قضية خرجت للعلن بعد خمسة عشر عامًا

هكذا تستّرت الملكة إليزابيث على جاسوس سوفياتي في باكنغهام

هكذا تستّرت الملكة إليزابيث على جاسوس سوفياتي في باكنغهام

-- لم تكن المهام السرية الأربع التي نفذها بلانت بناءً على طلب الملك جورج السادس مدفوعة فقط بإعادة الأعمال الفنية إلى البلاد
-- جهاز الاستخبارات البريطاني إم آي 6 يشتبه منذ عام 1948 في وجود مندس أو أكثر في صفوفه
-- عام 0491، تم تجنيد بلانت من قبل جهاز المخابرات الداخلية البريطاني إم آي 5 وسيكون نشطًا حتى نهاية الحرب
-- كانت الملكة على علم منذ عام 1948، أي قبل ثماني سنوات من منحها لقب فارس إلى بلانت
-- عاش بلانت في عزلة طيلة ثلاث سنوات قبل أن يتعرض لأزمة قلبية عام 1983 في لندن


   كانت الملكة تعرف أن بلانت، أمين مجموعتها الفنية، كان عميلا مزدوجا.
 تم الكشف عن هذه القضية للعلن، وقد تم التستر عليها طيلة خمسة عشر عامًا، من قبل مارغريت تاتشر عام 1979.
   قبل وفاتها بعامين، قامت الملكة إليزابيث بزيارة مفاجئة إلى جهاز المخابرات الداخلية البريطاني إم آي 5.

تناولت الكلمة للإشادة بأعضاء المخابرات البريطانية وشكرتهم على التزامهم الذي لا يتزعزع، والوفاء لشعارهم “دافعوا عن المملكة”. كانت الملكة الراحلة دائمًا تقدر قيمة السرّ بشكل كبير، وتعرف كيفية التعامل معه إلى حد الكمال. وتقدم حلقة بلانت دليلاً قاطعًا على ذلك.    عام 1945، عيّن الملك جورج السادس أنتوني بلانت “1907-1983” أمينًا لمجموعات لوحات التاج الإنجليزي، وهي واحدة من أكبر المجموعات في العالم وأغناها. خريج جامعة كامبريدج هو مؤرخ فني مشهور. ابن عم الملكة من بعيد “الملكة الأم المستقبلية” التي يعشقها البريطانيون”، يحظى بلانت أيضًا بتقدير لشخصيته. لقد “أحبته العائلة المالكة: كان مهذبًا وكفؤًا وفوق هذا متكتما”، تكشف سيرته الذاتية.

وسيتضح أن تكتّمه وتحفّظه لسبب وجيه. عندما تولت ابنة الزوجين الملكيين مصير المملكة، بعد وفاة الملك، جدّدت ثقتها في بلانت، الذي سيحتفظ بمنصبه لأكثر من ربع قرن.
 ومع ذلك، نجا بأعجوبة. عام 1950، أكدت جاسوسة روسية استجوبها جهاز المخابرات الداخلية البريطاني إم آي 5، أن بلانت عضو نشط في الحزب الشيوعي.
تبخّرت رائحة الشك بسرعة كبيرة: بعد التدقيق، يتبين أن مؤرخ الفن لم ينخرط في الحزب قط. ولسبب وجيه ...
 تم ثنيه عن القيام بذلك في الثلاثينات من قبل صديقه والمجنّد، غاي بورغيس، الذي اعتقد -محقّا-أنّ البقاء بعيدًا سيسمح له بعدم لفت الانتباه إلى أنشطته أبدًا.

