أصبحت مختبرًا للمروجين والباحثين

هكذا تكتسح السلطوية أوروبا الوسطى...!

هكذا تكتسح السلطوية أوروبا الوسطى...!

-- لا تخلو هذه التحولات من عواقب بالنسبة للاتحاد الأوروبي
-- الاقتصاد جزء من برنامج التحول الشامل باسم السيادة
-- تغيّر الأفكار الجديدة، بدرجات متفاوتة، السياسة والاقتصاد والمجتمع
-- عادت الأفكار المناهضة لليبرالية إلى الظهور لإضفاء الشرعية على بناء نظام سياسي جديد
-- أصبح الغرب، الذي طالما مارس قوة جذب، هدفًا للنقد لأنه يُقدّم كمصدر لانحطاط «القيم الحقيقية»
-- عملية التحول هذه ليست موحدة، إنها تدريجية أو متسارعة، حسب سلطة من يروّج للتغيير الجذري للمجتمع


   بعد سقوط الشيوعية، تمّ الاحتفاء بانتصار الديمقراطية في كل من الشرق والغرب، واعتماد النموذج النيوليبرالي دون معارضة كبيرة. وبعد ثلاثة عقود، كما تشير على موقع ذي كونفرساسيون، رامونا كومان، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ليبر دي بروكسيل، عادت الأفكار المناهضة لليبرالية إلى الظهور من جديد لإضفاء الشرعية على بناء نظام سياسي جديد.
   وتشير التطورات في بلدان أوروبا الوسطى، إلى أن التحول الديمقراطي ليس خيارا لا رجعة فيه، مثلما يؤكده صعود السلطوية في المجر أو بولندا أو جمهورية التشيك.

   في كتابه “قارة الظلام. تاريخ أوروبا في القرن العشرين”، قدم مارك مازور، تاريخ القرن الماضي على أنه تاريخ قيم متضاربة. فقد غيرت الأيديولوجيات الثلاثة المهيمنة -الديمقراطية الليبرالية، والشيوعية، والفاشية -الدول والمؤسسات والمجتمعات والناس.
    بشّر عام 1989 بانتصار الديمقراطية الليبرالية وقيمها. وبدأت دولة القانون في الظهور كمبدأ رئيسي للغة المشتركة الجديدة للمنظمات الدولية، الباحثة عن هوية جديدة ونموذج جديد.

مستعجلة إنهاء خمسة عقود من الشيوعية، قررت النخب السياسية الجديدة في بلدان وسط وشرق أوروبا، العودة إلى أوروبا والاندماج في الاقتصاد العالمي، والعضوية في الاتحاد الأوروبي، كمشروع وطني يتمتع بدعم سياسي واجتماعي لا يتزعزع.
   وبعد ثلاثة عقود، عادت الأفكار المناهضة لليبرالية إلى الظهور لإضفاء الشرعية على بناء نظام سياسي جديد. وماذا عن اليوم؟

أوروبا الوسطى والديمقراطية
 الليبرالية: مفارقة
   لقد تم الاحتفاء بانتصار الديمقراطية في كل من الشرق والغرب، واتباع النموذج النيوليبرالي بصرامة دون مواجهة تحديات كبيرة رغم الآثار الدراماتيكية للإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، والانتقال من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق.
   ورغم قساوة الإصلاحات، فإن الأمل في حياة أفضل بعد عقود من الحرمان بجميع أنواعه -اختلف من دولة إلى أخرى نظرًا لعدم تجانس الأنظمة الشيوعية -قد ضمن شرعية كبيرة وسلمًا اجتماعية، على الأقل في أوائل التسعينات.
   وبينما لم تسلم الليبرالية الجديدة في أوروبا الغربية، من الانتقادات المختلفة، كان في الشرق، صمود المجتمعات يتناقض مع آثار عملية التحول المعقدة والقصور في تفسيرها وسوء إدارتها وعدم اتساقها، متجاوزة أحيانًا ما طالبت به المنظمات الدولية أو الاتحاد الأوروبي مقابل العضوية في صفوفها.

