شهد تحوّلا عميقا للمملكة
وفاة إليزابيث الثانية أو نهاية «عهد جديد»...!
-- دراسة حياتها تعني التساؤل ليس فقط عن التطور الذي شهده النظام الملكي، ولكن أيضًا عن التحول العميق للمملكة نفسها
-- ما هو تأثير وفاتها على الحنين الذي يسود سياسة الجناح اليميني البريطاني المعاصرة؟
-- شهدت فترة إليزابيث الثانية أسرع توسع تكنولوجي وأكبر تغيرات اجتماعية وسياسية دراماتيكية في المملكة المتحدة
-- مكّنت وسائل التواصل الاجتماعي النظام الملكي من الوصول إلى جيل الشباب
-- يرث تشارلز الثالث دولة لا علاقة لها بما كانت عليه عندما اعتلت والدته العرش
عندما اعتلت الملكة إليزابيث الثانية العرش عام 1952، كان تأثير الحرب العالمية الثانية، التي انتهت قبل سبع سنوات فقط، لا يزال محسوسًا بقوة في المملكة المتحدة. لا تزال أعمال إعادة الإعمار مستمرة، ويتواصل تقنين الضروريات مثل السكر والبيض والجبن واللحوم لنحو عام آخر.
لكن التقشف القسري في الأربعينات، أعقبته عشرية خمسينيات أكثر ازدهارًا.
لذا، ربما لا عجب أن يتم الترحيب بتتويج عام 1952 باعتباره إيذانًا بعصر إليزابيثي جديد. لقد كان المجتمع يتغير، والآن على رأسه ملكة شابة وجميلة.
بعد سبعين عامًا، لم تعد البلاد كما هي. فمن بين جميع العهود في التاريخ البريطاني، ربما كانت فترة إليزابيث الثانية هي التي شهدت أسرع توسع تكنولوجي للمملكة المتحدة، وأكبر تغيّرات اجتماعية وسياسية دراماتيكية. إن دراسة حياة إليزابيث الثانية يعني التساؤل ليس فقط عن التطور الذي شهده النظام الملكي خلال هذه الفترة، ولكن أيضًا عن التحول العميق للمملكة نفسها خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين.
«بريطانيا العالمية»
إذا كانت فترة حكم إليزابيث الأولى “1559-1603” فترة توسع وغزو وسيطرة استعمارية، فإن “العصر الإليزابيثي الجديد” كان، على العكس من ذلك، عصر إنهاء الاستعمار وفقدان الإمبراطورية.
عندما اعتلت إليزابيث الثانية العرش عام 1952، كانت آخر بقايا الإمبراطورية البريطانية لا تزال سليمة. حصلت الهند على استقلالها عام 1947، وسرعان ما تبعتها دول أخرى في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وعلى الرغم من وجوده منذ عام 1926، فإن الكومنولث يعمل بموجب مبادئ إعلان لندن لعام 1949، الذي يجعل الدول الأعضاء “حرة ومتساوية”، وإن وجوده في حد ذاته يمنح الملكية مظهرًا خادعًا للقوة الاستعمارية نظرًا لأن جميع الدول الأعضاء فيه يجمعها تاريخ مشترك يرتبط بالإمبراطورية ، ويستمر استمرار الكومنولث في استثمار قوة رمزية للعاهل البريطاني.
احتل الكومنولث مكانة بارزة في حفل التتويج عام 1953: ابرزت العديد من البرامج التلفزيونية الاحتفالات التي نظمت بهذه المناسبة في دول الكومنولث، والفستان الذي ارتدته الملكة في ذلك اليوم مزين برموز أزهار الدول الأعضاء. وطوال فترة حكمها، ستولي إليزابيث الثانية دائمًا اهتمامًا خاصًا بالكومنولث.
لن يخلو التاريخ الاستعماري للكومنولث من التأثير على المناقشات التي سبقت التصويت على البريكسيت، وغالبًا ما تم الاستشهاد به في المشاريع القومية التي يطرحها معسكر “المغادرة” -وهي المشاريع التي اعتبر المؤرخ بول جيلروي أنها مطبوعة بشكل ما بـ “حزن ما بعد الاستعمار».
