يعتبرها الأوروبيون - خطأً - بعيدة
ناغورنو كاراباخ: البعد القوقازي للاتحاد الأوروبي...!
منذ 27 سبتمبر، أعادت أرمينيا وأذربيجان، الجمهوريتان الاشتراكيتان السوفياتيتان السابقتان، إشعال الحرب بينهما منذ عام 1992.
انهما تشتبكان بانتظام، مستخدمتان الأسلحة، من أجل السيطرة على منطقة كاراباخ العليا.
استمرت الهدنة ما يزيد قليلاً عن أربع سنوات منذ الاشتباكات السابقة في أبريل 2016، والتي لم “تحل” النزاع.
وأصبحت رهانات هذه المواجهة الدامية فجأة مألوفة للأوروبيين الذين نسوها بل أهملوها: هذه المنطقة (الأوبلاست) التي يبلغ عدد سكانها 150 ألف نسمة، والتي يسكنها الأرمن بشكل أساسي، كانت، خلال الفترة السوفياتية، مرتبطة بالجمهورية الاشتراكية السوفياتية أذربيجان، ومحاطة بأراض ذات أغلبية كردية وأذرية.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي، استيقظت المشاعر القومية، واختفت سيطرة السلطة الروسية المركزية، وتأكد الاستقلال الوطني. وعندما تكون الأراضي المتنازع عليها بين الجمهوريات السوفياتية السابقة، فإن ذلك يؤدي إلى حرب دموية في ناغورنو كاراباخ التي خلفت حوالي 30 ألف قتيل من 1988 إلى 1994.
واليوم، يعمل الوضع الجيوسياسي على تغيير هذا الصراع المسمى بشكل غير صحيح “المجمد”، والذي ينبغي بدلاً من ذلك وصفه بأنه “لم يتم حله”. في الواقع، إذا كان لدى المتحاربين نفس الرغبة في خوض المعركة، فإن التطورات المهمة تتعلق بتوازن القوى. من ناحية، استخدمت أذربيجان، في ظل نظام علييف، الموارد النفطية لتحديث قواتها المسلحة مع المزودين، لا سيما الروس والإسرائيليين. من ناحية أخرى، فإن تركيا، المنخرطة في سياسة خارجية ما بعد العثمانية وطائفية، تزودها بالدعم الدبلوماسي والعسكري والتكنولوجي. وكانت هذه المبادرة التركية هي التي عجّلت الهجوم الأذربيجاني لاستعادة السيطرة على الجيب والتشكيك في وقف إطلاق النار الذي حرم أذربيجان عام 1994 من أكثر من 10 بالمائة من أراضيها.
وتشهد هذه الحرب المفتوحة الجديدة على المخاطر الجيوسياسية لمنطقة جغرافية يعتبرها الأوروبيون خطأً بعيدة عن دائرة نفوذهم ومجال اهتمامهم.
إن مراقبة الصراع من بعيد دون الاستثمار فيه بحزم، من شأنه أن يغذي الأوهام الاستراتيجية للاتحاد. لأن جنوب القوقاز ليس حكراً على الاتحاد الروسي، واتجهت يريفان إلى موسكو كمظلة، لكن روسيا، القوة المحتلة السابقة في المنطقة، تشعر بالحرج من عدم التدخل الضعيف وغير المثمر.
أوروبا فاعل في القوقاز
بعيدة جغرافياً، وغريبة سياسياً عن الأوروبيين، أصبحت منطقة القوقاز رهان صراعات متعددة تتعلق مباشرة بأوروبا. إنها مفارقة: إن باريس أقرب بكثير إلى يريفان (حوالي 3400 كم) منها إلى نيويورك (حوالي 5800 كم)، والمسافة من تبليسي إلى بوخارست (1550 كم) أقل من المسافة بين بوخارست وبروكسل (1770 كم).
قليلة السكان (حوالي 17 مليون نسمة)، متخلفة اقتصاديًا، متنوعة إثنيًا (يطلق عليها اسم “جبل اللغات”) ومحاصرة جغرافيًا بين البحر الأسود وبحر قزوين وجنوب القوقاز (على عكس شمال القوقاز المندمج في الاتحاد الروسي) فهي تمثل عدة تحديات ورهانات أساسية لسيادة الاتحاد الاوروبي.
أولا: تنويع مصادر الطاقة: جنوب القوقاز هو ممر عبور الهيدروكربون في بحر قزوين. يعبرها خطان من خطوط أنابيب الغاز يبدأن من باكو ويتجهان إلى الفضاء الأوروبي عبر جورجيا وتركيا.
