كان انتصار ترامب بمثابة الجائزة الكبرى:

هكذا تستعد روسيا بوتين لصعود بايدن إلى السلطة...!

هكذا تستعد روسيا بوتين لصعود بايدن إلى السلطة...!

-- إعادة إطلاق المواجهة الخطابية يمكن أن تزيد من شعبية بوتين لدى ناخبيه
-- رغم خيبة الأمل التي سببها ترامب، كانت موسكو تأمل في فوزه على بايدن حتى النهاية
-- العلاقات الروسية الأمريكية السلمية ستكون بشرى سارة لعالم يبحث عن توازنات جديدة
-- لا تزال العلاقات الروسية الأمريكية غارقة في الصور النمطية التي تعود إلى «الحرب الباردة»
-- نسير على المدى القريب، نحو توتر جديد في العلاقات الروسية الأمريكية بشأن القضايا الاستراتيجية


سيكون فوز جو بايدن معبّرا عن الوضع في روسيا. ردود الفعل والانتظارات التي يثيرها يقول الكثير عن الوضع في روسيا اليوم-وربما غدًا- وكيف ينظر قادتها الحاليون إلى العالم.

ثقل الماضي
   عام 2020، بعد ما يقرب من ثلاثين عامًا من اختفاء الاتحاد السوفياتي، لا تزال العلاقات الروسية الأمريكية غارقة في الصور النمطية التي تعود إلى “الحرب الباردة».
   على مدى أربعة عقود، جسدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قطبي التميز على هذا الكوكب، قطبان متقابلان.
 ورغـــم هـــذه المحنـــة، كان هذان العملاقان يضمران نوعًا من الافتتـان المكبوت لبعضهما البعض، زاد عشـــرة أضعاف بسبب الجهل المتبادل.
   في ذلك الوقت، لم يكن الإنترنت موجودًا، وكان السفر بين العملاقين نادرًا، وكان المصدر الرئيسي للمعلومات عن أمريكا للسوفيات هو صحيفة لا برافدا للحزب الشيوعي، بينما كان تصور السوفيات من قبل الأمريكيين إلى حد كبير من تصميم هوليوود.
 
سقط جدار برلين عام 1989، ولم يعد الاتحاد السوفياتي موجودًا منذ عام 1991؛ وقد أصبح العالم معولما، ومترابطًا، وفوريًا، وقائمًا على النقر، ولكن بقايا العقلية القديمة تستمر في تشكيل “البرامج العقلية” لكلا الجانبين، بما في ذلك تصور الولايات المتحدة من قبل العقيد السابق في الـ كي جي بي الذي يتولى قيادة روسيا اليوم.

ترامب
«خيبة  غرامية» لموسكو
   سيكون جو بايدن خامس رئيس أمريكي يواجه فلاديمير بوتين، الذي استقر في الكرملين لأول مرة في مارس 2000. وكان الرابع، دونالد ترامب، قد أحيا في موسكو الأمل في “يالطا مكرر” -أي تقسيم جديد للعالم على أساس السياسة الواقعية التي تفضل توازن القوى. وكان ينظر إلى ترامب لأول مرة في الكرملين على أنه حفار القبور المرحب به للقيم الديمقراطية الأمريكية -وهي قيم، في رأي بوتين، مجرّد أسطورة.

   وهكذا، وحسب شخص مقرب من السلطة الروسية، فإن انتخاب ترامب أعطاه انطباعًا مسكرًا بالتجول في الميدان الأحمر، والعلم الأمريكي في نافذة سيارته. واعترف انه “بالنسبة لنا، كان الأمر بمثابة الفوز بالجائزة الكبرى في الكازينو”، دون تأكيد أن زملاءه فعلوا كل شيء للترويج لهذه “الجائزة الكبرى”: إن تدخل روسيا في الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة عام 2016، رغم عدم إثباته قانونيًا، ينبع منطقيًا من مشروع عالمي للسلطات الروسية يهدف الى تخريب الديمقراطية الغربية التي تعتبر زائفة وعفا عليها الزمن.

   ومع ذلك، سرعان ما خمدت النشوة في موسكو بشأن انتخاب ترامب. لم يرفع البيت الأبيض العقوبات الأمريكية عن روسيا، بعد ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014. وبالمثل، فإن النهج التجاري، الذي شكّل رؤية ترامب الجيوسياسية، أحبط مشروع نورد ستريم 2، وهو خط أنابيب غاز تحت بحر البلطيق يربط روسيا بألمانيا دون المرور عبر أوكرانيا، والذي يشكل بناؤه أولوية بالنسبة للكرملين.
   باختصار، فإن مزاجية الشخص واضطراب سلوكه ومواقفه، والذي توّجته موسكو بسرعة كبيرة “صديقها”، دفن رغبتها في إعداد خارطة طريق مشتركة طويلة المدى مع واشنطن، وحتى عقد “صفقات” ثنائية، وفقًا لتقدير ظروف.

