أمام رئيس الدولة.. ثلاثة وزراء في حكومة الإمارات يؤدون اليمين الدستورية
خطاب يؤكد وحدة روسيا الخالدة:
لهذا، الدعاية الروسية شديدة المحافظة وما بعد الحداثة
-- تشكلت روسيا كما نعرفها اليوم من قبل العقل المفكر للكرملين طيلة عدة سنوات، فلاديسلاف سوركوف
-- ترتكز السردية الروسية على أفكار فلسفية قابلة للتحديد
-- ينشر خطاب الكرملين رؤية «لروسيا الأبدية» بطرق ما بعد الحداثة تمامًا
-- يعتمد الخطاب الروسي الحالي على «سياسة الأبدية» التي نظّر لها المؤرخ تيموثي سنايدر
-- سوركوف المثال النموذجي لمسرحة السياسة، يعتبر أن التقسـيمات الكلاسـيكية يسـار يمين لا معنى لها
-- تشكلت روسيا كما نعرفها اليوم من قبل العقل المفكر للكرملين طيلة عدة سنوات، فلاديسلاف سوركوف
إن بناء السردية التاريخية لروسيا من قبل الذين يسوسونها، والتلاعب بتاريخها وتاريخ الآخرين، هي عناصر ثابتة في تاريخ هذا البلد، من إيفان الرهيب إلى فلاديمير بوتين مرورا بالعديد من القياصرة والأمناء العامين الأوائل. العمليات المعاصرة، بما في ذلك الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا منذ 24 فبراير 2022، تتمّ تغذيتها من خلال هذه الإنشاءات التي تطورت على مدى قرون. ويعتمد الخطاب الروسي الحالي على “سياسة الأبدية” التي نظّر لها المؤرخ تيموثي سنايدر، وعلى الفعالية التقنية للدعاية التي طورها فلاديسلاف سوركوف، العقل المفكر للنظام حتى عام 2020.
سرديّة سياسة الابديّة
في كتابه “الطريق إلى عدم الحرية: روسيا، وأوروبا، وأمريكا”، يلاحظ تيموثي سنايدر: “كان غزو روسيا لأوكرانيا عام 2014 بمثابة جرس إنذار للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وكثيرون منا أخذ على محمل الجد الشك الذي نسقته دعاية موسكو التي سمحت أخلاقيا بالتقاعس عن التحرّك».
هل حقًا كان غزو دونباس غزوًا أم عملية دفاع عن النفس؟ وهل حقا أوكرانيا بلد في حد ذاته؟ يكفي احتلال الفضاء العام بهذه النقاشات الزائفة حتى يتم إخلاء المسائل -مع انها بديهية -المتعلقة بالنظام القانوني الدولي المطلوب.
يؤكد سنايدر، أنه عند مواجهة الظواهر التي تم اختبارها على أنها مفاجآت كبرى (غزو أوكرانيا عام 2014 أو استفتاء البريكسيت)، كان رد فعل الأمريكيين إما من خلال إنكار حقيقة الحدث (الحدث المزعوم الذي تم تشييده على هذا النحو سيحلّ تلقائيًا)، او عن طريق تكييف شكل من أشكال القدرية في مواجهة الشر المطلق، والذي يسمح أيضًا بالتقاعس عن الفعل:
«الرد الأول هو آلية دفاعية لسياسة الحتمية. والثاني هو الصرير الذي تحدثه الحتمية قبل أن تتحطم وتفسح المجال للأبدية. تبدأ سياسة الحتمية بنخر المسؤولية المدنية، ثم تنهار في سياسات الأبدية عندما تواجه تحديًا خطيرًا».
فكرة الابدية هذه “تضع أمّة في قلب تاريخ دوري للتحول الى ضحية”: لم يعد للزمن الخطي أي صلة، ونتّبع المسار الدائري الذي يذكّر بنفس تهديدات الماضي.
يقول سنايدر، إن السردية الروسية ترتكز على أفكار فلسفية قابلة للتحديد. وهي الغاية التي تبرر الوسائل التي يستخدمها النظام. وتعود هذه الأفكار في جانب كبير منها إلى أفكار إيفان إيلين (1883-1954).
