الصراع لم يعد بين اليسار واليمين

مقاومة الأكاذيب هو التحدي الأكبر للولايات المتحدة...!

مقاومة الأكاذيب هو التحدي الأكبر للولايات المتحدة...!

-- هناك حاجة إلى معيار مشترك للحكم على ما يشكل الحقيقة، والتي لا يمكن أن تكون الإنجيل أو سياسات الهوية
-- في العلم، اكتشاف أنك مخطئ ليس هزيمة... إنه تقدم
-- الولايات المتحدة بحاجة لتحالف  مبني على الوقائع ويتجاهل الحدود الحزبية
-- إذا لـــــم تتــم إعادة ترسيخ أخلاقيات احترام الوقائع  فلن يتم حل أي شيء آخر
-- من المستحيل احتواء جائحة كوفيد-19 إذا كان عشرات الملايين من الأمريكيين مقتنعين بأنها خدعة
-- في مواجهة المشاكل التي يتحتم حلها، هناك الكثير من الأفكار التي يمكن أن توحد التقدميين والمحافظين


خلال حياتي، انتميت لجميع ألوان الطيف السياسي. كنت مع اليسار في تكساس، ومن المحافظين أكثر في الجامعة، والآن أنا في مكان ما في الوسط. وطيلة ذاك الوقت، بدت لي السياسة وكأنها صراع بين اليسار واليمين، إلا أنني لا أرى الأمر بهذه الطريقة بعد الآن.
   لقد كشفت رئاسة دونالد ترامب عن تهديد أكبر بكثير: هجوم شامل على مبدأ احترام الوقائع. في السابق، كان هذا المبدأ مألوفًا، ومن تحصيل حاصل؛ وبات علينا اليوم الدفاع عنه. وستضع السياسة مستقبلا من هم مستعدون لاحترام المعطيات ضد الذين ليسوا كذلك.
   لست بصدد القول إن جرائم وخطايا ترامب الأخرى -الفساد والتعصب والخيانة ومئات الآلاف من الوفيات -ليست مهمة، بل فيها من المهمّ الكثير، لكن هذه العناصر من سجلّه، رغم فظاعتها، ليست معوقة مثل الضرر الذي ألحقه بالقدرة على المداولة والتشاور. ففي مواجهة المشاكل التي يتحتم حلها -كوفيد، والتشغيل، والبنية التحتية، والهجرة، والتجارة، وإصلاح الشرطة -هناك الكثير من الأفكار التي يمكن أن توحد التقدميين والمحافظين.
   إلا أنه دون اتفاق على الوقائع، أو على الأقل على طريقة تسمح بتمييز الوقائع والحقائق عن الأكاذيب، لا يمكننا الاتفاق على السياسات التي سيتم تنفيذها.

معيار مشترك: الدليل
   إن ما تركه ترامب في الولايات المتحدة كان دعاية قاسية، صلبة، تنكر الواقع على نطاق لا يضاهى. لقد أثبت أن عشرات الملايين من الأمريكيين يمكن أن يصدقوا مثل هذه الأكاذيب، وأن الآلاف منهم قادرون على مهاجمة حكومتهم بعنف.
   لقد اعترف الرئيس جو بايدن، في خطاب تنصيبه، بهذا التهديد. وقال “نحن نواجه هجوما على الديمقراطية والحقيقة”. لا تقتصر المشكلة على عمليات تحيّل وتجميل سياسية بسيطة، بل تعدت ذلك الى تأكيدات مختلقة بالكامل. وأضاف بايدن، أن على كل واحد منا “واجب ... الدفاع عن الحقيقة والتغلب على الأكاذيب».

   لطالما عبث التقدميون والمحافظون بالحقيقة، لكن لكي تكون هذه النقاشات مثمرة ولتصحيح أخطاء البلد -المشاريع الفاشلة والسياسات الساذجة والحروب السيئة -نحتاج إلى معيار مشترك يمكن من خلاله الحكم على ما يشكل هذه الحقيقة، معيار لا يمكن أن يكون الانجيل أو سياسات الهوية.
   يجب أن يكون هذا المعيار هو الذي نطبقه يوميًا: الحجة والإثبات والدليل. إذا ادعيت أن الانتخابات قد سُرقت، فعليك إثبات ذلك في المحكمة... وإذا وجهت الاتهام إلى ضابط شرطة بالقتل، فيجب أن تصمد روايتك أمام التحقيق.

الأخلاق العلمية
   هذه هي الطريقة التي يعمل بها العلم. فبينما ظل السياسيون يتقاتلون بشأن ارتداء الكمامة، سارع العلماء إلى تطوير لقاحات مصممة باستخدام الجينوم منشور على الإنترنت.
   لقد أتاح العلم علاج الأمراض، وتقليل وفيات الرضع، وإطالة مؤمل الحياة في حالة صحية جيدة، وتوسيع الوصول إلى المعلومات، وتطوير تقنيات طاقة جديدة.

   لماذا العلم فعال جدا؟ لأنه يضع نظرياته باستمرار في اختبار الواقع، انه يبحث ويقبل ويتعلم من التحريف والتزييف.
    وهذا ما قالته نائب الرئيس كامالا هاريس في 16 يناير، متحدثةً عما استلهمته من والدتها، الاختصاصية في الغدد الصماء: “لقد غرست في داخلي إيمانًا أساسيًا بأهمية جمع وتحليل المعطيات والحقائق، وصياغة الفرضيات. وقد جعلتني أدرك أيضًا أن إعادة تقييم الفرضية عندما لا تتطابق مع البيانات ليس فشلًا”. في العلم، اكتشاف أنك مخطئ ليس هزيمة... إنه تقدم.
   في نظر العلماء، إن عملية الاختبار وإعادة التقييم هذه من المسلّمات.

