل أنحاء العالم».
أما عن مينيابوليس فتقول: “مينيابوليس تتباهى بنفسها في الخريف أكثر من أي فصل ثانٍ، بهاء جدير بأن أمنحها فرصة ثانية لأشهد الشوارع المزينة بالأشجار المصطبغة بتدرجات الأحمر والأصفر.
أتذكر يوماً محدداً، كنت قد نزلت فيه من الترام القادم من شقتي في وسط المدينة، ومشيت باتجاه كلية التصميم بخطوات وئيدة، بل بطيئة بوتيرة متعمدة كي أعيد الاستماع لأغنية شارل أزنافور».