فيلسوف روسي مناهض للشيوعية ويتعاطف مع الفاشية، تم حظر كتاباته في الاتحاد السوفياتي قبل عام 1991. بالنسبة لبوتين، الذي نظم إعادة دفنه في موسكو عام 2005، فهو فيلسوف رئيسي. يبدو أن أرثوذكسيته القربانية وميله السلافي حاضران بقوة في روسيا بوتين.
عندما يتم التعليق على عمله من قبل وسائل الإعلام المقربة من الكرملين، يظهر إيفان إيلين كفيلسوف مثالي لأولئك الذين فقدوا الثقة في الليبرالية التي تم تبنيها تلقائيًا في التسعينات، ولكنهم يريدون أيضًا تجنب الشمولية. سيكون “ملكيًا معتدلًا” لا يسقط في تقريظ “روسيا المقدسة”، ومعجبًا بموسوليني دون أن تغريه الاشتراكية القومية.
في المقابل، عندما يقوم سنايدر بتحليل إيلين، نفهم أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأوكرانيا ما بعد الميدان، يجسدون الفضائل السياسية التي يزدريها ويحتقرها الفيلسوف بشكل خاص: الفردية، الاندماج، والجدة، والحقيقة، أو المساواة.
اليوم، تم تطوير فلسفة إيلين وتحديثها على يد ألكسندر دوغوين. فهذا المفكر المعارض للحداثة، المولود عام 1962، يساهم في خلق خطاب يؤكد وحدة روسيا الخالدة. وهذا الجهد ليس جديدًا، ولا ينبغي اعتباره مجرد رد فعل على خطايا الغرب الأخيرة، كما يشرح مؤلف سيرة ستالين والأستاذ في جامعة برينستون ستيفن كوتكين.
«قبل وقت طويل من وجود الناتو، في القرن التاسع عشر، كانت روسيا تبدو على هذا النحو: كان لديها حاكم أوتوقراطي، وتعاني من القمع، ولها نزعة عسكرية، ولا تثق بالأجانب والغرب».
الإخراج المعاصر
لجهاز الإغواء
تشكلت روسيا كما نعرفها اليوم إلى حد كبير من قبل العقل المفكر للكرملين طيلة عدة سنوات، فلاديسلاف سوركوف. سوركوف، الذي عمل في اوساط الفن الطليعي، يقال إنه جلب أفكارًا من الفن المفاهيمي -بما يتضمنه من تناقضات مفترضة والتباس ومسكوت عنه -إلى قلب السياسة. ويرى مؤرخ ومنظر الليبرالية الجديدة فيليب ميروفسكي في سوركوف المثال النموذجي لمسرحة السياسة، منقادا برسالة مفادها أن التقسيمات الكلاسيكية بين اليسار واليمين لا معنى لها:
«أنشأ سوركوف تحالفات مع كل من النازيين الجدد والمعارضة، ثم سرّب ما كان يفعله، بشكل لا يعرف أحد ما إذا كان صحيحًا أم خطأ. ومن خلال الإبقاء على المعارضة في حالة ارتباك دائم، كان قادرًا على خلق حالة دائمة من عدم الاستقرار، مما يجعل السيطرة أسهل».
فلاديسلاف سوركوف أيضًا، هو من قام بتكييف أفكار إيلين مع عالم الإعلام الحديث، وفقًا لتيموثي سنايدر. كاريزما فلاديسلاف سوركوف أسطورية، تماما مثل ابتسامته الشهيرة لقط الشيشاير، حسب رواية بيتر بوميرانتسيف، عالم الدعاية الروسية الحديثة. تتلمذ سوركوف على يد “الاوليغارش الروسي الأكثر اناقة”، ميخائيل خودوركوفسكي.
فقد قاد الحملة الإعلانية لمصرفه عام 1992، حيث رأينا وللمرة الأولى منذ عقود، كيف تقدم الثروة على انها فضيلة.
وبعد انضمامه إلى الكرملين، كان سوركوف نفسه مسؤولاً عن حملة إقناع الجمهور بالطابع الإجرامي لأفعال خودوركوفسكي، وخلق صورة مقنعة للمغمور المثالي الذي يجب ان يحل محل يلتسين، فلاديمير بوتين.
