ليس لدى موسكو الكثير لتقدمه لبكين

فورين أفيرز: لهذا لم تهب الصين لنجدة روسيا

فورين أفيرز: لهذا لم تهب الصين لنجدة روسيا

قالت مديرة التوقعات العالمية في وحدة الاستخبارات الاقتصادية، أغات دوماريه في “فورين أفيرز” إن تقييم التحول الاقتصادي لروسيا تحو الشرق، ليس سهلاً.
حجب الكرملين في السنة الماضية بياناته التجارية، ويعد تصفح بيانات الجمارك الصينية الآن الطريقة الوحيدة لمعرفة حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين، رغم أن هذه البيانات لا تشمل التهريب وقد تكون غير كاملة، لكنها موثوقة بما يكفي لتقدم الصورة الكبيرة، ويبدو أن الصين حذرة من زيادة التجارة مع روسيا. وعلى عكس الحكمة التقليدية، ليس لدى موسكو الكثير لتقدمه لبكين.
 
صداع للكرملين
في 2022، استهدفت العقوبات الغربية الواردات الروسية من المنتجات الغربية، بما في ذلك قطع غيار السيارات، والطائرات، والآلات، ما عكس تردد أوروبا في التخلص من إدمان الطاقة الروسية. فقدت روسيا أيضاً الوصول إلى أشباه الموصلات المتطورة، التي تعتمد على التكنولوجيا الأمريكية، ما تسبب فيصداع للكرملين، إذ تحتاج روسيا إلى رقائق إلكترونية متطورة لبناء الصواريخ التي تستخدمها في أوكرانيا. تدرك الدول الغربية أن روسيا ستعثر دائماً على مشترين لصادرات الهيدروكربونات مخفضة الأسعار، لكن تحديد مورّدين للتكنولوجيا المتقدمة صعب، والشركات الصينية غير مستعجلة لسد الفجوة التي خلفها انسحاب الشركات الغربية.
 
زخم نظري
على الورق تقول دوماريه في “فورين أفيرز” يبدو أن العلاقات التجارية الصينية الروسية تكتسب زخماً. ارتفعت قيمة صادرات الصين إلى روسيا بالدولار الأمريكي 12.8% في 2022، وهو ارتفاع مدعوم جزئياً بتحركات أسعار الصرف، إذ انخفض اليوان مقابل  الدولار والروبل في السنة الماضية، ما أدى إلى زيادة القدرة التنافسية للصادرات الصينية إلى روسيا. لكن هذا النمو القوي على ما يبدو في الشحنات الصينية عبر نهر أمور الذي يشكل حدوداً طبيعية بين البلدين في أقصى الشرق لم يكن استثنائياً. وسجل أكبر 20 شريكاً تجارياً للصين على الأغلب نمواً بـ 10% أو أكثر لوارداتهم من الصين في السنة الماضية. على سبيل المثال، قفزت قيمة الصادرات الصينية إلى أستراليا، والهند اللتين يصعب وصفهما بحليفتي الصين بنحو 20%  في السنة الماضية.
تعطي قيمة الدولار لصادرات الصين إلى روسيا صورة أكثر تواضعاً للعلاقة التجارية. ففي 2022، شحنت الشركات الصينية 76 مليار دولار من البضائع إلى روسيا، ما يعادل تقريباً قيمة شحناتها إلى إندونيسيا، وتايوان، وأستراليا. ويمثل ذلك 2% فقط من صادرات الصين، وهو ما يضعها على قدم المساواة مع الشحنات الصينية إلى تايلاند، التي يبلغ اقتصادها ربع حجم اقتصاد روسيا.
ولم تكن 2022 استثناء، فمنذ 2014، نمت صادرات الصين إلى روسيا بنحو 40%  فقط من حيث القيمة الاسمية، مقارنة مع أكثر من 200 % للصادرات إلى الهند، وفيتنام، وسنغافورة. ويثير ذلك تساؤلاً عن سبب عجز روسيا عن التحول إلى سوق جذابة للشركات الصينية.
 