لقد كانت إليزابيث الثانية التجسيد الحي للرواقية البريطانية و”روح الحرب الخاطفة” والقوة الإمبريالية للمملكة المتحدة -جميع المفاهيم التي استند إليها خطاب البريكست إلى حد كبير. فما هو تأثير وفاتها على الحنين الذي يسود سياسة الجناح اليميني البريطاني المعاصرة؟
وسائل الإعلام
والنظام الملكي
خلال تتويج إليزابيث الثانية، ورد أن ونستون تشرشل، رئيس الوزراء آنذاك، عارض فكرة بث الحفل على الهواء مباشرة على شــــــاشة التلفزيون، معتقدًا أن “الترتيبات الميكانيكية الحديثة” من شأنها أن تنتقص من سحر التتويج، وأن الجوانب “الدينية والروحية” لا ينبغي أن تعرض كما لو كانت مسرحية «.
كان التلفزيون تقنية جديدة في ذلك الوقت، وكان يُخشى أن يدخل البث التلفزيوني للحفل كثيرًا في خصوصية العائلة المالكة. وعلى الرغم من هذه المخاوف، حقق حفل التتويج نجاحًا كبيرًا. ووجد المشروع البحثي “الوسائط وذاكرة ويلز” أن التتويج لعب دورًا تكوينيًا في ذكريات الناس المبكرة عن التلفزيون، وحتى البريطانيين الذين لم يكونوا ملَكيين متدينين يمكنهم تقديم وصف مفصل لهذا اليوم.
لطالما تم نشر الصورة الملكية اعلاميا، صورة الملك على العملات المعدنية إلى الصور الرسمية. وفي عهد إليزابيث الثانية، خضعت هذه الحملة الاعلامية لتطور جذري، من ظهور التلفزيون إلى الشبكات الاجتماعية وصحافة المواطنة (عمليات مرتبطة بإرساء الديمقراطية في البلاد والمشاركة المتزايدة للسكان في الحياة العامة)، مروراً بالصحف الشعبية والمصورين... لم يكن النظام الملكي في دائرة الضوء من قبل.
في كتابي إدارة شركة العائلة: كيف يدير النظام الملكي صورته وأموالنا، أزعم أن الملكية البريطانية تعتمد على توازن دقيق بين التّجلّي والتخفّي لإعادة إنتاج سلطتها. يمكن أن تكون العائلة المالكة مرئية في أشكال مذهلة (احتفالات الدولة) أو أشكال عائلية (حفلات الزفاف الملكية، والأطفال الملكيين) ، لكن يجب أن تظل الأعمال الداخلية للمؤسسة سرية.
سعى النظام الملكي طوال فترة حكم الملكة إلى الحفاظ على هذا التوازن. مثال جيد على ذلك قدمه الفيلم الوثائقي الشهير بي بي سي-أي تي عام 1969، “العائلة المالكة”، الذي استخدم التقنيات الجديدة لـ “سينما الحقيقة” لمتابعة النظام الملكي لمدة عام -ما نسميه اليوم تلفزيون الواقع «.
يمنحنا هذا الفيلم الوثائقي الذي تبلغ مدته 90 دقيقة نظرة ثاقبة للمشاهد المحلية، مثل حفلات الشواء العائلية أو زيارة الملكة لمحل حلويات مع الأمير إدوارد الشاب. حقت “العائلة المالكة” نجاحًا كبيرًا في الشعبية، ولكن بالنسبة لعدد من المراقبين، كان أسلوب التلصص يهدد بتقويض غموض النظام الملكي. بالمناسبة، قام قصر باكنغهام بتحرير الفيلم الوثائقي، مما جعله غير متاح لعامة الناس لسنوات، وظلت 43 ساعة من اللقطات المصورة غير مستخدمة.
«الاعترافات الملكية”، المستوحاة من “ثقافة المشاهير”، والتي تستند إلى الكشف عن التفاصيل الحميمة، طاردت النظام الملكي في العقود الأخيرة. ولعل أبرز هذه الاعترافات كانت مقابلة ديانا البانورامية عام 1995، والتي تحدثت فيها صراحة عن الخيانة في علاقتها بتشارلز، ومكائد القصر التي عانت منها، وتدهور صحتها العقلية والجسدية.
في الآونة الأخيرة، في مقابلة مع أوبرا وينفري، أدلى الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل بتصريحات قاسية للغاية بشأن العائلة المالكة، التي اتهموها على وجه الخصوص بالعنصرية. وكشفت هذه المقابلات عن طريقة عمل المؤسسة، وكسرت توازن التجلّي - والتخفي.
مثل بقية العالم، فإن للنظام الملكي الآن حسابات على معظم منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية في المملكة المتحدة. وربما يكون حساب دوق ودوقة كامبريدج على الإنستغرام، الذي يُدار بالنيابة عن الأمير ويليام وكيت ميدلتون وأطفالهما، هو المثال الأكثر وضوحًا على “الأسرة” الملكية المعاصرة.
