اصطدم منذ اللحظات الأولى بصخرة الإكراهات

مذكرات أوباما، لفهم الولايات المتحدة الأمس واليوم

مذكرات أوباما، لفهم الولايات المتحدة الأمس واليوم

-- قُدّم طيلة فترة حكمه كممثل أصيل للجناح الوسطي للحزب الديمقراطي لكنه غير ذلك
-- الأكاذيب والترهيب هما السلاحان المفضلان للحزب الجمهوري الذي أصبح ناضجًا لدعم هجوم ترامب المستقبلي
-- تبني هذه الذكريات جسراً بين الماضي وما يمكن أن يكون عليه المستقبل، بمجرد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض
-- كان على ترامب فقط ركوب موجة، من بالين إلى حزب الشاي، ومن فوكس نيوز إلى الشبكات الاجتماعية
-- أوباما على قناعة بأن السياسة ليست فقط تخطيطات كبرى واستراتيجيات مدروسة جيدًا، بل هي فنّ التنفيذ


يمكن أن يكون اختبار كتابة السيرة الذاتية من قبل سياسي متقاعد مخيبا للآمال: القيام بإخراج عمله الذاتي، والبحث عن المواقف الأكثر تميّزا، والإغفال الانتقائـــي؛ ولكن، إذا تم إجراؤها بشكل جيد، يمكن أن تفتح الباب لمعرفة حقيقية بعلاقات القوة الجيوسياسية، وشروط ممارسة السلطة الديمقراطية، وحتى السمات الهيكلية للمجتمع السياسي.  وهــــذا هـــو الاختبــار الذي نجـــح فيـــه باراك أوباما.  اللافت في قراءة هذا المجلد الأول، هو أولاً اكتشاف أوباما الانسان، المثالي، الاشتراكي الديمقراطي، السياسي الموهوب.

 ومن غير البديهي أن نتوقع في شخصية المثالي، الرجل السياسي، الذي غالبًا ما يوصف بأنه مدّع، ومشغول بالترويج لمصالحه الشخصية، ودخله من كل شيء..، ومع ذلك فإن الكتاب مليء بالتطورات التي تبرّر عمله من أجل القضاء على الأسلحة النووية، ورفضه للرأسمالية المالية، وقناعته بأن الولايات المتحدة يمكن أن تكون الأرض الموعودة الجديدة، أرض إلغاء الفروق الاجتماعية والعرقية، تلك التي دعا اليها في خطابه في المؤتمر الديمقراطي عام 2004: “لا توجد أمريكا سوداء وأمريكا بيضاء، وأمريكا لاتينوس وأمريكا الآسيوية، هناك الولايات المتحدة الأمريكية «.

نموذج فريد من نوعه
     قُدّم طيلة فترة حكمه كممثل أصيل للجناح الوسطي الكلينتوني للحزب الديمقراطي، على الأقل من خلال اختياراته في تشكيل فريقه الاقتصادي أو في طريقة تعامله مع أزمة الرهن العقاري، لكننا نندهش باكتشاف رجل مهووس بالعقوبة اللازمة لـ “القطط السمينة” في وول ستريت، وإعادة التوزيع لصالح الفقراء والعاطلين، مقتنعًا بفوائد الحماية الاجتماعية الشاملة، المطبقة على التحفيز الكينزي من خلال الاستثمار وليس فقط بإصلاح أضرار الأزمة، ومهووس بالصفقة الجديدة، وعبادة تيدي كينيدي، المصلح الاجتماعي.

    ويصوّر هذا المثالي الديمقراطي الاجتماعي نفسه على أنه رئيس استراتيجي، ماهر في التخطيط، مصمّم على أن يقرر بنفسه دون الاستسلام لأشد جماعات الضغط إلحاحًا. الصورة الذاتية مُجمّلة، خاصةً تجاه الصداميين من فريقه، أو المترددين، أو أولئك الذين يعتمدون على الخبراء.
   يقيس أوباما ويحكم بنفسه، ويصف تطوره الفكري، وصراع القيم، ورفض القرارات المنعكسة. إنه رجل ذكي يدرك تفوقه الفكري، وبالتالي لا يتردد في الحكم على أسلافه وتزلّفهم المفترض للجيش، وما تفرضه مكانة القوة العظمى. إن روايته لقرار ضرب بن لادن في أبوت آباد نموذج في هذا النوع.