خماسي كامبريدج
   في البداية، ومن أجل دراسة الرياضيات، انضم بلانت إلى صفوف كلية ترينيتي المغلقة جدًا في كامبريدج عام 1926. ثم تفرّغ للغات الحديثة، وثبت إتقانه للغة الفرنسية والألمانية فيما بعد أنه مفيد لمهمته المزدوجة للتجسس وكمؤرخ للفن. سرعان ما انضم إلى جمعية سرية تم إنشاؤها عام 1820، وهي جمعية كامبريدج للمحادثة “المعروفة أيضًا باسمها المستعار “رسل كامبريدج».
   سيشرح جون غولدنغ، منفِّذ وصيّة بلانت، أنه في كامبريدج “لم يكن الجميع جاسوسًا، لكن الشيوعية كانت شائعة حقًا بين مثقفي الثلاثينات”.
 ووفق بلانت، في خريف عام 1933، “اقتحمت الماركسية كامبريدج».

   أزمة اقتصادية عززها انهيار سوق الأسهم، وخطر اندلاع حرب أهلية في إسبانيا، وصعود الفاشية: عشيرة المثقفين الشباب المثاليين قلقة.
النظام الشيوعي السوفياتي ينال إعجابهم، ويعتبرون الماركسية اللينينية البديل الصالح الوحيد ضد الفاشية.
 سيقنع اثنان من المجندين الرهيبين، أرنولد دويتش وإديث تيودور هارت، طلاب أكسفورد وكامبريدج للمرور الى الفعل.
   استخدم الناشط الشاب اللامع جاي بورغيس سحره لتجنيد صديقه أنتوني بلانت. وكتب هذا الأخير في مذكراته: “كان الجو في كامبريدج شديدًا للغاية، والحماس للأنشطة المناهضة للفاشية كبيرًا الى درجة أنني ارتكبت أكبر خطأ في حياتي”. كما أن وفاة خليله جوليان بيل، ابن شقيق الكاتبة فيرجينيا وولف، خلال معركة برونيتي في إسبانيا، عزّز قراره.

المتسللون
   مع ثلاثة طلاب آخرين، دونالد دوارت ماكلين “ابن وزير تعليم سابق”، وجون كيرنكروس وكيم فيلبي، سيشكلون كامبردج فايف. انضم بيرجس وفيلبي إلى جهاز الاستخبارات البريطاني إم آي 6 “جهاز المخابرات الأجنبية”، بينما أصبح ماكلين دبلوماسيًا في واشنطن.
 وكان هو الذي قدم، عام 1944، لستالين محضر الاجتماع السري الذي تم تنظيمه بين روزفلت وتشرشل.
   سيسمح كيرنكروس، المسؤول عن فك رموز الرسائل المشفرة لآلة إنجما في بلتشلي بارك أثناء الحرب، للاتحاد السوفياتي بالفوز في معركة كورسك. في غضون ذلك، حقق بلانت مسيرة رائعة جراء شغفه بالفن: التدريس في جامعة لندن، ليصبح في النهاية أحد أشهر مؤرخي الفن في العالم، وتولى منصب مدير معهد كورتولد.

عام 1940، تم تجنيد بلانت من قبل جهاز المخابرات الداخلية البريطاني إم آي 5. سيكون نشطًا هناك حتى نهاية الحرب.
تشير التقديرات إلى أنه نجح بين 1941 و1945 في إيصال أكثر من 1700 وثيقة إلى الاتحاد السوفياتي.
   مع اقتراب نهاية الحرب، دعا الملك جورج السادس أنتوني بلانت لمرافقته في رحلة سرية إلى القارة.
في أعقاب هذه المهمة، تم تعيين مؤرخ الفن والعميل المزدوج أمينًا لمجموعات لوحات الملك، ثم للملكة إليزابيث الثانية المتوّجة عام 1952. منحته لقب فارس بعد ذلك بعامين، بحصوله على الوسام الملكي الفيكتوري.

   تحت قيادة السير أنتوني بلانت، تتوسع المجموعة وتسافر وتنظم نفسها.
 فرض بلانت نفسه كخبير للرسام نيكولاس بوسين، الذي كرس له كتابًا لا يزال مرجعا، بالإضافة إلى معرض استعادي في متحف اللوفر عام 1960، لاقى نجاحًا هائلاً. بالقرب من الملكة الأم، حافظ أيضًا على علاقات ممتازة مع إليزابيث، التي كانت تقدر احترافه ومحادثاته المثقفة والمكانة المتزايدة التي منحها لمجموعاتها.