بالنسبة لهم، هي مسألة منطقية. ولكن ليس هذا فقط، إنها أيضًا أخلاقية. لا يجبرك أي قانون من قوانين الطبيعة على وضع نظرياتك على محك الوقائع أو للقبول، عندما لا تكون هذه النظريات صحيحة، وأنك كنت مخطئًا. يعترف العلماء بخطئهم، غالبًا على مضض، لأن أقرانهم يفرضون ذلك... للعلم ثقافة التزييف.

إعادة بناء توافق في
الآراء بشأن احترام الوقائع
   وهذا لا يتوفر في السياسة. عندما يتم الإخلال بالوعود السياسية، وعندما تتعثر الحروب وتتحول إلى مستنقع، أو عندما لا تعمل المدارس العامة، أو عندما لا تولّد التخفيضات الضريبية الفوائد الاجتماعية المتوقعة، فإن السياسيين يخترعون الذرائع والاعذار. لقد شكل دائما هذا مشكلة، لكنها تزداد سوءًا اليوم.
   لم يحرّف ترامب وأعوانه الوقائع فحسب، بل تجاهلوها تمامًا. إنهم يستمتعون بالأكاذيب المسرفة والمثيرة حول التزوير الانتخابي، وعندما يواجهون أدلة متضاربة، فإنهم يتمسّكون بمواقفهم.

   وإذا لم نسيطر على الوضع -لم نقم بإعادة ترسيخ أخلاقيات احترام الوقائع -فلن يتم حل أي شيء آخر. من المستحيل احتواء جائحة كوفيد-19 إذا كان عشرات الملايين من الأمريكيين مقتنعين بأنها خدعة ويرفضون التطعيم أو ارتداء الكمامات. ومن المستحيل استعادة ثقة الجمهور بنتائج الانتخابات وتهدئة رغبات التمرد إذا رفض نصف السكان تصديق المعلومات الواردة في وسائل الإعلام.
   إن استعادة الإجماع على احترام الوقائع والحقائق لن يحل مناقشاتنا حول الإنفاق والتعليم والعدالة الجنائية، الا انه بدون مثل هذا الإجماع، فإن الأزمة التي فيها الولايات المتحدة ستنتقل من سيئ إلى أسوأ.

   وإذا كنتم لا ترغبون في التسوية مع أشخاص عاقلين على الجانب الآخر، فأنتم لا تقدرون تمامًا خطورة الأزمة. لقد مات أربعمائة ألف أمريكي، وكان من الممكن منع معظم هذه الوفيات.
   صوت ثلثا المؤتمر الجمهوري لمجلس النواب، أي ما يقرب من ثلث مجمل النواب، على رفض نتائج انتخابات 2020. اجتاح الآلاف من الأمريكيين مبنى الكابيتول، بعضهم بنيّة شنق مايك بنس أو اختطاف نانسي بيلوسي، ويصدّق عشرات الملايين غيرهم الأكاذيب التي ألهمت هذا الهجوم.
   وإذا قمتم بتحميل ترامب وحزبه المسؤولية عن هذا الجنون، وأنا ممن يفعلون ذلك، فمن المغري وضع الحزب الجمهوري بأكمله في سلة واحدة. ان الذين ينكرون وجود كوفيد ويطرحون نظرية مؤامرة انتخابية هم في الغالب من اليمين.

    على مدار العامين المقبلين، سيسيطر الديمقراطيون على الرئاسة ومجلس النواب ومجلس الشيوخ. ولماذا لا نقول للجمهوريين، ببساطة، اذهبوا إلى الجحيم؟ لأن مروجي الدعاية لا يزدهرون الا على الاستقطاب... إنهم يجندون أتباعهم ويثيرون جنونهم من خلال النظر الى أي انتقاد على انه تعبير عن عداوة حزبية. ولكسر قبضتهم على النصف الأيمن من البلاد، نحتاج إلى تحالف مبني على الوقائع ويتجاهل حدود الاحزاب.

   بعبارة أخرى، يجب أن نسعى إلى أرضية مشتركة في كل مكان. الأمر الذي يتطلب دعم السناتور ميت رومني والنائب ليز تشيني والجمهوريين الآخرين عندما يقولون الحقيقة. والنظر بجدية الى الصحافة الوقائعية عندما يتعلق الأمر بـ “ديسباتش” و”بول وارك” و”ناشونال ريفيو” من بين منشورات الوسط واليمين الأخرى. والتفريق بين أخطاء رونالد ريغان وجورج دبليو بوش وأمراض ترامب ونيوت جينجريتش.

   في هذه المعركة، نحتاج إلى كل النوايا الحسنة المستعدة للعب وفقًا لقواعد الديمقراطية التداولية. وبالتالي، هذا هو التزامي خلال السنوات الأربع المقبلة، على الأقل: إذا كنتم تؤمنون بحل النزاعات من خلال استخدام الحجج والأدلة، فضموني إلى فريقكم.

مؤلف “مدونة الطبيعة البشرية” و “الى اليمين: هكذا فاز المحافظون بحرب الإجهاض».