إلى أفكار الكذب وإنكار الواقع المعروفة في روسيا منذ القدم، أضاف بعدًا فلسفيًا: ما بعد الحداثة، التي تفترض استحالة الحقيقة المزعومة والحضور الطاغي لـ “المحاكاة”. وهذا بناء ابتكاري، رغم أنه ليس مجهولا في تاريخ الوقاحة السياسية: النسبية المطلقة التي تصاحب النزعة المحافظة والرفض الواضح لهذه النسبية نفسها. موقف متناقض أغرى أيضًا اليمين الأوروبي، خاصة في وسط القارة، ولكن كما يظهر في نموذج مارين لوبان، أيضًا في فرنسا.
منذ عام 2004، النظام السياسي المحيط ببوتين (وبسوركوف) عيّن نفسه كـ “ديمقراطية سيادية”. مفهومان موجودان في ديباجة الدستور الروسي، لكن تم تحويل وجهتهما. حقيقة أن النظام الروسي ديمقراطي تصبح هنا حقيقة لا جدال فيها، وأي محاولة للتحقق منها ترقى إلى التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، تقول الصحفية والمتخصصة في الشؤون السياسية ماشا ليبمان نقلاً عن إدوارد لوكاس. وهذا الأخير، وهو خبير في أوروبا الشرقية، يقتبس من سوركوف قوله إن “الوعي الثقافي الروسي من الواضح أنه كلي و حدسي، ويعارض الميكانيكية و الاختزالية».
يجب أن تضمن الديمقراطية السيادية استقرار روسيا زمن التحول والفترة الانتقالية، وفق سوركوف. وقد أصبحت نظامًا بحكم العادة، وذلك بفضل الدعم الفلسفي لدوغين. بالنسبة لسوركوف كما بالنسبة لإيلين من قبله، “يجب أن يتمتع الشعب الروسي بنفس القدر من الحرية التي يكون مستعدًا لاستيعابها”. وهذه الحرية هنا هي الاندماج مع الجماعة الخاضعة لقائد.
يبدو أن سوركوف كان منذ عام 2014 في قلب أعمال نزع الشرعية عن الحكومة الأوكرانية وتعزيز السيادة على المناطق الشرقية من دونيتسك ولوغانسك.
وتشهد كتاباته على الرغبة في إظهار الاكتفاء الذاتي الأيديولوجي لروسيا، التي تعرضت للإذلال في نظر سوركوف في كل مرة حاولت فيها الاقتراب من الغرب. كان يؤمن بذلك: حتى عندما ترك منصبه في فبراير 2020، شكك مجددا في وجود أوكرانيا كدولة منفصلة.
أسباب رحيله غير معروفة -نحن نعلم فقط أن المسالة تتعلق بنزاع حول تطور الوضع في أوكرانيا. عام 2021، حذر من زعزعة استقرار روسيا بسبب الضغوط الداخلية المرتبطة بشكل خاص بتقليص الحريات العامة.
التلاعب والأكاذيب
عندما تعمل بشكل جيد، تعرف أجهزة الدعاية الروسية ما هو عزيز على الرأي العام في الخارج، مع العمل على تثبيت، بشكل سطحي، الأساطير التي تبني عليها الهوية الروسية. الأسطورة التأسيسية للقرن الماضي هي محاربة النازية. بعد التعاون مع هتلر في إطار الاتفاقية الألمانية السوفياتية الموقعة في أغسطس 1939، اخترع الاتحاد السوفياتي عذرية لنفسه بعد “خيانة” الرايخ الثالث في 22 يونيو 1941. في تطور هذه الأسطورة، اكتشف سنايدر ظهور شيزوفاشية، حيث يصف الفاشيون الحقيقيون خصومهم بأنهم “فاشيين”، من خلال استغلال ارث ذاكرة الحرب العالمية الثانية لتبرير العنف... خطوة أخرى في “سياسة الأبدية».
يقول سنايدر، إن كلمة فاشية تغيّر معناها في خطابات قادة روسيا السوفياتية. لم تعد انبثاقًا من الرأسمالية، يمكن بالتالي أن تختفي في النهاية بفضل تغيير النموذج الاقتصادي، إنها الآن “تهديد أبدي من الغرب».
يظهر هذا الانعكاس بقوة في وسائل الإعلام الروسية منذ 24 فبراير 2022: الروس مثل “يهود برلين عام 1940”، بحسب أغنية فرقة لينينغراد، بينما الأوكرانيون مذنبون بارتكاب “إبادة جماعية».