   وأصبحت أوروبا الوسطى والشرقية، مثل أمريكا اللاتينية أو إفريقيا من قبل، مختبرًا، سواء للذين يروجون لهذه اللغة المشتركة الجديدة، او للباحثين الذين يدرسونها بكل تعقيداتها.
   بعد ثلاثة عقود، كشفت أوروبا الوسطى والشرقية عن سلسلة من المفارقات. تتميز المنطقة دائمًا بتنوع سياسي واقتصادي واجتماعي كبير، وتلفت الانتباه بسبب انتشار الأفكار المناهضة لليبرالية، والتي يتم تقديمها على أنها جوهر نموذج جديد من المرجح أن يضفي الشرعية على عملية جذرية للتحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي: “ثورة مضادة”، كما أعلنها ياروسلاف كاتشينسكي في بولندا، أو ظهور ديمقراطية “غير ليبرالية”، والتي يطرحها فيكتور أوربان كرؤية سياسية في المجر ردًا على عقود من التحول الديمقراطي وأوربة في المنطقة.

سرديّة ظاهريا موحدة كمصدر للشرعية
   إن التحولات التي تحدث في أوروبا الوسطى والشرقية لا تظهر فقط أن الدمقرطة ليست عملية غير مؤكدة، وانما قابلة للنقض والتراجع أيضًا. لأكثر من عشر سنوات، فازت سلسلة من الأحزاب في الانتخابات ببرامج تطرح مفهومًا جديدًا للسلطة، ورؤية جديدة للمجتمع، وترفض التعددية الثقافية، والتعددية، وتروج لأشكال من القومية الاقتصادية دون القطع مع الليبرالية الجديدة، والطعن في شرعية المنظمات الدولية والاتحاد الأوروبي باسم السيادة ومفهوم الأغلبية للديمقراطية، والذي سيكون تعبيرا عن الإرادة الشعبية.

فيكتور أوربان يقارن الاتحاد الأوروبي بالاتحاد السوفياتي
  تكتسب الأفكار المناهضة لليبرالية أرضية وتغيّر، بدرجات متفاوتة، السياسة والاقتصاد والمجتمع. هذا هو الحال في المجر حيث فيكتور أوربان في ولايته الثالثة منذ عام 2010؛ وفي بولندا، حيث يهدف حزب القانون والعدالة إلى إحداث تحول عميق في الجمهورية؛ أو في جمهورية التشيك، حيث يعتبر الحزب الاشتراكي الديمقراطي بقيادة ميلوس زيمان، وحزب أندريه بابيس أنو، الناطقان الرسميان للخطاب الشعبوي التكنوقراطي الذي يخفي مفهوما لسلطة مركزية من أجل تحقيق الكفاءة الإدارية.

   في رومانيا، تعرض الاشتراكيون الديمقراطيون لانتقادات حادة بسبب طموحهم لإلغاء تجريم بعض أعمال الفساد ومسح السجلات الجنائية لبعض أعضائهم.
وأدى الضغط الاجتماعي والاحتجاجات العديدة في بوخارســـت وأماكن أخرى من البلاد إلى وقف هذه الخطط، لكن لا تزال العدالة ضعيفة بسبب المصالح السياسية المختلفة.
   وإذا كان الاشتراكيون الديمقراطيون الرومانيون غالبًا ما يشار الى انهم ينشرون خطابا مشكّكا في أوروبا ومناهضا لليبرالية، فمن الواضح أن هذا الخطاب ليس حكرا عليهم اذ يتم الترويج له على نطاق واسع من قبل الأحزاب الرومانية الأخرى.

   تنتمي هذه الأحزاب، على المستوى الأوروبي، إلى عائلات سياسية مختلفة، ولكنها تشترك في سرديّة مشتركة تهدف إلى شرح المشاكل التي تواجه مجتمعات أوروبا الشرقية من خلال إسناد المسؤولية إما إلى الشيوعيين السابقين الفاسدين والليبراليين “عملاء الرأسمالية العالمية، أو للمنظمات الدولية والاتحاد الأوروبي التي قوضت استقلال الدول. ان الغرب، الذي طالما مارس قوة جذب، أصبح هدفًا للنقد لأنه يُقدم كمصدر لانحطاط “القيم الحقيقية”. هذه السرديّة ليست جديدة، لكن تحويلها إلى برنامج عمل هو الذي يثير العديد من الأسئلة.