إجابات واضحة
سجل الاقتصاد الروسي ركوداً في 2022،.و سيظل النمو في أحسن الأحوال راكداً في 2023، وتشير التوقعات إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا لن يعود إلى مستوى ما قبل الحرب، حتى 2027.  وكان قرار الكرملين في 2022 بالاستغناء عن المعايير الدولية التي تحمي الملكية الفكرية، عاملاً مثبطاً آخر، إذ تريد الشركات الصينية حماية خبراتها الفنية عند التجارة مع الخارج. بالإضافة إلى ذلك، لم تأمر بكين بعد، الشركات المملوكة للدولة، بدخول السوق الروسية. بالنظر إلى أن الشعب الروسي يشك تقليدياً في الصين، تعلم الشركات الصينية أنها قد لا تلقى ترحيباً في روسيا.
لكن السبب الرئيسي لتردد الشركات الصينية في التجارة عبر نهر أمور قد يكون بسبب واشنطن أكثر من موسكو. تشعر الشركات الصينية بالقلق من فرض الولايات المتحدة عقوبات ثانوية قد تستهدف شركات أي دولة تتعامل مع الشركات الروسية.
وحتى الآن، فرضت واشنطن هذه الإجراءات فقط على العقود مع القطاع العسكري الروسي. إذا وسعت الولايات المتحدة  هذه الإجراءات لتشمل قطاعات اقتصادية أخرى، فتضطر كل الشركات حول العالم للاختيار بين الأسواق الأمريكية والروسية. وبالنسبة إلى معظم الشركات، سيكون التمسك بالولايات المتحدة أمراً لا يحتاج إلى تفكير. نتيجة لذلك، لا حافز لدى الشركات الصينية لتستثمر الوقت والمال في تطوير علاقات مع الشركات الروسية قد تحتاج قريباً إلى التخلي عنها.
 
رهان أمريكي
وحسب دوماريه، ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق للكرملين أن الشركات الصينية التي تنشط تجارياً عبر نهر أمور لا تعوض  رحيل الموردين الغربيين عن السوق الروسية، فالشركات الصينية ترسل في الغالب الهواتف المحمولة الأساسية، ومعدات نقل، وحواسيب، و لاتشحن التكنولوجيا المتقدمة إلى روسيا. وقد تكون الولايات المتحدة هي المسؤولة، ومثل روسيا، فقدت الصين الوصول إلى أشباه الموصلات المتطورة نتيجة  ضوابط التصدير الأمريكية التي فرضت في أواخر 2022. والرقائق التي يمكن للصين أن تصنعها هي في الغالب غير متقدمة وعلى الأرجح ذات استخدام محدود لروسيا. عندما قيدت قدرة روسيا والصين على استيراد أشباه موصلات متطورة، راهنت الولايات المتحدة على تنافسهما بدل  تعاونهما للتحايل على هذه الإجراءات، للحصول على منتجات عالية الجودة. وفي الغالب، أتى هذا الرهان بثماره. ويبدو أن روسيا تهرب بعض أشباه الموصلات من تركيا، وربما من كازاخستان، وصربيا، ولكنها لا تستطيع على الأرجح تأمين ما يكفي من أشباه الموصلات لتلبية متطلبات اقتصادها الكبير ،ما يقوض قدرتها على إنشاء نظام بيئي تكنولوجي من الصفر، وبناء سلاسل توريد للمنتجات المتقدمة. بمرور الوقت، سيؤثر ذلك بشكل كبير على التوقعات الاقتصادية لروسيا. وعلى الجانب الآخر من الميزان التجاري، يبدو ارتفاع الصادرات الروسية إلى الصين أكثر إثارة للاهتمام، إذ زادت قيمة الشحنات الروسية إلى الصين 43% في 2022. ولكن مجدداً، قد لا يكون الواقع وردياً إلى هذا الحد.
ويفسر ارتفاع أسعار السلع بسبب الحرب جزءاً من هذه الزيادة.
 ويشكل النفط الخام والغاز والفحم الجزء الأكبر من صادرات روسيا إلى الصين. وفي 2022، ارتفعت أسعار هذه السلع. وسجل العديد من منتجي السلع الأساسية قفزات كبيرة في صادراتهم إلى الصين، فعلى سبيل المثال، ارتفعت صادرات كندا 39% في  2022. وكذلك ارتفعت الصادرات الروسية. وخلافاً للاعتقاد السائد، يبدو أن الصين لا تشتري السلع الروسية، بسعر مخفض.
يوحي حجم صادرات روسيا إلى الصين بواقع أكثر تواضعاً. فلا تزال صادرات روسيا إلى الصين منخفضة عند 114 مليار دولار في السنة الماضية. ويمثل هذا الرقم 4% فقط من الواردات الصينية، وهو يتساوى مع شحنات الصين من ماليزيا، التي يبلغ اقتصادها 1/6 حجم اقتصاد روسيا. . لكن لا يرجح أن تخفي الصين معظم وارداتها من الخام الروسي. فهي لا تحتاج إلى ذلك، إذ لم تفرض الولايات المتحدة وحلفاؤها حظراً على صادرات النفط الروسية.
 