الأول، خط باكو -تبليسي -أرضروم، ينتهي في شرق البحر الأبيض المتوسط ، وهو ذو أهمية مباشرة للاتحاد الأوروبي. الآخر، باكو-سبوزا، ينتهي في البحر الأسود عبر جورجيا. استندت خطوط الأنابيب هذه، المصممة لتقليل الاعتماد على الهيدروكربونات الروسية، على فكرة أن تركيا كانت عضوًا موثوقًا به في الناتو، ودولة في طريقها إلى الاقتراب من الاتحاد الأوروبي، لكن تآكلت الثقة في تركيا الآن نتيجة لسياسة أردوغان الخارجية.
ويعدّ القوقاز أيضًا هامّا للاستقلال الاقتصادي الأوروبي بعد ذلك. في المنطقة، طالب الاتحاد الأوروبي بعدد من الإصلاحات والمعايير من نخب لا تريدها بالضرورة. في حين يتم التودد إلى دول القوقاز بشدة من قبل القوى الإقليمية التقليدية (روسيا وتركيا وإيران)، ولكن أيضًا من قبل القوى العالمية الصاعدة، وفي المقام الأول جمهورية الصين الشعبية.
وهذه الاخيرة موجودة فعلا في كل مكان، من خلال المنطقة الحرة التي أنشأتها في جورجيا، ومن خلال تشعب طريق الحرير الجديد الذي يمر عبر أذربيجان وجورجيا للوصول إلى رومانيا عبر ميناء كونستانتا.
ويعتبر القوقاز أحد محاور تغلغل الاستثمارات وبالتالي التأثيرات الصينية في أوروبا، بين الشرق الأوسط وروسيا.
جزء من علاقة الاتحاد الأوروبي الاستراتيجية مع روسيا تلعب هناك أيضًا، حيث إن هذه العلاقة، التي وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة، تتأثر بشكل أكبر بالتطورات في بيلاروسيا وقضية نافالني.
روسيا، في هذه المنطقة، “خسرت” جورجيا، التي كانت لفترة طويلة منطقتها قبل أن تتجه إلى الولايات المتحدة، وبدرجة أقل إلى الأوروبيين، في عهد ساكاشفلي، كما يتضح من إرادة تبليسي للانضمام إلى الناتو. جمدت الحرب الروسية الجورجية عام 2008 هذا المشروع، قبل أن تتجه جورجيا نحو الاتحاد الأوروبي من خلال سياسة الشراكة الشرقية. وضغطت روسيا في خريف عام 2013 على أرمينيا لعدم توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي.
بدأت بعض التوترات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا تتجلى أخيرًا في المنطقة. وتزداد هذه التوترات حدة، كما تشهد على ذلك اليونان وقبرص. وفي مواجهة غير مباشرة منذ أكثر من عام مع الرئيس أردوغان، لا يمكن أن يكتفي إيمانويل ماكرون بوصم إرسال المرتزقة من سوريا إلى أذربيجان. وإذا كانت أوروبا لا ترغب في المعاناة من عواقب الصراعات الجديدة، فعليها أن تتخذ مبادرات لمنع الحرب الحالية من الانتشار والاستمرار.
منذ التسعينات، على هذه المستويات المختلفة، وكذلك على مستويات أخرى مثل الجريمة المنظمة، أصبح القوقاز رهانا في معارك المستقبل. يجب على الأوروبيين استثمار هذه المساحة ليس كمسرح بعيد بل كحديقة خلفية لهم... ولديهم الوسائل.
أوروبا، الحكم
الوحيد الممكن؟
بين أوروبا والقوقاز، التباين واضح. من ناحية، يرى الأوروبيون وقادتهم المنطقة على أنها نائية ومحيطية. ولكن، من ناحية أخرى، فإن عيون دول القوقاز تتجه الى الاتحاد الأوروبي. تتعرض الشراكة الشرقية لانتقادات واسعة في بروكسل، لكنها تواجه لإجراءات هامة من جانب الدول الثلاث الأعضاء في الشراكة في جنوب القوقاز. وبهذه الطريقة، أصبحت أوروبا لاعباً في القوقاز، بالتأكيد محدودا ولكنه حقيقي. وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك اقتصادي لجورجيا قبل تركيا وروسيا، حيث يمثل ما يقرب من 23 بالمائة من صادراته، بينما تمثل جورجيا 0.1 بالمائة من الصادرات الأوروبية.