تحولات سريعة أو بطيئة بتأثيرات مختلفة
   عملية التحول هذه ليست موحدة، إنها تدريجية أو متسارعة، حسب السلطة التي يتمتع بها المروجون للتحول الجذري للمجتمع. إنها واضحة أو ضمنية، وتتم تغطيتها في وسائل الإعلام في بولندا والمجر ورومانيا، وبنسبة أقل في بلغاريا أو جمهورية التشيك أو سلوفاكيا.
   في بعض البلدان، تعتبر التحولات المؤسسية كبيرة. في المجر، تم اعتماد دستور جديد، بالإضافة إلى العديد من القوانين التي غيرت أداء المؤسسات القضائية، أو غيرت قواعد اللعبة السياسية، مثل قوانين الانتخابات. وتم تعزيز قبضة السلطة التنفيذية على حساب البرلمان والسلطة القضائية. وفي بولندا، لا يتمتع حزب القانون والعدالة بأغلبية قوية مثل فيكتور أوربان في المجر، ولهذا السبب تم اعتماد بعض الإصلاحات في انتهاك للدستور.
   الاقتصاد جزء من برنامج التحول الشامل هذا باسم السيادة. بعد انتخابه، أعلن فيكتور أوربان عن طموحه في أن يرى المجر تتخلص من البنوك الأجنبية والبيروقراطيين. كما أعربت الحكومة البولندية عن طموحها في “إعادة تأميم” الاقتصاد والقطاع المصرفي.

   تم تبني سياسات جديدة -مختلفة للغاية -في المجال الاجتماعي. نفذت بولندا برنامجًا اجتماعيًا لصالح الأسر، وفي المجر حدّ فيكتور أوربان من الحقوق الاجتماعية والاستثمار الاجتماعي. وإذا كانت السياسات التي نُفِّذت في بولندا تبدو وكأنها برامج شاملة تدعم   “الخاسرين” في التحول الاقتصادي الثقيل الذي أعقب عام 1989، فإنها في الواقع تستند إلى أفكار محافظة. وإذا كان حزب ياروسلاف كاتشينسكي بعد انتخابه قد حقق أحد الوعود الكبرى للحملة الانتخابية -أي تنفيذ برنامج “500 +”، أي 116 يورو من المخصصات الممنوحة لكل عائلة -، فإن تدابير أخرى تهدف إلى تقييد الحقوق بشدة، مثل إلغاء قانون الحق في الإجهاض.

  إن المجتمع ككل هو في قلب هذا المسار. يطفو مفهوم أكثر تقييدًا للأمة. ويتم تقوية الروابط بين الأحزاب والمجتمع إما من خلال اختيار هذه الأحزاب للمنظمات والمثقفين المحافظين، أو من خلال الخيار المشترك وإنشاء شبكات من الفاعلين الاقتصاديين.    ولا تخلو هذه التحولات من عواقب بالنسبة للاتحاد الأوروبي، حيث يمر بالعديد من الأزمات والصراعات المختلفة، الناتجة عن الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة العمق، والتوترات حول قضايا مجتمعية مثل الدين والأسرة، والتعددية الثقافية، والنوع الاجتماعي، وبشكل أعم، الديمقراطية ودولة القانون.

  ومن المؤكد أن هذه التحولات تؤدي إلى حضور أكبر وتسييس متزايد للقضايا الأوروبية والوطنية. ومع ذلك، فإن الخطر يكمن في رؤية اتساع الهوّة بين المجتمعات المستقطبة بشكل متزايد، والتي تحكمها نخب تضع في قلب مفهومها للسياسة القول المأثور القديم “فرق تسد».
* رئيسة معهد الدراسات الأوروبية في جامعة بروكسل الحرة وأستاذة العلوم السياسية في كلية الفلسفة والعلوم الاجتماعية في جامعة بروكسل الحرة.