الدعائي الرئيسي الحالي في الكرملين، فلاديمير سولوفييف، وهو مسيحي أرثوذكسي ممارس، يستغل أصوله اليهودية ويرد على العقوبات الأوروبية المفروضة عليه من خلال الادعاء بأنه “مستهدف لأنه يهودي”. ويذهب فلاديمير بوتين إلى حد مقارنة العقوبات التي قررها الغرب بـ “المذابح النازية في الثلاثينات ضد اليهود. وبالتالي، فإن معاداة السامية، التي يتسامح معها الكرملين تمامًا عندما تنبع من مؤيديه التقليديين، يتم إدانتها بطريقة موظفة في الدعاية الخارجية.
تلقى العنصرية المعاملة نفسها . إن مناهضة العنصرية الرسمية في روسيا هي أداة دعاية، تستغلها “الواتابوتيزمية” -وهي تقنية بلاغية تتمثل في تحويل الانتباه عن عيوب المرء: ماذا عن ... ولكن ماذا عن ...؟ “الأوكرانيون عنصريون، شاهدوا هذا الفيديو! “. وغني عن القول، أن هذا النوع من الجدل الزائف لا يترجم بأي حال من الأحوال معركة حقيقية ضد العنصرية، وهي قوية جدًا في روسيا، ولكنه يعمل على زيادة الانقسام في المعسكر المقابل، وليجعل من الارتباك هو طريقة الاشتغال الافتراضي للفضاء العام.
هل من العبث فحص الرهانات -والألعاب-الفلسفية في سياق الحرب، التي تتطلب عديد التدخلات الأخرى أكثر إلحاحًا وأكثر واقعية؟ يذكّر سنايدر بملاحظة مقلقة للشاعر البولندي تشيسلاو ميتوش:
«لم يفهم سكان العديد من البلدان الأوروبية، إلا في منتصف القرن العشرين، على حساب معاناة كبيرة عادةً، أن الكتب الفلسفية المعقدة والصعبة لها تأثير مباشر على مصيرهم».
وعلى هذا النحو، لا يبدو هذا الفحص غير لائق.
تمت كتابة المقال بالتعاون مع نيكلاس ماريوت، الطالب في جامعة برلين الحرة.
آنا سي زيلينسكا، أستاذة محاضرة في الفلسفة الأخلاقية والفلسفة السياسية وفلسفة القانون،
عضو في أرشيف هنري بوانكاريه، جامعة لورين.
-- ترتكز السردية الروسية على أفكار فلسفية قابلة للتحديد
-- ينشر خطاب الكرملين رؤية «لروسيا الأبدية» بطرق ما بعد الحداثة تمامًا
-- يعتمد الخطاب الروسي الحالي على «سياسة الأبدية» التي نظّر لها المؤرخ تيموثي سنايدر
-- سوركوف المثال النموذجي لمسرحة السياسة، يعتبر أن التقسـيمات الكلاسـيكية يسـار يمين لا معنى لها
-- تشكلت روسيا كما نعرفها اليوم من قبل العقل المفكر للكرملين طيلة عدة سنوات، فلاديسلاف سوركوف
إن بناء السردية التاريخية لروسيا من قبل الذين يسوسونها، والتلاعب بتاريخها وتاريخ الآخرين، هي عناصر ثابتة في تاريخ هذا البلد، من إيفان الرهيب إلى فلاديمير بوتين مرورا بالعديد من القياصرة والأمناء العامين الأوائل. العمليات المعاصرة، بما في ذلك الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا منذ 24 فبراير 2022، تتمّ تغذيتها من خلال هذه الإنشاءات التي تطورت على مدى قرون. ويعتمد الخطاب الروسي الحالي على “سياسة الأبدية” التي نظّر لها المؤرخ تيموثي سنايدر، وعلى الفعالية التقنية للدعاية التي طورها فلاديسلاف سوركوف، العقل المفكر للنظام حتى عام 2020.
سرديّة سياسة الابديّة
في كتابه “الطريق إلى عدم الحرية: روسيا، وأوروبا، وأمريكا”، يلاحظ تيموثي سنايدر: “كان غزو روسيا لأوكرانيا عام 2014 بمثابة جرس إنذار للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وكثيرون منا أخذ على محمل الجد الشك الذي نسقته دعاية موسكو التي سمحت أخلاقيا بالتقاعس عن التحرّك».