اليوم، في مواجهة الصراع المسلح واتساع دائرة العنف بين الأرمن والأذربيجانيين، وبينما تدعم روسيا بهدوء أرمينيا مع محاولة عدم عزل أذربيجان، يمكن لأوروبا وحدها ان تقف في موقع حكم نزيه. انها حكم بالضرورة حيث أن مختلف الجهات الفاعلة غير قادرة على العمل بفعالية من أجل التهدئة. الولايات المتحدة منغمسة في حياتها السياسية الداخلية، وتركيا متورطة سياسياً وعسكرياً، بل أن نشاطها هو الذي شجع الأذربيجانيين على حمل السلاح مرة أخرى. إن عداءها لأرمينيا منذ بدايات الجمهورية والتزامها إلى جانب أذربيجان لأسباب تاريخية وطائفية، يجعلها بحكم الأمر الواقع أحد الأطراف المتحاربة وليست وسيطًا محايدًا.
من جانبها، تشعر روسيا بالحرج من هذا الصراع الذي يعدّ علامة على عدم قدرتها على حلّ الحروب على حدودها، حتى لو بدا لبعض الوقت أنّ هذا الوضع الراهن يؤكد مكانتها كقوة إقليمية.
تزود الخصمين بالأسلحة، مرتبطة بأرمينيا داخل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وبوجود القاعدة العسكرية رقم 102، حصلت روسيا بالتأكيد على وقف إطلاق النار لعام 2016، ولكن التورط أكثر من شأنه أن يعرضها لخطر مواجهة الجناح الجنوبي التركي الأذربيجاني المعادي. روسيا، في هذه الحالة، مجبرة على اتخاذ خيارات غير مريحة بطبيعتها: فهي في وضع سيئ بشكل خاص لتنظيم حوار بين أرمينيا، التي هي احدى محمياتها، وأذربيجان التي أغرتها مغامرة ما بعد العثمانيين. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي موقفها إلى العمل مع الأوروبيين بشأن هذه النقطة بالتحديد، في تقسيم مفترض تقريبًا للأدوار، وعلى أقل تقدير إنه يوفر مساحة للأوروبيين.
أما بالنسبة للهياكل الأمنية متعددة الأطراف، مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا ومجموعة مينسك الناتجة عنها، فهي الآن معطلة. لقد غذّى فشل ربع قرن من الحوار إرادة الأذربيجانيين لخوض المعركة، خاصة وأن ميزان القوى تطور لصالحهم، وكان استئناف الصراع مسألة وقت فقط. وبينما يمكن اتخاذ مبادرات لتعزيز هذه الهياكل المتعددة الأطراف (بما في ذلك الاتحاد الأوروبي في مجموعة مينسك على سبيل المثال)، فإنها لن تكون كافية بالضرورة في سياق الحرب.
اليوم، يجب على الأوروبيين أن يأخذوا زمام المبادرة إذا أرادت المفوضية الجيوسياسية أن تأخذ بعدًا جديدًا، بالبناء على نقاط قوتها المختلفة -ثقلها الاقتصادي، وقدرتها التفاوضية وموقعها المتوازن.
ترجمة خيرة الشيباني
* خريج مدرسة المعلمين العليا، ومعهد العلوم السياسية في باريس، والمدرسة العليا للإدارة، والمدقق السابق في معهد الدراسات العليا للدفاع الوطني، هو مسؤول رفيع المستوى وأكاديمي. بعد التدريس في مدرسة المعلمين العليا، وجامعة نيويورك، وجامعة موسكو، وفي البوليتكنيك، يدرّس حاليًا في معهد العلوم السياسية بباريس. كما انه مؤسس، بمعية فلوران بارمنتييه، مدونة أوراسيا بروسبكتيف.
**الأمين العام لـ مركز البحوث في معهد العلوم السياسية، واستاذ محاضر في معهد العلوم السياسية في باريس، باحث مشارك في المركز الجغراسياسي للمدرسة العليا للتجارة، ومدير موقع أوراسيا بروسبكتيف شارك في اعداد كتاب “أوروبا بعد ثلاثة عقود من فتح الستار الحديدي”، 2019. من اصداراته “ مسارات دولة القانون. المسار الضيق للدول بين أوروبا وروسيا”؛ “مولدافيا الأوراق الرابحة للفرنكوفونية”. شارك في تأليف “الإمبراطورية في المرآة. استراتيجية القوة في الولايات المتحدة وروسيا”؛ و”مولدوفا عند مفترق الطرق».