تبدو الصور طبيعية، مرتجلة وغير رسمية، ويتم تقديمها على أنها “ألبوم صور عائلي” لكامبريدج، حيث تقدم لمحات “حميمية” عن حياتهم اليومية. ومع ذلك، كما هو الحال مع أي أداء ملكي، يتم تنظيم هذه الصور بدقة.
أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي النظام الملكي الوصول إلى جيل الشباب، الذي يميل أكثر إلى التمرير عبر صور العائلة المالكة على تطبيقات الهاتف بدلاً من قراءة الصحف. فكيف سيكون رد فعل هذا الجيل على وفاة الملكة؟
أفراد العائلة المالكة والشخصيات السياسية
صعدت الملكة إلى العرش خلال فترة تحول سياسي جذري. حقق حزب العمال بزعامة كليمنت أتلي فوزًا ساحقًا في الانتخابات العامة لعام 1945، والتي بدا أنها تشير إلى أن الناخبين يريدون تغييرًا عميقًا. عام 1948، وعد إنشاء الخدمة الصحية الوطنية، وهي عنصر مركزي في دولة الرفاهية ما بعد الحرب، للبريطانيين بدعم الدولة مدى الحياة.
استعاد حزب ونستون تشرشل المحافظ الأغلبية في البرلمان عام 1952. ناشد تشرشل جمهورًا أكثر تقليدية وإمبريالية وملكية. ويتجلى التناقض بين هذه الأيديولوجيات في ردود الفعل على تتويج الملكة في يونيو 1953. توضيح من بين أمور أخرى: رسم كاريكاتوري لرسام الكاريكاتير ديفيد لو، بعنوان “الصباح التالي”، يصور بقايا حفل فخم (لافتات، زجاجات شمبانيا ... ) مرفق بنص يقول “100.000.000 جنيه إسترليني تم إنفاقها” ،
نُشر في صحيفة مانشستر جارديان في 3 يونيو 1953. تلقت الصحيفة بسرعة 600 رسالة تدين “الذوق السيئ” للرسم.
في الثمانينات، بدأت حكومة مارجريت تاتشر المحافظة في التفكيك المنهجي لدولة الرفاهية ما بعد الحرب، وتعزيز التجارة الحرة النيوليبرالية، والتخفيضات الضريبية والفردية.
في سنوات “بريطانيا الرائعة” لتوني بلير في بداية الألفية الجديدة، كانت الملكة امرأة مسنة. وكانت الأميرة ديانا “أميرة الشعب”، التي سلطت “أصالتها” الضوء على “انفصال” النظام الملكي عن المجتمع.
عام 2000، بعد ثلاث سنوات من وفاة ديانا، كان دعم النظام الملكي في أدنى مستوياته. اعتقد عامة الناس أن الملكة قد تصرفت بشكل غير لائق، وأنها لم تجد طريقة للرد على آلام رعاياها، وأنها فشلت في “تمثيل شعبها”. نتذكر هذا العنوان الرئيسي من لاكسبريس: “أظهري لنا اهتمامك: المشيعون يطلبون من الملكة أن تقود حدادنا».
انتهى بها الأمر إلى كسر حاجز الصمت بإلقاء خطاب متلفز أكدت فيه دورها كجدّة، مشغولة “بمساعدة” ويليام وهاري في حدادهما وحزنهما. واستمرت في لعب دور الجدة هذا بعد ذلك: في الصور المنشورة بمناسبة عيد ميلادها 90 عام 2016، التي التقطتها آني ليبوفيتز، تجلس الملكة في إطار أسرى، ويحيط بها أصغر أحفادها.
والآن؟
هذه هي صورة الملكة التي يتذكرها الكثيرون: امرأة مسنة، ترتدي ملابس أنيقة، تمسك حقيبة يدها الشهيرة والمألوفة. وعلى الرغم من أنها كانت رئيسة للدولة خلال العديد من التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية الزلزالية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، إلا أن حقيقة أنها نادراً ما عبّرت عن آرائها السياسية تعني أنها تمكنت من الحفاظ طوال حياتها على الحياد السياسي المفروض دستوريًا على العاهل.
كما حرصت على أن تظل أيقونة. لم يكن لديها حقًا “شخصية”، على عكس أفراد العائلة المالكة الآخرين، الذين دخلوا في علاقة حب وكراهية مع الجمهور لأنه يعرف المزيد والمزيد عنهم.