   الا ان هذا الرجل، اصطدم منذ اللحظات الأولى من حياته السياسية بصخرة الاكراهات، أولاً على الساحة الداخلية مع الصراع العنصري، ثم على الساحة الخارجية مع إدارة عالم متعدد الأقطاب تنخره الدول الفاشلة والإرهاب.

   ان التقسيم العنصري يخترق الكتاب. ولتجاوزه انخرط أوباما في السياسة، وللتخفيف من مضاعفاته اقترح سياسته الصحية (أوباما كير) لكنه اجبر على ملاحظة الراهنية الجديدة لمسألة هيكلية منذ الحرب الأهلية. وصف بإسهاب النضالات من أجل المساواة، والتقدم التي حوربت بلا توقف بالأمس من قبل تجار الرقيق، ثم من أنصار هيمنة البيض في الولايات الجنوبية، واليوم من قبل اتباع تفوق العرق الابيض من جهة، والشرطة من جهة أخرى.

صدام الحقائق
   إنه يوضح صعوبات أولئك الذين، مثله، يريدون بناء الجسور، والعمل على نزع فتيل النزاعات، وتفعيل الحقوق التي انتزعها السود، والذين يواجهون أحيانًا الخطب التحريضية للضحايا. وبشكل عام، فإن أوباما مقتنع بأن السياسة لا تتعلق فقط بالتخطيطات الكبرى والاستراتيجيات المدروسة جيدًا، بل هي فن التنفيذ. ومن خلال اصطحابنا إلى الغرف الخلفية للسلطة، يعطينا تحليلاً محفزًا لطرق ووسائل العمل السياسي.

   ان الأزمة الاقتصادية، هي البعد الهيكلي الآخر لعمله في السياسة المحلية مع موضوع مركزي: كيفية ضمان عدم فقدان ضحايا القروض العقارية عالية المخاطر منازلهم بينما تصل شاحنات المساعدات العامة لإنقاذ البنوك والمؤسسات المالية التي حوّلت الاقتصاد إلى كازينو. ولئن كانت إدارته بشكل عام أكثر إلهامًا وفعالية من إدارة الأوروبيين، وحتى لو كان قادرًا على تصحيح الثغرات في اللوائح التحوطية باستخدام قانون دود-فرانك، فإنه لم يتمكن من تفادي شراهة وول ستريت، وتجنب بؤس الذين حرموا من بيوتهم.

   العالم المعقد هو الوجه الآخر لصدام الحقائق: يصف أوباما عالماً يسيطر عليه حقد الروس الذين فشلوا في وضع حدّ لحدادهم على قوتهم الغابرة، والذين يصارعون بأسلحتهم وسياستهم العدوانية من اجل تأكيد حضورهم على المسرح العالمي بينما يزن اقتصادهم أقل من اقتصاد إيطاليا.
   ويصف الصين المتطلّعة إلى قيادة العالم، والتي يعدّ مسارها الاقتصادي استثنائيًا، ولكنها بشكل عام تلاعبت بعملتها، وسرقت الملكية الفكرية للدول المتقدمة، وانتهكت التزاماتها في منظمة التجارة العالمية، وساهمت بشكل إجمالي في تراجع التصنيع الأمريكي في ظل الصمت المخيف للمنظمات الدولية، وبتعاون نشط من الشركات متعددة الجنسيات الكبرى التي تجد حصتها ومنابها في هذا الانفتاح غير المتكافئ.

   الا ان العالم الإسلامي كان المكان الذي دارت فيه اطوار أكبر رهان في ولايته الأولى. لقد أراد المثالي الساكن فيه أولاً إصلاح الظلم الكبير الذي لحق بالشعوب المستعمرة منذ زمن طويل، وضحايا الظلم في فلسطين، والمتهمين بالإرهاب منذ 11 سبتمبر. ومن هنا كانت الأهمية التي يوليها في كتابه لخطاب المصالحة في القاهرة. غير ان الواقعية السياسية سرعان ما استعادت اليد العليا: كيف تصنع السلام في فلسطين، وعندما يكون لأية مبادرة في المنطقة آثار على السياسة الداخلية الأمريكية، وعندما تبقى أمريكا متضررة من المستنقع العراقي.