انهما تشتبكان بانتظام، مستخدمتان الأسلحة، من أجل السيطرة على منطقة كاراباخ العليا.
استمرت الهدنة ما يزيد قليلاً عن أربع سنوات منذ الاشتباكات السابقة في أبريل 2016، والتي لم “تحل” النزاع.
وأصبحت رهانات هذه المواجهة الدامية فجأة مألوفة للأوروبيين الذين نسوها بل أهملوها: هذه المنطقة (الأوبلاست) التي يبلغ عدد سكانها 150 ألف نسمة، والتي يسكنها الأرمن بشكل أساسي، كانت، خلال الفترة السوفياتية، مرتبطة بالجمهورية الاشتراكية السوفياتية أذربيجان، ومحاطة بأراض ذات أغلبية كردية وأذرية.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي، استيقظت المشاعر القومية، واختفت سيطرة السلطة الروسية المركزية، وتأكد الاستقلال الوطني. وعندما تكون الأراضي المتنازع عليها بين الجمهوريات السوفياتية السابقة، فإن ذلك يؤدي إلى حرب دموية في ناغورنو كاراباخ التي خلفت حوالي 30 ألف قتيل من 1988 إلى 1994.
واليوم، يعمل الوضع الجيوسياسي على تغيير هذا الصراع المسمى بشكل غير صحيح “المجمد”، والذي ينبغي بدلاً من ذلك وصفه بأنه “لم يتم حله”. في الواقع، إذا كان لدى المتحاربين نفس الرغبة في خوض المعركة، فإن التطورات المهمة تتعلق بتوازن القوى. من ناحية، استخدمت أذربيجان، في ظل نظام علييف، الموارد النفطية لتحديث قواتها المسلحة مع المزودين، لا سيما الروس والإسرائيليين. من ناحية أخرى، فإن تركيا، المنخرطة في سياسة خارجية ما بعد العثمانية وطائفية، تزودها بالدعم الدبلوماسي والعسكري والتكنولوجي. وكانت هذه المبادرة التركية هي التي عجّلت الهجوم الأذربيجاني لاستعادة السيطرة على الجيب والتشكيك في وقف إطلاق النار الذي حرم أذربيجان عام 1994 من أكثر من 10 بالمائة من أراضيها.
وتشهد هذه الحرب المفتوحة الجديدة على المخاطر الجيوسياسية لمنطقة جغرافية يعتبرها الأوروبيون خطأً بعيدة عن دائرة نفوذهم ومجال اهتمامهم.
إن مراقبة الصراع من بعيد دون الاستثمار فيه بحزم، من شأنه أن يغذي الأوهام الاستراتيجية للاتحاد. لأن جنوب القوقاز ليس حكراً على الاتحاد الروسي، واتجهت يريفان إلى موسكو كمظلة، لكن روسيا، القوة المحتلة السابقة في المنطقة، تشعر بالحرج من عدم التدخل الضعيف وغير المثمر.
أوروبا فاعل في القوقاز
بعيدة جغرافياً، وغريبة سياسياً عن الأوروبيين، أصبحت منطقة القوقاز رهان صراعات متعددة تتعلق مباشرة بأوروبا. إنها مفارقة: إن باريس أقرب بكثير إلى يريفان (حوالي 3400 كم) منها إلى نيويورك (حوالي 5800 كم)، والمسافة من تبليسي إلى بوخارست (1550 كم) أقل من المسافة بين بوخارست وبروكسل (1770 كم).
قليلة السكان (حوالي 17 مليون نسمة)، متخلفة اقتصاديًا، متنوعة إثنيًا (يطلق عليها اسم “جبل اللغات”) ومحاصرة جغرافيًا بين البحر الأسود وبحر قزوين وجنوب القوقاز (على عكس شمال القوقاز المندمج في الاتحاد الروسي) فهي تمثل عدة تحديات ورهانات أساسية لسيادة الاتحاد الاوروبي.
أولا: تنويع مصادر الطاقة: جنوب القوقاز هو ممر عبور الهيدروكربون في بحر قزوين. يعبرها خطان من خطوط أنابيب الغاز يبدأن من باكو ويتجهان إلى الفضاء الأوروبي عبر جورجيا وتركيا.
