وداعا للثنائي الفرنسي -الألماني؟

من الغرب إلى الشرق: مركز ثقل جديد يُبنى في أوروبا...!

من الغرب إلى الشرق: مركز ثقل جديد يُبنى في أوروبا...!

-- كشفت الحرب أن الاتحاد الأوروبي هو أكثر من مجرد مشروع تكنوقراطي
-- يعيش الاتحاد الأوروبي إعادة توازن للقوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق
-- ما يحدث يمهد طريق الاتحاد للانتقال من اتحاد اقتصادي إلى قوة سياسية حقيقية
-- ستكون دول الشمال وهولندا وكذلك إيرلندا مركز القوة الأوروبية في المستقبل
-- الثنائي الفرنسي-الألماني رمز، ولم تعد أوروبا المعاصرة تدور حوله


    كشف الصراع الروسي الأوكراني عن قطب جديد من النفوذ القوي داخل الاتحاد الأوروبي. غيوم كلوسا ومايكل لامبرت، فككا لموقع “أتلانتيكو” التحولات التي تشهدها القارة العجوز في ضوء الحرب الأوكرانية وما تفرزه من تداعيات عسكرية وسياسية واقتصادية على المنطقة والعالم، وخاصة على مستقبل الفاعلين وطبيعة الأدوار فيما يخص البناء الأوروبي.    وغيوم كلوسا، مفكر وفاعل في المشروع الأوروبي، مسؤول وباحث، أسس مركز الفكر الأوروبي يوروبا نوفا، برنامج “القادة الشباب الأوروبيون”، وترأس اتحاد البث الأوروبي / يوروفيجن. كان المستشار الخاص المسؤول عن الذكاء الاصطناعي لنائب رئيس المفوضية الأوروبية أندروس أنسيب بعد أن كان مستشارًا لجان بيير جوييه خلال الرئاسة الفرنسية الأخيرة للاتحاد الأوروبي، وشيربا مجموعة التفكير حول مستقبل أوروبا (المجلس الأوروبي) خلال الأزمة الاقتصادية والمالية الكبرى الأخيرة. وهو الرئيس المشارك للحركة المدنية العابرة للحدود سيفيكو يوروبا، التي أطلقت في 9 مايو 2016 الدعوة إلى النهضة الأوروبية واستشارة نحن الأوروبيون (شملت 38 مليون مواطن في 27 دولة و25 لغة).

وقام بالتدريس في ساينس بو باريس ومعهد أوروبا ومدرسة الدراسات العليا التجارية والمدرسة الوطنية للإدارة.
   اما مايكل لامبرت فهو حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون بالتعاون مع المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال -كامبوس فونتينبلو (ديسمبر 2016). ويركز تحليله داخل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا على علم النفس السياسي والفاعلين في السياسة الخارجية للصين والولايات المتحدة في أوراسيا. وفي ما يلي ترجمة هذا الحوار:

    *كشف الصراع الروسي الأوكراني عن مركز نفوذ قوي جديد شرق الثنائي الفرنسي-الألماني التقليدي. عندما يتوقف القصف على حدود الاتحاد الأوروبي، هل يمكن أن ينتقل مركز نفوذ الاتحاد من الغرب إلى الشرق (اقتصاديًا وعسكريًا)؟ وهل سيسمح دعم هذه الدول للحرب بالظهور في المقدمة؟
   - غيوم كلوسا: مجال الجاذبية في أوروبا لا يتغير. ان الاتحاد الأوروبي ينتقل من رؤية “النواة الصلبة”، بأعضائها التاريخيين، إلى اتحاد يأخذ في الاعتبار أعضاءه الجدد، حيث أصبح أكثر شمولاً. وهذا خبر جيد لأن دول البلطيق، مثل بولندا، لها مصلحة في تقوية الاتحاد الأوروبي، وعلى وجه الخصوص التعزيز المؤسسي للاتحاد. وهذا يمهد طريق الاتحاد للانتقال من اتحاد اقتصادي إلى قوة سياسية حقيقية.
   النتيجة الثانية لهذه الحرب، هي إدراك أن الاتحاد الأوروبي هو أكثر من مجرد مشروع تكنوقراطي، فقد ظهر كمشروع سياسي وحضاري. وهذه الحرب، خلقت نوعًا من صدمة الوعي بين الأوروبيين بأن الاتحاد حضارة جديدة ولدت بعد الحرب توفر السلام والأمن والقانون العام وكرامة الإنسان والمساواة.

  - مايكل لامبرت: إن فكرة أوروبا التي تدور حول الثنائي الفرنسي-الألماني هي من مخلفات الحرب الباردة ولا صلة لها تقريبًا بالاتحاد الأوروبي المعاصر. في الواقع، إذا كان الثنائي مهمّا في أوروبا 6 (1957)، أو حتى 12 (1986)، فليس له أي تطابق مع أوروبا 27 (2022).
   من جهة اخرى، منذ نهاية الحرب الباردة، شهدنا تحولًا في مركز ثقل الاتحاد الأوروبي من الغرب إلى الشرق، لأنه لم يتم اعتماد استراتيجية منسقة بين فرنسا وألمانيا، بعدد قليل من المشاريع الكبرى، أو مشاريع ولدت ميتة (مثل طائرة الجيل الخامس).