تطرف الحزب الجمهوري
   لم يقتصر اهتمام المجلد الأول من هذه المذكرات، الذي يغطي النصف الأول من الولاية، على وصف عمل الحكومة لهذا البلد الكبير في فترة الأزمات. إنه أيضًا، وربما خصوصا، يسلّط الضوء على الوضع السياسي في الولايات المتحدة اليوم من خلال الوعي المتدرج للرئيس بالتحول العميق الجاري في الحزب الجمهوري، والذي سينتهي بعد بضع سنوات. بانتخاب دونالد ترامب، تحوّل من شأنه أن يجعل ممارسة السلطة صعبة بشكل خاص على الديمقراطيين.
    يظهر أول مؤشر على هذا التحول من الحملة الرئاسية لعام 2008. المرشح الجمهوري، جون ماكين، وهو نفسه معتدل، أدرك التطرف المتصاعد لحزبه، اختار سارة بالين نائبة في الانتخابات. وقوبل اختيار هذه الديماغوجية الشعبوية وحاكمة ألاسكا الشابة، والمسيحية المحافظة، قوبل على الفور بصدى هائل في القاعدة الجمهورية.

   «لقد فهمت، كتب أوباما، أن الحرس القديم للنظام القائم بدأ يفقد سلطته، وأن الجدران التي تحدد ما هو مقبول في المرشح لمنصب وطني بدأت تنهار، وأن فوكس نيوز وأجهزة الراديو ذات الهوائي المفتوح، والقوة الناشئة للشبكات الاجتماعية، يمكن أن توفر لها جميع المنابر التي تحتاجها للوصول إلى هدفها الأساسي».
   حشود ضخمة تزاحمت على اجتماعاتها، وقد اغوتها هجماتها. مثال: “عندنا، في البلدات الصغيرة، لا نعرف حقًا ما الذي يجب أن نفكر فيه في مرشح يغنّي مادحا العمال عندما يكونون أمامه، والذي، بمجرد أن يديروا ظهورهم، يسارع ليروي كم ان هؤلاء الناس المتمسكين بدينهم وأسلحتهم، مضجرين وعنيفين”... “أوباما ليس الشخص الذي يرى أمريكا بالطريقة التي ننظر بها أنا وأنت إلى أمريكا».

   من خلالها، سيفرض نفسه، بين الجمهوريين ودون خجل، خطابًا عنصريًا، مناهضًا للنخب، تآمريًا هذيانيا، لا تزعج تناقضاته جمهورها. ويوضح أوباما: “ ان صعودها المذهل، وترقيتها إلى مرتبة المرشحة الشرعية، سيوفران نقطة انطلاق لشخصيات سياسية مستقبلية، ويحوّلان مركز ثقل حزبها والسياسة الأمريكية بشكل عام».

   سجّل عام 2008 انزلاق الكتلة الجمهورية في مجلس النواب، والتي، بعد أن تم تطهيرها من جميع المعتدلين تقريبًا، أصبحت الجناح الأكثر يمينية في التاريخ الأمريكي الحديث. معارضون شرسون للتسويات والحلول الوسط، ومقتنعون بأن مهمة التقدميين هي تدمير أمريكا، أعلن أعضاء الكونجرس الجمهوريون حربًا مفتوحة على الرئيس الجديد، مصممين على منع أي اتفاق ثنائي. ومصمّما على منع قانون التعافي، منع زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، أعضاء كتلته من التحدث مع البيت الأبيض.