الأول، خط باكو -تبليسي -أرضروم، ينتهي في شرق البحر الأبيض المتوسط ، وهو ذو أهمية مباشرة للاتحاد الأوروبي. الآخر، باكو-سبوزا، ينتهي في البحر الأسود عبر جورجيا. استندت خطوط الأنابيب هذه، المصممة لتقليل الاعتماد على الهيدروكربونات الروسية، على فكرة أن تركيا كانت عضوًا موثوقًا به في الناتو، ودولة في طريقها إلى الاقتراب من الاتحاد الأوروبي، لكن تآكلت الثقة في تركيا الآن نتيجة لسياسة أردوغان الخارجية.
ويعدّ القوقاز أيضًا هامّا للاستقلال الاقتصادي الأوروبي بعد ذلك. في المنطقة، طالب الاتحاد الأوروبي بعدد من الإصلاحات والمعايير من نخب لا تريدها بالضرورة. في حين يتم التودد إلى دول القوقاز بشدة من قبل القوى الإقليمية التقليدية (روسيا وتركيا وإيران)، ولكن أيضًا من قبل القوى العالمية الصاعدة، وفي المقام الأول جمهورية الصين الشعبية.
وهذه الاخيرة موجودة فعلا في كل مكان، من خلال المنطقة الحرة التي أنشأتها في جورجيا، ومن خلال تشعب طريق الحرير الجديد الذي يمر عبر أذربيجان وجورجيا للوصول إلى رومانيا عبر ميناء كونستانتا.
ويعتبر القوقاز أحد محاور تغلغل الاستثمارات وبالتالي التأثيرات الصينية في أوروبا، بين الشرق الأوسط وروسيا.
جزء من علاقة الاتحاد الأوروبي الاستراتيجية مع روسيا تلعب هناك أيضًا، حيث إن هذه العلاقة، التي وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة، تتأثر بشكل أكبر بالتطورات في بيلاروسيا وقضية نافالني.
روسيا، في هذه المنطقة، “خسرت” جورجيا، التي كانت لفترة طويلة منطقتها قبل أن تتجه إلى الولايات المتحدة، وبدرجة أقل إلى الأوروبيين، في عهد ساكاشفلي، كما يتضح من إرادة تبليسي للانضمام إلى الناتو. جمدت الحرب الروسية الجورجية عام 2008 هذا المشروع، قبل أن تتجه جورجيا نحو الاتحاد الأوروبي من خلال سياسة الشراكة الشرقية. وضغطت روسيا في خريف عام 2013 على أرمينيا لعدم توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي.
بدأت بعض التوترات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا تتجلى أخيرًا في المنطقة. وتزداد هذه التوترات حدة، كما تشهد على ذلك اليونان وقبرص. وفي مواجهة غير مباشرة منذ أكثر من عام مع الرئيس أردوغان، لا يمكن أن يكتفي إيمانويل ماكرون بوصم إرسال المرتزقة من سوريا إلى أذربيجان. وإذا كانت أوروبا لا ترغب في المعاناة من عواقب الصراعات الجديدة، فعليها أن تتخذ مبادرات لمنع الحرب الحالية من الانتشار والاستمرار.
منذ التسعينات، على هذه المستويات المختلفة، وكذلك على مستويات أخرى مثل الجريمة المنظمة، أصبح القوقاز رهانا في معارك المستقبل. يجب على الأوروبيين استثمار هذه المساحة ليس كمسرح بعيد بل كحديقة خلفية لهم... ولديهم الوسائل.
أوروبا، الحكم
الوحيد الممكن؟
بين أوروبا والقوقاز، التباين واضح. من ناحية، يرى الأوروبيون وقادتهم المنطقة على أنها نائية ومحيطية. ولكن، من ناحية أخرى، فإن عيون دول القوقاز تتجه الى الاتحاد الأوروبي. تتعرض الشراكة الشرقية لانتقادات واسعة في بروكسل، لكنها تواجه لإجراءات هامة من جانب الدول الثلاث الأعضاء في الشراكة في جنوب القوقاز. وبهذه الطريقة، أصبحت أوروبا لاعباً في القوقاز، بالتأكيد محدودا ولكنه حقيقي. وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك اقتصادي لجورجيا قبل تركيا وروسيا، حيث يمثل ما يقرب من 23 بالمائة من صادراته، بينما تمثل جورجيا 0.1 بالمائة من الصادرات الأوروبية.