هل حقًا كان غزو دونباس غزوًا أم عملية دفاع عن النفس؟ وهل حقا أوكرانيا بلد في حد ذاته؟ يكفي احتلال الفضاء العام بهذه النقاشات الزائفة حتى يتم إخلاء المسائل -مع انها بديهية -المتعلقة بالنظام القانوني الدولي المطلوب.
يؤكد سنايدر، أنه عند مواجهة الظواهر التي تم اختبارها على أنها مفاجآت كبرى (غزو أوكرانيا عام 2014 أو استفتاء البريكسيت)، كان رد فعل الأمريكيين إما من خلال إنكار حقيقة الحدث (الحدث المزعوم الذي تم تشييده على هذا النحو سيحلّ تلقائيًا)، او عن طريق تكييف شكل من أشكال القدرية في مواجهة الشر المطلق، والذي يسمح أيضًا بالتقاعس عن الفعل:
«الرد الأول هو آلية دفاعية لسياسة الحتمية. والثاني هو الصرير الذي تحدثه الحتمية قبل أن تتحطم وتفسح المجال للأبدية. تبدأ سياسة الحتمية بنخر المسؤولية المدنية، ثم تنهار في سياسات الأبدية عندما تواجه تحديًا خطيرًا».
فكرة الابدية هذه “تضع أمّة في قلب تاريخ دوري للتحول الى ضحية”: لم يعد للزمن الخطي أي صلة، ونتّبع المسار الدائري الذي يذكّر بنفس تهديدات الماضي.
يقول سنايدر، إن السردية الروسية ترتكز على أفكار فلسفية قابلة للتحديد. وهي الغاية التي تبرر الوسائل التي يستخدمها النظام. وتعود هذه الأفكار في جانب كبير منها إلى أفكار إيفان إيلين (1883-1954).
فيلسوف روسي مناهض للشيوعية ويتعاطف مع الفاشية، تم حظر كتاباته في الاتحاد السوفياتي قبل عام 1991. بالنسبة لبوتين، الذي نظم إعادة دفنه في موسكو عام 2005، فهو فيلسوف رئيسي. يبدو أن أرثوذكسيته القربانية وميله السلافي حاضران بقوة في روسيا بوتين.
عندما يتم التعليق على عمله من قبل وسائل الإعلام المقربة من الكرملين، يظهر إيفان إيلين كفيلسوف مثالي لأولئك الذين فقدوا الثقة في الليبرالية التي تم تبنيها تلقائيًا في التسعينات، ولكنهم يريدون أيضًا تجنب الشمولية. سيكون “ملكيًا معتدلًا” لا يسقط في تقريظ “روسيا المقدسة”، ومعجبًا بموسوليني دون أن تغريه الاشتراكية القومية.
في المقابل، عندما يقوم سنايدر بتحليل إيلين، نفهم أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأوكرانيا ما بعد الميدان، يجسدون الفضائل السياسية التي يزدريها ويحتقرها الفيلسوف بشكل خاص: الفردية، الاندماج، والجدة، والحقيقة، أو المساواة.
اليوم، تم تطوير فلسفة إيلين وتحديثها على يد ألكسندر دوغوين. فهذا المفكر المعارض للحداثة، المولود عام 1962، يساهم في خلق خطاب يؤكد وحدة روسيا الخالدة. وهذا الجهد ليس جديدًا، ولا ينبغي اعتباره مجرد رد فعل على خطايا الغرب الأخيرة، كما يشرح مؤلف سيرة ستالين والأستاذ في جامعة برينستون ستيفن كوتكين.
«قبل وقت طويل من وجود الناتو، في القرن التاسع عشر، كانت روسيا تبدو على هذا النحو: كان لديها حاكم أوتوقراطي، وتعاني من القمع، ولها نزعة عسكرية، ولا تثق بالأجانب والغرب».