  ومع ذلك، ورغم خيبة الأمل التي سببها ترامب، كانت موسكو تأمل في فوزه على بايدن حتى النهاية، وكأن بين الشرّين كان لا بد من اختيار الأقل. وهذا ما يفسر ان هزيمة ترامب اجبرت بوتين على الصمت في البداية: وقد أصر، رغم وضوح الصورة، على عدم الاعتراف رسميًا بانتصار بايدن.
   بعد ذلك، وبمجرد مرور رد الفعل الغريزي والفوري، انتهى الأمر بالكرملين الى الاعتراف وراء الكواليس باستعداده للتعاون مع السلطات الأمريكية الجديدة، وبشكل أساسي، في المجالات التي كانت القاعدة الثابتة للعلاقة بين البلدين لسنوات، مثل الأمن الدولي أو نزع السلاح.    هناك الكثير من الصيغ الدبلوماسية التي تشير إلى أن بايدن يمثّل العودة الى الوضع السابق، وأن موسكو لا تتوقع شيئًا جيدًا في السنوات الأربع المقبلة، من علاقاتها مع واشنطن، التي هي بالفعل في حالة سيئة.
   ومع ذلك، من الممكن اكتشاف سببين من أسباب الرضا المتواضع لبوتين في دخول جو بايدن إلى البيت الأبيض.

جو بايدن، رئيس أمريكي عملي عند موسكو؟
   أولاً، يأمل الرئيس الروسي في أن تفسح الرعونة المحيّرة لترامب، المستعد لتحطيم كل الرموز والأعراف بسعادة كبيرة، أن تفسح الطريق أمام “ما سبق ان خبرناه” المطمئن.
 فقد يشير انتصار بايدن إلى عودة الاستقرار الذي تسعى إليه الأنظمة السلطوية.
   ثانيًا، قد تبدو رئاسة بايدن، وهو الأكثر ميلا من سلفه لترويج الديمقراطية الليبرالية والحرية الفردية ودولة القانون في جميع أنحاء العالم، وخاصة في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، خبزًا مباركًا بالنسبة لـ “سيلوفيكي” (ممثلو “هياكل القوة”، أنصار الخط المتشدد في الدوائر العليا من السلطة الروسية).
   إنهم ينتظرون فقط رئيسًا أمريكيًا يأتي للتدخل في ملعبهم، ويدعوهم إلى احترام المبادئ المختلفة التي تعتبر “غربيّة” لفرض نهج أكثر قوة تجاه الولايات المتحدة. ووفقًا لنظرتهم، فإن إعادة إطلاق هذه المواجهة الخطابية يمكن أن تزيد من شعبية بوتين لدى ناخبيه، الذين جعلوا من مناهضة أمريكا راية الوطنية الروسية.

   بشكل عام، نحن نسير، دون شك، على المدى القريب، نحو توتر جديد في العلاقات الروسية الأمريكية بشأن القضايا الاستراتيجية، مثل سوريا والعراق وبيلاروسيا وأوكرانيا والأمن الأوروبي في ظل وصاية الناتو، حيث دعا جو بايدن وفريقه الدولي (ولا سيما أنطوني بلينكين، وزير الخارجية، وجون كيري، الممثل الخاص للرئيس لشؤون المناخ) بقوة إلى إعادة تفعيل الزعامة الأمريكية.
  ومع ذلك، تظهر أوجه تقارب محتملة أيضًا: رغبة جو بايدن في إحياء الاتفاقية النووية مع إيران، التي وقعها باراك أوباما، وتمديد “نيو ستارت”، وهي معاهدة ثنائية لخفض الأسلحة النووية الاستراتيجية، المبرمة عام 2010، ويُنظر إليها من موسكو على أنها قاعدة عمل للجهود الدبلوماسية المستقبلية.
 هناك أيضًا أمل في ألا يعيق الرئيس الأمريكي الجديد مشروع نورد ستريم 2، لتجنب خطر استعداء حلفائه الأوروبيين، وفي المقام الأول ألمانيا، التي تظل، بالنسبة لبايدن، حجر الزاوية في الاتحاد الأوروبي.

وماذا عن
خارج السلطة؟
  بينما تظل ردود أفعال موسكو الرسمية على انتخاب جو بايدن متباينة للغاية، يرى جزء من المجتمع المدني الروسي في ذلك بادرة أمل. وهكذا، فإن الرئيس السابق لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ميخائيل جورباتشوف، الحائز على جائزة نوبل للسلام وصانع البيريسترويكا، والذي يجسد بالنســــــبة لغالبية المثقفين الروس انفتاح البلاد على العالم، يؤكد أن الروابط الآن بين موسكو وواشنطن يمكن أن تتحسن.
  وحسب رأيه، فإن الرئيس الأمريكي الجديد، اقام في سراي الحزب الديمقراطي طيلة خمسة عقود، وهو “شخص امين وحكيم”، قادر على السماح، من بين أمور أخرى، بالتقدم في مجال نزع السلاح النووي.

   المعارض الروسي الرئيسي، أليكسي نافالني، الذي ازداد حضـــــوره في روســــــيا بعد تسممه في أغسطس الماضي، والذي تناقلته الشبكات الاجتماعية على نطاق واسع، يذهب إلى أبعد من ذلك:
في اليوم التالي للإعلان عن انتصار بايدن، قدم تهانيه في تغريدة للرئيس المنتخب ونائبه كامالا هاريس والأمريكيين، لأنهم “اختاروا اتجاها جديدا في انتخابات حرة ونزيهة».
   في الختام، من الواضح أن العلاقات الروسية الأمريكية السلمية دون مواجهة مباشرة ستكون، في هذه الأوقات العصيبة، بشرى سارة لعالم يبحث عن توازنات جديدة.