اليوم، في مواجهة الصراع المسلح واتساع دائرة العنف بين الأرمن والأذربيجانيين، وبينما تدعم روسيا بهدوء أرمينيا مع محاولة عدم عزل أذربيجان، يمكن لأوروبا وحدها ان تقف في موقع حكم نزيه. انها حكم بالضرورة حيث أن مختلف الجهات الفاعلة غير قادرة على العمل بفعالية من أجل التهدئة. الولايات المتحدة منغمسة في حياتها السياسية الداخلية، وتركيا متورطة سياسياً وعسكرياً، بل أن نشاطها هو الذي شجع الأذربيجانيين على حمل السلاح مرة أخرى. إن عداءها لأرمينيا منذ بدايات الجمهورية والتزامها إلى جانب أذربيجان لأسباب تاريخية وطائفية، يجعلها بحكم الأمر الواقع أحد الأطراف المتحاربة وليست وسيطًا محايدًا.
من جانبها، تشعر روسيا بالحرج من هذا الصراع الذي يعدّ علامة على عدم قدرتها على حلّ الحروب على حدودها، حتى لو بدا لبعض الوقت أنّ هذا الوضع الراهن يؤكد مكانتها كقوة إقليمية.
تزود الخصمين بالأسلحة، مرتبطة بأرمينيا داخل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وبوجود القاعدة العسكرية رقم 102، حصلت روسيا بالتأكيد على وقف إطلاق النار لعام 2016، ولكن التورط أكثر من شأنه أن يعرضها لخطر مواجهة الجناح الجنوبي التركي الأذربيجاني المعادي. روسيا، في هذه الحالة، مجبرة على اتخاذ خيارات غير مريحة بطبيعتها: فهي في وضع سيئ بشكل خاص لتنظيم حوار بين أرمينيا، التي هي احدى محمياتها، وأذربيجان التي أغرتها مغامرة ما بعد العثمانيين. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي موقفها إلى العمل مع الأوروبيين بشأن هذه النقطة بالتحديد، في تقسيم مفترض تقريبًا للأدوار، وعلى أقل تقدير إنه يوفر مساحة للأوروبيين.
أما بالنسبة للهياكل الأمنية متعددة الأطراف، مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا ومجموعة مينسك الناتجة عنها، فهي الآن معطلة. لقد غذّى فشل ربع قرن من الحوار إرادة الأذربيجانيين لخوض المعركة، خاصة وأن ميزان القوى تطور لصالحهم، وكان استئناف الصراع مسألة وقت فقط. وبينما يمكن اتخاذ مبادرات لتعزيز هذه الهياكل المتعددة الأطراف (بما في ذلك الاتحاد الأوروبي في مجموعة مينسك على سبيل المثال)، فإنها لن تكون كافية بالضرورة في سياق الحرب.
اليوم، يجب على الأوروبيين أن يأخذوا زمام المبادرة إذا أرادت المفوضية الجيوسياسية أن تأخذ بعدًا جديدًا، بالبناء على نقاط قوتها المختلفة -ثقلها الاقتصادي، وقدرتها التفاوضية وموقعها المتوازن.
ترجمة خيرة الشيباني
* خريج مدرسة المعلمين العليا، ومعهد العلوم السياسية في باريس، والمدرسة العليا للإدارة، والمدقق السابق في معهد الدراسات العليا للدفاع الوطني، هو مسؤول رفيع المستوى وأكاديمي. بعد التدريس في مدرسة المعلمين العليا، وجامعة نيويورك، وجامعة موسكو، وفي البوليتكنيك، يدرّس حاليًا في معهد العلوم السياسية بباريس. كما انه مؤسس، بمعية فلوران بارمنتييه، مدونة أوراسيا بروسبكتيف.
**الأمين العام لـ مركز البحوث في معهد العلوم السياسية، واستاذ محاضر في معهد العلوم السياسية في باريس، باحث مشارك في المركز الجغراسياسي للمدرسة العليا للتجارة، ومدير موقع أوراسيا بروسبكتيف شارك في اعداد كتاب “أوروبا بعد ثلاثة عقود من فتح الستار الحديدي”، 2019. من اصداراته “ مسارات دولة القانون. المسار الضيق للدول بين أوروبا وروسيا”؛ “مولدافيا الأوراق الرابحة للفرنكوفونية”. شارك في تأليف “الإمبراطورية في المرآة. استراتيجية القوة في الولايات المتحدة وروسيا”؛ و”مولدوفا عند مفترق الطرق».