الإخراج المعاصر
لجهاز الإغواء
تشكلت روسيا كما نعرفها اليوم إلى حد كبير من قبل العقل المفكر للكرملين طيلة عدة سنوات، فلاديسلاف سوركوف. سوركوف، الذي عمل في اوساط الفن الطليعي، يقال إنه جلب أفكارًا من الفن المفاهيمي -بما يتضمنه من تناقضات مفترضة والتباس ومسكوت عنه -إلى قلب السياسة. ويرى مؤرخ ومنظر الليبرالية الجديدة فيليب ميروفسكي في سوركوف المثال النموذجي لمسرحة السياسة، منقادا برسالة مفادها أن التقسيمات الكلاسيكية بين اليسار واليمين لا معنى لها:
«أنشأ سوركوف تحالفات مع كل من النازيين الجدد والمعارضة، ثم سرّب ما كان يفعله، بشكل لا يعرف أحد ما إذا كان صحيحًا أم خطأ. ومن خلال الإبقاء على المعارضة في حالة ارتباك دائم، كان قادرًا على خلق حالة دائمة من عدم الاستقرار، مما يجعل السيطرة أسهل».
فلاديسلاف سوركوف أيضًا، هو من قام بتكييف أفكار إيلين مع عالم الإعلام الحديث، وفقًا لتيموثي سنايدر. كاريزما فلاديسلاف سوركوف أسطورية، تماما مثل ابتسامته الشهيرة لقط الشيشاير، حسب رواية بيتر بوميرانتسيف، عالم الدعاية الروسية الحديثة. تتلمذ سوركوف على يد “الاوليغارش الروسي الأكثر اناقة”، ميخائيل خودوركوفسكي.
فقد قاد الحملة الإعلانية لمصرفه عام 1992، حيث رأينا وللمرة الأولى منذ عقود، كيف تقدم الثروة على انها فضيلة.
وبعد انضمامه إلى الكرملين، كان سوركوف نفسه مسؤولاً عن حملة إقناع الجمهور بالطابع الإجرامي لأفعال خودوركوفسكي، وخلق صورة مقنعة للمغمور المثالي الذي يجب ان يحل محل يلتسين، فلاديمير بوتين.
إلى أفكار الكذب وإنكار الواقع المعروفة في روسيا منذ القدم، أضاف بعدًا فلسفيًا: ما بعد الحداثة، التي تفترض استحالة الحقيقة المزعومة والحضور الطاغي لـ “المحاكاة”. وهذا بناء ابتكاري، رغم أنه ليس مجهولا في تاريخ الوقاحة السياسية: النسبية المطلقة التي تصاحب النزعة المحافظة والرفض الواضح لهذه النسبية نفسها. موقف متناقض أغرى أيضًا اليمين الأوروبي، خاصة في وسط القارة، ولكن كما يظهر في نموذج مارين لوبان، أيضًا في فرنسا.
منذ عام 2004، النظام السياسي المحيط ببوتين (وبسوركوف) عيّن نفسه كـ “ديمقراطية سيادية”. مفهومان موجودان في ديباجة الدستور الروسي، لكن تم تحويل وجهتهما. حقيقة أن النظام الروسي ديمقراطي تصبح هنا حقيقة لا جدال فيها، وأي محاولة للتحقق منها ترقى إلى التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، تقول الصحفية والمتخصصة في الشؤون السياسية ماشا ليبمان نقلاً عن إدوارد لوكاس. وهذا الأخير، وهو خبير في أوروبا الشرقية، يقتبس من سوركوف قوله إن “الوعي الثقافي الروسي من الواضح أنه كلي و حدسي، ويعارض الميكانيكية و الاختزالية».
يجب أن تضمن الديمقراطية السيادية استقرار روسيا زمن التحول والفترة الانتقالية، وفق سوركوف. وقد أصبحت نظامًا بحكم العادة، وذلك بفضل الدعم الفلسفي لدوغين. بالنسبة لسوركوف كما بالنسبة لإيلين من قبله، “يجب أن يتمتع الشعب الروسي بنفس القدر من الحرية التي يكون مستعدًا لاستيعابها”. وهذه الحرية هنا هي الاندماج مع الجماعة الخاضعة لقائد.
يبدو أن سوركوف كان منذ عام 2014 في قلب أعمال نزع الشرعية عن الحكومة الأوكرانية وتعزيز السيادة على المناطق الشرقية من دونيتسك ولوغانسك.
وتشهد كتاباته على الرغبة في إظهار الاكتفاء الذاتي الأيديولوجي لروسيا، التي تعرضت للإذلال في نظر سوركوف في كل مرة حاولت فيها الاقتراب من الغرب. كان يؤمن بذلك: حتى عندما ترك منصبه في فبراير 2020، شكك مجددا في وجود أوكرانيا كدولة منفصلة.