  في نفس الوقت، تبرز بلدان وسط وشرق أوروبا كقوى جديدة. وتعدّ إستونيا الآن عملاقًا في مجال الفضاء الإلكتروني، ومن المرجح أن تتفوق هذه الدولة الشمالية، التي احتلها الاتحاد السوفياتي سابقًا، على سويسرا وسنغافورة من حيث دخل الفرد في العشرين عامًا القادمة. وأصبحت جمهورية التشيك أيضًا قوة صناعية واقتصادية كما كانت قبل الحرب العالمية الثانية، إذ لديها أدنى معدل بطالة في الاتحاد الأوروبي (3 فاصل 5 بالمائة)، وتجذب العديد من المغتربين. بولندا، من جانبها، أصبحت لاعبا دبلوماسيا رئيسيا، كما يتضح من مبادراتها لصالح اللاجئين الأوكرانيين. وهذه مجرد أمثلة قليلة، تشهد على إعادة توازن للقوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق في الاتحاد الأوروبي.

   ومع ذلك، لئن استعادت بلدان أوروبا الوسطى والشرقية قوتها، فستظل بحاجة إلى عدة سنوات لتحديث جيوشها، ودول مثل جمهورية التشيك وبولندا ليست مستعدة لمكافحة الاحتباس الحراري، مما سيؤثر بشدة على قدرتها الاقتصادية والزراعية. باختصار، إستونيا هي إلى حد بعيد الدولة الوحيدة التي تمتلك أفضل فرصة لتصبح قوة أوروبية في حد ذاتها، وستحقق البلدان الأخرى نتائج أكثر تباينًا.

   أخيرًا، يبدو من المناسب التذكير بأن جميع دول أوروبا الوسطى والشرقية ليست قوى عسكرية، وليس لديها المعدات ولا الأدوات الصناعية ولا الوسائل المالية لتحقيق طموحاتها. وعلى هذا النحو، فهي تعتمد على الناتو لضمان دفاعها. ويقوم هؤلاء أيضًا باختيارات عقائدية، ويجدون صعوبة في الابتكار على المستوى العسكري. على سبيل المثال، يشتري البولنديون جزءً كبيرًا من المواد الأمريكية، في حين أن المواد الفرنسية مثل الدبابة لوكلير ومامبا وصعب جريبن السويدية أكثر ملاءمة.

  باختصار، إن دول الكتلة الشرقية السابقة جيدة في توصيل المواد لأوكرانيا وتزويدها، ولكن عندما يتعلق الأمر بشن حرب حقيقية، يبدو أن دولة واحدة فقط من أعضاء الاتحاد الأوروبي تمتلك المعرفة والخبرة: فرنسا.
  *هل يمكن للدعم المحدود للثنائي الفرنسي -الألماني أن يقلل من تأثيره لصالح دول أخرى في أوروبا؟   - مايكل لامبرت: الثنائي الفرنسي-الألماني رمز، ولم تعد أوروبا المعاصرة تدور حوله. وستكون قوى الغد هي الدول التي ستمنح نفسها الوسائل والطموح لتطوير التّميّز في قطاعات معينة.

   مع خطر تكرار نفسي، ستكون إستونيا القوة الإلكترونية الأوروبية في العقد المقبل. بينما ستظهر السويد كقوة عسكرية عظمى إذا انضمت إلى الناتو. في الواقع، للسويد شركات عسكرية ممتازة (ساب) وهي قوة عسكرية مجهولة.   بصرف النظر عن هذين المثالين، لن تتمكن دول أخرى، مثل جمهورية التشيك وبولندا، من الظهور كقوى عسكرية عظمى لأنها لا تبتكر بما فيه الكفاية، وليس لديها قطاعات متميزة. وينطبق الشيء نفسه على رومانيا وبلغاريا والمجر ودولتي البلطيق (لاتفيا وليتوانيا)، والتي ستبقى في الخلفية لعدم وجود ميزانية للتحديث.
  من الناحية الاقتصادية، ستصبح ثلاث دول فقط -إستونيا وجمهورية التشيك وسلوفينيا -قوى كاملة وستلحق ببلدان أوروبا الغربية.