ظلت الملكة صورة: فهي فعلا أكثر الشخصيات تمثيلا في التاريخ البريطاني. طيلة سبعة عقود، لم يتمكن البريطانيون من إجراء عملية شراء نقدية دون مواجهة وجهها. وتوضح هذه الممارسة اليومية العادية تشابك النظام الملكي -والملكة -في الحياة اليومية لسكان المملكة المتحدة.
لا يمكن لوفاة الملكة إلا أن تحفّز البلاد على التفكير في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وسيخبرنا المستقبل كيف سيكون عهد تشارلز الثالث، ولكن هناك أمر واحد مؤكد:
لقد ولّى “العصر الإليزابيثي الجديد” منذ زمن طويل. تتعافى المملكة حاليًا من عمليات القطع الأخيرة في الوضع القائم الذي اعتادت عليه -من البريكسيت إلى جائحة كوفيد -19، إلى الدعوات المستمرة لاستقلال اسكتلندا.
ويرث تشارلز الثالث دولة لا علاقة لها بما كانت عليه عندما اعتلت والدته العرش. فماذا سيكون وزن المؤسسة الملكية، مع تشارلز الثالث بصفته الحاكم الجديد، في مستقبل المملكة المتحدة؟
*أستاذة محاضرة في الإعلام، جامعة لانكستر
-- ما هو تأثير وفاتها على الحنين الذي يسود سياسة الجناح اليميني البريطاني المعاصرة؟
-- شهدت فترة إليزابيث الثانية أسرع توسع تكنولوجي وأكبر تغيرات اجتماعية وسياسية دراماتيكية في المملكة المتحدة
-- مكّنت وسائل التواصل الاجتماعي النظام الملكي من الوصول إلى جيل الشباب
-- يرث تشارلز الثالث دولة لا علاقة لها بما كانت عليه عندما اعتلت والدته العرش
عندما اعتلت الملكة إليزابيث الثانية العرش عام 1952، كان تأثير الحرب العالمية الثانية، التي انتهت قبل سبع سنوات فقط، لا يزال محسوسًا بقوة في المملكة المتحدة. لا تزال أعمال إعادة الإعمار مستمرة، ويتواصل تقنين الضروريات مثل السكر والبيض والجبن واللحوم لنحو عام آخر.
لكن التقشف القسري في الأربعينات، أعقبته عشرية خمسينيات أكثر ازدهارًا.
لذا، ربما لا عجب أن يتم الترحيب بتتويج عام 1952 باعتباره إيذانًا بعصر إليزابيثي جديد. لقد كان المجتمع يتغير، والآن على رأسه ملكة شابة وجميلة.
بعد سبعين عامًا، لم تعد البلاد كما هي. فمن بين جميع العهود في التاريخ البريطاني، ربما كانت فترة إليزابيث الثانية هي التي شهدت أسرع توسع تكنولوجي للمملكة المتحدة، وأكبر تغيّرات اجتماعية وسياسية دراماتيكية. إن دراسة حياة إليزابيث الثانية يعني التساؤل ليس فقط عن التطور الذي شهده النظام الملكي خلال هذه الفترة، ولكن أيضًا عن التحول العميق للمملكة نفسها خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين.
«بريطانيا العالمية»
إذا كانت فترة حكم إليزابيث الأولى “1559-1603” فترة توسع وغزو وسيطرة استعمارية، فإن “العصر الإليزابيثي الجديد” كان، على العكس من ذلك، عصر إنهاء الاستعمار وفقدان الإمبراطورية.
عندما اعتلت إليزابيث الثانية العرش عام 1952، كانت آخر بقايا الإمبراطورية البريطانية لا تزال سليمة. حصلت الهند على استقلالها عام 1947، وسرعان ما تبعتها دول أخرى في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وعلى الرغم من وجوده منذ عام 1926، فإن الكومنولث يعمل بموجب مبادئ إعلان لندن لعام 1949، الذي يجعل الدول الأعضاء “حرة ومتساوية”، وإن وجوده في حد ذاته يمنح الملكية مظهرًا خادعًا للقوة الاستعمارية نظرًا لأن جميع الدول الأعضاء فيه يجمعها تاريخ مشترك يرتبط بالإمبراطورية ، ويستمر استمرار الكومنولث في استثمار قوة رمزية للعاهل البريطاني.
احتل الكومنولث مكانة بارزة في حفل التتويج عام 1953: ابرزت العديد من البرامج التلفزيونية الاحتفالات التي نظمت بهذه المناسبة في دول الكومنولث، والفستان الذي ارتدته الملكة في ذلك اليوم مزين برموز أزهار الدول الأعضاء. وطوال فترة حكمها، ستولي إليزابيث الثانية دائمًا اهتمامًا خاصًا بالكومنولث.