لا شرح لا تذمر
   منذ عام 1948، يشتبه جهاز الاستخبارات البريطاني إم آي 6 في وجود مندس، أو حتى أكثر، في صفوفه.
 بفضل تعاونهم مع وكالة المخابرات المركزية الامريكية، كشف أعوان الجهاز ماكلين وبورجيس عام 1951. ولما علما بافتضاح أمرهما، فرّا على الفور.
 وقد بلغ عدم تصديق بعض أعضاء الحكومة سقفا دفعهم الى محاولة الدفاع عن شرف ماكلين قبل إدراك الحقائق.
    وعلى الرغم من أن بلانت يدعي أنه توقف عن أنشطته التجسسية بعد عام 1945، إلا أنه يبدو قد احتفظ بدور في دائرة كامبردج فايف. كان هو نفسه مسؤولاً عن محو أي آثار تجريم في شقق اثنين من مساعديه، وساعدهما من خلال اقتراحه لهما بالفرار عبر فرنسا، التي لا يتطلب دخولها جواز سفر وهو ما فعلاه.

   لن يتم تفكيك مجموعة الخمس بالكامل الا بعد عدة سنوات. شعر فيلبي بتحول المد، وهرب بدوره إلى موسكو عام 1963.
 في الاتحاد السوفياتي، تم الاحتفال به كبطل. وسيوضح لاحقًا، أنه إذا كان قادرًا على مواصلة أنشطته دون قلق حقيقي، فذلك بفضل غطاء الصمت المطبق في الطبقة العليا البريطانية وخوفها من الفضيحة.
    يجب القول، إن البلاد كانت لا تزال ترتعد من الانفجار الذي حدث قبل عامين، في منتصف الحرب الباردة، بسبب قضية بروفومو -تقاسم وزير الدولة لشؤون الحرب جون بروفومو عشيقته الشابة مع جاسوس روسي دون علمها.  وسيستفيد بلانت من هذا التكتم المفروض.
   في أعقاب هروب فيلبي، بلّغ الأمريكي مايكل ستريت “ابن عم جور فيدال وجاكلين كينيدي” عن بلانت، الذي عمل معه في فترة ما كجاسوس. تم على الفور إبلاغ الملكة إليزابيث. والمثير للدهشة أنها قررت ألا تفعل شيئًا: لن يتم فصله -سيحتفظ بلانت بمنصبه حتى عام 1972 -ولن يُسحب لقبه. وبحسب ما ورد لم يعلم رئيس الوزراء آنذاك أليك دوغلاس هوم بالقصة.