أسباب رحيله غير معروفة -نحن نعلم فقط أن المسالة تتعلق بنزاع حول تطور الوضع في أوكرانيا. عام 2021، حذر من زعزعة استقرار روسيا بسبب الضغوط الداخلية المرتبطة بشكل خاص بتقليص الحريات العامة.
التلاعب والأكاذيب
عندما تعمل بشكل جيد، تعرف أجهزة الدعاية الروسية ما هو عزيز على الرأي العام في الخارج، مع العمل على تثبيت، بشكل سطحي، الأساطير التي تبني عليها الهوية الروسية. الأسطورة التأسيسية للقرن الماضي هي محاربة النازية. بعد التعاون مع هتلر في إطار الاتفاقية الألمانية السوفياتية الموقعة في أغسطس 1939، اخترع الاتحاد السوفياتي عذرية لنفسه بعد “خيانة” الرايخ الثالث في 22 يونيو 1941. في تطور هذه الأسطورة، اكتشف سنايدر ظهور شيزوفاشية، حيث يصف الفاشيون الحقيقيون خصومهم بأنهم “فاشيين”، من خلال استغلال ارث ذاكرة الحرب العالمية الثانية لتبرير العنف... خطوة أخرى في “سياسة الأبدية».
يقول سنايدر، إن كلمة فاشية تغيّر معناها في خطابات قادة روسيا السوفياتية. لم تعد انبثاقًا من الرأسمالية، يمكن بالتالي أن تختفي في النهاية بفضل تغيير النموذج الاقتصادي، إنها الآن “تهديد أبدي من الغرب».
يظهر هذا الانعكاس بقوة في وسائل الإعلام الروسية منذ 24 فبراير 2022: الروس مثل “يهود برلين عام 1940”، بحسب أغنية فرقة لينينغراد، بينما الأوكرانيون مذنبون بارتكاب “إبادة جماعية».
الدعائي الرئيسي الحالي في الكرملين، فلاديمير سولوفييف، وهو مسيحي أرثوذكسي ممارس، يستغل أصوله اليهودية ويرد على العقوبات الأوروبية المفروضة عليه من خلال الادعاء بأنه “مستهدف لأنه يهودي”. ويذهب فلاديمير بوتين إلى حد مقارنة العقوبات التي قررها الغرب بـ “المذابح النازية في الثلاثينات ضد اليهود. وبالتالي، فإن معاداة السامية، التي يتسامح معها الكرملين تمامًا عندما تنبع من مؤيديه التقليديين، يتم إدانتها بطريقة موظفة في الدعاية الخارجية.
تلقى العنصرية المعاملة نفسها . إن مناهضة العنصرية الرسمية في روسيا هي أداة دعاية، تستغلها “الواتابوتيزمية” -وهي تقنية بلاغية تتمثل في تحويل الانتباه عن عيوب المرء: ماذا عن ... ولكن ماذا عن ...؟ “الأوكرانيون عنصريون، شاهدوا هذا الفيديو! “. وغني عن القول، أن هذا النوع من الجدل الزائف لا يترجم بأي حال من الأحوال معركة حقيقية ضد العنصرية، وهي قوية جدًا في روسيا، ولكنه يعمل على زيادة الانقسام في المعسكر المقابل، وليجعل من الارتباك هو طريقة الاشتغال الافتراضي للفضاء العام.
هل من العبث فحص الرهانات -والألعاب-الفلسفية في سياق الحرب، التي تتطلب عديد التدخلات الأخرى أكثر إلحاحًا وأكثر واقعية؟ يذكّر سنايدر بملاحظة مقلقة للشاعر البولندي تشيسلاو ميتوش:
«لم يفهم سكان العديد من البلدان الأوروبية، إلا في منتصف القرن العشرين، على حساب معاناة كبيرة عادةً، أن الكتب الفلسفية المعقدة والصعبة لها تأثير مباشر على مصيرهم».
وعلى هذا النحو، لا يبدو هذا الفحص غير لائق.
تمت كتابة المقال بالتعاون مع نيكلاس ماريوت، الطالب في جامعة برلين الحرة.
آنا سي زيلينسكا، أستاذة محاضرة في الفلسفة الأخلاقية والفلسفة السياسية وفلسفة القانون،
عضو في أرشيف هنري بوانكاريه، جامعة لورين.