  على المستوى الدبلوماسي، تعود إستونيا مرة أخرى، ولكن هذه المرة مصحوبة ببولندا وجمهورية التشيك، اللتان ستكونان لاعبين دبلوماسيين رئيسيين. وعلى هذا النحو، ستظهر بولندا كقوة زراعية أوروبية، ومن المتوقع أن تصبح الزراعة مكونًا أساسيًا للقوة الناعمة في عالم يعاني من نقص.   من الناحية البيئية، ستكون سلوفينيا في طليعة أوروبا في غضون سنوات قليلة. وأنا أقول هذا، يبدو الامر كما لو قد عفا عليه الزمن، الا ان حماية البيئة وإدارة الموارد، وخاصة المياه، ستكون أيضًا مكونًا أساسيًا للقوة الناعمة.
   سيبقى الثنائي الفرنسي-الألماني، أو حتى فرنسا وألمانيا بشكل منفصل، قوتين ثابتتين، دون زيادة تأثيرهما، ولكن دون ان نراه يتضاءل في الاتحاد الأوروبي.

  - غيوم كلوسا: هناك تقارب ثقافي وجغرافي أو تاريخي في دعم دول البلطيق والدول الاسكندنافية وأوروبا الوسطى تجاه أوكرانيا، الى درجة أن البعض يشعر بأنه مهدد بشكل مباشر. تلعب فرنسا وألمانيا دورًا محددًا في هذه القضية، فبدون فرنسا أو ألمانيا لن تكون هناك قدرة للأوروبيين على تسليم أسلحة إلى أوكرانيا. هناك ديناميكية جماعية، ومن الواضح أنها لم تكن في مواجهة التزامات الغاز والنفط المتناقضة، وعلى الرغم من ذلك، أنشأنا ديناميكية للوحدة.

  *هل تُظهر المملكة المتحدة، بتحالفها الدفاعي الجديد مع السويد وفنلندا، ثقلها الكبير دبلوماسيا بقليل من الوسائل؟
  - مايكل لامبرت: لا تزال المملكة المتحدة قوة عظمى ليس فقط في أوروبا ولكن أيضًا في العالم. ينمو اقتصاد البلاد بقوة، مع ارتفاع أجور الشباب وانخفاض حاد في معدل البطالة. تبقى الجامعات البريطانية من بين الأفضل في العالم وقد تمكنت من زيادة دخلها، والتأثير الدولي للندن حقيقة تظهر أن هذا البلد لا يزال قادرًا على مفاجأتنا. بالإضافة إلى ذلك، تشهد بريطانيا نقاشًا عالي الجودة حول القضايا البيئية، وتزدهر السياحة فيها.

  باختصار، مع السويد أو بدونها، تظل بريطانيا نموذجًا للكثيرين، وكما رأينا مع زيارة بوريس جونسون لأوكرانيا، فإن استراتيجية الاتصال البريطانية أفضل بكثير من استراتيجية الاتحاد الأوروبي. كانت لندن وستظل لاعباً أوروبياً رئيسياً، وتقاربها مع السويد سيعزز هذه الديناميكية.
  - غيوم كلوسا: لقد همشت الأزمة الأوكرانية المملكة المتحدة، ويمكننا أن نرى أنه يمكن الاعتماد عليها بنسبة أقل مما كانت عليه في الأزمات السابقة. يحاول البريطانيون الظهور بكل الوسائل، ولا سيما من خلال الكلام، لتأكيد وجودهم. لكن الكلمات ليست بديلاً عن التأثير أو الفعل. ان هذا التحالف فلسفي وهو تحالف من الدرجة الثانية. التحالفات التي تحتل المرتبة الأولى من حيث الأمن هي حلف شمال الأطلسي وفي الشؤون السياسية هو الاتحاد الأوروبي.

  *على المدى الطويل، هل نتجه نحو منطق جديد لأوروبا ينحرف عن النمط المعروف؟
  - مايكل لامبرت: على المدى الطويل، يجب أن نعترف بأن الاتحاد الأوروبي لا علاقة له تذكر، أو لا صلة له، بأي حال من الأحوال في حالة الحرب. وكما رأينا خلال كوفيد-19 أو الحرب في أوكرانيا، فإن الدول هي التي تلعب دورًا وقائيًا، ومصلحة الاتحاد الأوروبي فقط في منطقة شنغن، اليورو نفسه يخضع للتضخم، وبالتالي لم يعد يحمي المواطنين.

   ومع ذلك، هناك تغيير في أوروبا مع ظهور دول كقوى إقليمية ولديها فلسفة الامتياز في قطاعات معينة (إستونيا في الإنترنت، وسلوفينيا في البيئة، وبولندا للدبلوماسية). مع الحرب في أوكرانيا، وكذلك الاحتباس الحراري، الذي سيكون له تأثير على المقاومة الاقتصادية للدول الأوروبية، يخاطر مركز الثقل في الاتحاد الأوروبي بالتحول من الثنائي الفرنسي-الألماني إلى بلدان في الشمال أكثر تلاؤما مع المتغيرات العالمية. وستكون دول الشمال وهولندا، وكذلك إيرلندا، مركز القوة الأوروبية في المستقبل، خاصة إذا انضمت السويد وفنلندا إلى الناتو.