   كانت العرقلة منهجية وعدوانية، وكان الأمل المشترك هو أن يسقط أوباما في أسرع وقت ممكن. فوكس نيوز هي القناة الأساسية التي يتم من خلالها بث الخطاب الشعبوي، وبات المنتخبون للكونغرس يخشون من مواجهة مرشح يمينيي أكثر في الانتخابات التمهيدية إذا لم يحترموا خط الحزب.
   وهكذا، واجه مشروع إصلاح النظام الصحي نفس الاعتداءات المستمرة. وقال سيناتور: “إذا استطعنا هزم أوباما في هذا، فستكون واترلو بالنسبة له... لن ينهض منها”. وسيكون صيف 2008، صيف حزب الشاي الذي تكاثرت فروعه في البلاد، وينظم العديد من الفعاليات.

  «تسقط أوباما كير”، كان شعار اللحظة، ويموّل المليارديرات الجمهوريون، مثل الأخوان كوخ، ويستغلون هذه الحركة الشعبوية المتفردة والتي يثير الاختراق الذي سجلته مزيد الإعجاب. انها تترسخ داخل الحزب الجمهوري بعمق، ويتهجم اتباعها بشكل مباشر على السناتورات والنواب، ويتدخلون بقوة في النقاشات، ويقاطعون المتحدثين.

محاكمة عدم شرعية أوباما
   حينها، انتشرت الشائعات بأن أوباما مسلم، وأنه ولد في كينيا، وبالتالي فهو غير شرعي. “حزب الشاي وحلفائه في وسائل الإعلام، كتب أوباما، لم ينجحوا فقط في شيطنة خطة إصلاح الرعاية الصحية؛ لقد شوهوني شخصيًا أيضًا، وأرسلوا رسالة واضحة إلى جميع الجمهوريين: عندما يتعلق الأمر بمعارضة حكومتي، لم يعد هناك أي قواعد سارية».

   كانت انتخابات التجديد النصفي كارثة للحزب الديمقراطي الذي فقد ثمانية وستين نائبا وأصبح أقلية في مجلس النواب. معظم الوافدين الجمهوريين الجدد من حزب الشاي. وقد مارسوا ضغوطًا على رئيس مجلس النواب، “من أجل تقليص جذري ونهائي للوظيفة العمومية الفيدرالية -حيث يعتقدون أن ذلك سيعيد أخيرًا النظام الدستوري في الولايات المتحدة، ويسترد بلادهم من النخب السياسية والاقتصادية الفاسدة”، يحلل أوباما.
   ساعتها دخل دونالد ترامب المشهد. “لقد بدأ يزعم بأنني لم أولد في الولايات المتحدة، كتب أوباما، وبالتالي كنت رئيسًا غير شرعي. ولملايين الأمريكيين الذين يخافون من أن يقودهم رجل أسود، قدم إكسيرًا ضد مخاوفهم العرقية «.

   في 10 فبراير 2011، خلال خطاب ألقاه في مؤتمر العمل السياسي للمحافظين، أثار ترامب احتمال ترشحه لمنصب الرئيس، مدعيا أن “رئيسنا الحالي جاء من العدم ... الأشخاص الذين كانوا في المدرسة معه، لم يروه قط، ولم يعرفوه... هذا جنون”. ويصر، معلنًا في 23 مارس: “أريده أن يبرز شهادة ميلاده... هناك شيء ما فيها ولا يريد أن يُعرف”... واعتقد 40 بالمائة من الأمريكيين في النهاية بذلك. ويعترف أوباما ان “ترامب يلتقط بشكل غريزي ما يعبئ القاعدة المحافظة”. ان الأكاذيب والترهيب هما السلاحان المفضلان للحزب الجمهوري الذي أصبح ناضجًا لدعم هجوم ترامب المستقبلي.

  نفهم من قراءة هذه المذكرات كيف أصبحت الديمقراطية الأمريكية في ذلك الوقت مختلة، وكيف كان على ترامب فقط ركوب موجة، من بالين إلى حزب الشاي، ومن فوكس نيوز إلى الشبكات الاجتماعية، قوضت بالفعل النظام المؤسسي القائم على التعاون التشريعي بين الحزبين الرئيسيين، وقبول قواعد اللعبة، وشكل من أشكال التحضر السياسي الذي انتهى بدفنه. وهكذا تبني هذه الذكريات جسراً بين الماضي وما يمكن أن يكون عليه المستقبل، بمجرد دخول جو بايدن إلى البيت الأبيض.