مستقبل العلاقة 
بالنظر إلى المستقبل، ربما وصلت صادرات الطاقة الروسية إلى الصين إلى مرحلة الثبات. لطالما حرصت بكين على الحفاظ على مزيج متنوع من موردي الطاقة.
ويعتقد العاملون في الشحن البحري أن الصين تضع حداً لواردات النفط عند نحو مليوني برميل يومياً من أي دولة، وهو المستوى الذي وصلته السعودية منذ فترة طويلة، والذي يحتمل أن روسيا حققته في  أواخر 2022.
وقد تكون القيادة الصينية حذرة بشكل خاص مع روسيا في هذا الصدد، بالنظر إلى أن بوتين أظهر في 2022 أنه لن يتردد في إغلاق صنبور الغاز عن أوروبا. ستحد قيود السعة أيضاً من صادرات الهيدروكربونات الروسية إلى الصين، إذ جهز عدد قليل فقط من المصافي الصينية لتكرير الخام الروسي، الغني بالزئبق الشديد السمية.
والصورة مشابهة في تجارة الغاز. فلا يمكن أن تنمو الشحنات كثيراً عبر خط أنابيب قوة سيبيريا، وهو الخط الرئيسي لنقل الغاز الروسي إلى الصين، قبل الانتهاء من التحديثات في  2025.
لقد دفع بوتين منذ فترة طويلة لبناء خط أنابيب جديد بين روسيا والصين، “قوة سيبيريا-2”. وعلق الرئيس الروسي آمالاً كبيرة على زيارة شي موسكو في مارس (أذار) الماضي، أملاً  في إبرام الاتفاق.
 ومع ذلك، يبدو أن شي ليس في عجلة للالتزام بذلك، لسبب وجيه، إذ سبق أن وافقت الصين على بناء خط أنابيب بين جزيرة سخالين الروسية والبر الرئيسي في الصين. وإذا بُني قوة سيبيريا-2 أيضاً فستوفر روسيا نحو نصف واردات الصين من الغاز، ما يجعل بكين تعتمد على الغاز الروسي تماماً كما  أوروبا  في السابق.
صداقة غير متوازنة
تكشف نظرة على بيانات الجمارك الصينية أن للصين اليد العليا في علاقتها الاقتصادية مع روسيا، وأنها لا تتعجل لتوفير شريان حياة اقتصادي للكرملين. في المستقبل، يمكن الشركات الصينية أن تنقذ روسيا بتعزيز استثماراتها هناك. ولكن حتى الآن، لا يوجد ما يشير إلى أنها تستعد لذلك، لكن قرارات الاستثمار عادة، تستغرق بين 3 و 5 أعوام.
ومع ذلك،  لا يرجح أن تملأ الشركات الصينية كامل الفراغ الذي خلفته الشركات الغربية التي تعتبرها روسيا الآن من دول “غير ودية” والتي اعتادت أن تجلب الابتكار إلى موسكو 90%من الاستثمار الأجنبي المباشر على مدى العقد الماضي.   
وفي دورة الألعاب الأولمبية ببكين في 2022، وقبل أسابيع قليلة من غزو أوكرانيا، ادعى القادة الروس والصينيون أن صداقتهم لا تعرف حدوداً. وبعد أكثر من عام، أكد شي وبوتين المثل المأثور بأن قول بعض الأشياء أسهل من فعلها. لم تتحقق بعد توقعات بوتين الكبيرة. وعلى عكس التصريحات الرسمية، فإن توجه روسيا المتحمس نحو الصين لم يقابَل بالمثل، حسب دوماريه.