أنقذه هتلر
    وهكذا تمكن المؤرخ من التفاوض بشأن حصانته مقابل الحصول على معلومات. في الواقع، هو مدين براحة البال إلى المعلومات التي يمتلكها عن العائلة المالكة.
    بين 1945 و1947، لم تكن المهام السرية الأربع التي قام بها أنتوني بلانت بناءً على طلب الملك جورج السادس مدفوعة بإعادة الأعمال الفنية إلى الوطن فحسب، بل كانت مدفوعة أيضًا باستعادة وثائق حساسة لن نعرف أبدًا ما تحتويه بالضبط. ذكر انها رسائل من الملكة فيكتوريا الشابة إلى حب الشباب، غير ان الرسائل التي كانت تقلق الملك الإنجليزي بشكل خاص عام 1945 هي تلك التي ستبرز تعاون شقيقه، دوق وندسور “الذي توج إدوارد الثامن لفترة وجيزة”، مع النظام النازي.
   وفقًا لهيو تريفور روبر، الذي عمل تحت إمرة كيم فيلبي في الأجهزة السرية، يتعلق الامر خاصة بمراسلات بين الدوق وهتلر على وجه الخصوص، حيث قدّم البريطاني معلومات من المرجح أن تساعد الفوهرر في إنهاء الحرب ضد الحلفاء. وكان الدوق يستعد لقطع العلاقات مع عائلته للاستقرار في ألمانيا النازية، وهو مشروع تم التخلي عنه أخيرًا لصالح فرنسا.
    وإذا تم الكشف عن هذه المعلومات علنًا، لكانت فضيحة غير مسبوقة تهزّ العائلة المالكة. وهكذا، فإن اعتماد السريّة سمح لبلانت بالاحتفاظ بمنصبه وحفظ المظاهر.
    تلتقي الملكة به من حين لآخر: في الأماكن العامة، وتستمر في دعم أعماله، حيث تظهر على سبيل المثال إلى جانبه أثناء افتتاح المعارض، أو صالات العرض الجديدة لمعهد كورتولد عام 1968، التي يديرها. والأمر الأكثر إثارة للدهشة، هو أنها كانت على علم قبل عام 1964.
   يكشف مؤلفو كتاب الأسرار الملكية: التجسس والتاج، الذي نُشر عام 2021، عن حكاية مزعجة.
 في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، رد سكرتير إليزابيث، تومي لاسيليس، على زائر يستفسر عن هويته عندما رأى أنتوني بلانت عند المنعطف في الرواق، “أوه، هذا هو جاسوسنا الروسي”. ووفق المؤلفين ألدريتش وكورماك، عرفت الملكة منذ عام 1948، قبل ثماني سنوات من تكريم بلانت، وقبل عامين من تبليغ الجاسوسة الروسية بانتمائه للحزب الشيوعي ...

مارجريت تاتشر
 تكشف المستور
   لن يتم افشاء السر، لأن اللورد تشامبرلين، لا يعلم بأنشطة بلانت التجسسية، كان سيقدم له عند تقاعده عرضا ليظل مستشارًا للمجموعات الملكية. الى ان كتب الصحفي الإسكتلندي أندرو بويل كتابًا عام 1979 بعنوان مناخ الخيانة: خمسة تجسسوا لصالح روسيا.
 يروي ملحمة الخمسة، دون أن يذكر اسم أنتوني بلانت، الذي يظهر تحت اسم مستعار موريس، تكريمًا لرواية إي إم فورستر “الذي سيطلق فيلمه نجومية ومسيرة هيو غرانت».
   مارغريت تاتشر، بعد أن أطلعتها أجهزة المخابرات، كشفته بالاسم خلال خطاب في مجلس العموم. بما يعزّز سمعتها كـ “السيدة الحديدية”، وهو لقب، من المفارقات، أطلقه عليها السوفيات.
في غضون ذلك، يقول بلانت إنه مندهش: “بسذاجة، اعتقدت أن الاجهزة السرية ستضمن، جزئيًا لمصلحتها الخاصة، أن هذه القصة لن تُنشر على الإطلاق. لذلك عدت إلى عملي، ليس فقط مرتاحًا بل واثقًا».
   تم فصله من منصبه بعد معهد كورتولد وتجريده من لقب فارس. انحاز الرأي العام إلى النائب هاميلتون، الذي غضب: “بريطانيا بلد يضع خونة عاديين في السجن لكنه يترك السادة الخونة في قصر باكنغهام!».
   عاش بلانت في عزلة طيلة ثلاث سنوات قبل أن يتعرض لأزمة قلبية عام 1983 في لندن.
خلال سنواته المظلمة، كان يفكر في إمكانية الانتحار الا انه فضّل كتابة مذكراته. بعد وفاة بلانت، احالها غولدنغ للمكتبة البريطانية بشرط ألا يتم إتاحتها للجمهور إلا بعد مرور خمسة وعشرين عامًا، اي عام 2009... ويمكن الآن قراءتها عبر الإنترنت.