لن يخلو التاريخ الاستعماري للكومنولث من التأثير على المناقشات التي سبقت التصويت على البريكسيت، وغالبًا ما تم الاستشهاد به في المشاريع القومية التي يطرحها معسكر “المغادرة” -وهي المشاريع التي اعتبر المؤرخ بول جيلروي أنها مطبوعة بشكل ما بـ “حزن ما بعد الاستعمار».
لقد كانت إليزابيث الثانية التجسيد الحي للرواقية البريطانية و”روح الحرب الخاطفة” والقوة الإمبريالية للمملكة المتحدة -جميع المفاهيم التي استند إليها خطاب البريكست إلى حد كبير. فما هو تأثير وفاتها على الحنين الذي يسود سياسة الجناح اليميني البريطاني المعاصرة؟
وسائل الإعلام
والنظام الملكي
خلال تتويج إليزابيث الثانية، ورد أن ونستون تشرشل، رئيس الوزراء آنذاك، عارض فكرة بث الحفل على الهواء مباشرة على شــــــاشة التلفزيون، معتقدًا أن “الترتيبات الميكانيكية الحديثة” من شأنها أن تنتقص من سحر التتويج، وأن الجوانب “الدينية والروحية” لا ينبغي أن تعرض كما لو كانت مسرحية «.
كان التلفزيون تقنية جديدة في ذلك الوقت، وكان يُخشى أن يدخل البث التلفزيوني للحفل كثيرًا في خصوصية العائلة المالكة. وعلى الرغم من هذه المخاوف، حقق حفل التتويج نجاحًا كبيرًا. ووجد المشروع البحثي “الوسائط وذاكرة ويلز” أن التتويج لعب دورًا تكوينيًا في ذكريات الناس المبكرة عن التلفزيون، وحتى البريطانيين الذين لم يكونوا ملَكيين متدينين يمكنهم تقديم وصف مفصل لهذا اليوم.
لطالما تم نشر الصورة الملكية اعلاميا، صورة الملك على العملات المعدنية إلى الصور الرسمية. وفي عهد إليزابيث الثانية، خضعت هذه الحملة الاعلامية لتطور جذري، من ظهور التلفزيون إلى الشبكات الاجتماعية وصحافة المواطنة (عمليات مرتبطة بإرساء الديمقراطية في البلاد والمشاركة المتزايدة للسكان في الحياة العامة)، مروراً بالصحف الشعبية والمصورين... لم يكن النظام الملكي في دائرة الضوء من قبل.
في كتابي إدارة شركة العائلة: كيف يدير النظام الملكي صورته وأموالنا، أزعم أن الملكية البريطانية تعتمد على توازن دقيق بين التّجلّي والتخفّي لإعادة إنتاج سلطتها. يمكن أن تكون العائلة المالكة مرئية في أشكال مذهلة (احتفالات الدولة) أو أشكال عائلية (حفلات الزفاف الملكية، والأطفال الملكيين) ، لكن يجب أن تظل الأعمال الداخلية للمؤسسة سرية.
سعى النظام الملكي طوال فترة حكم الملكة إلى الحفاظ على هذا التوازن. مثال جيد على ذلك قدمه الفيلم الوثائقي الشهير بي بي سي-أي تي عام 1969، “العائلة المالكة”، الذي استخدم التقنيات الجديدة لـ “سينما الحقيقة” لمتابعة النظام الملكي لمدة عام -ما نسميه اليوم تلفزيون الواقع «.
يمنحنا هذا الفيلم الوثائقي الذي تبلغ مدته 90 دقيقة نظرة ثاقبة للمشاهد المحلية، مثل حفلات الشواء العائلية أو زيارة الملكة لمحل حلويات مع الأمير إدوارد الشاب. حقت “العائلة المالكة” نجاحًا كبيرًا في الشعبية، ولكن بالنسبة لعدد من المراقبين، كان أسلوب التلصص يهدد بتقويض غموض النظام الملكي. بالمناسبة، قام قصر باكنغهام بتحرير الفيلم الوثائقي، مما جعله غير متاح لعامة الناس لسنوات، وظلت 43 ساعة من اللقطات المصورة غير مستخدمة.
«الاعترافات الملكية”، المستوحاة من “ثقافة المشاهير”، والتي تستند إلى الكشف عن التفاصيل الحميمة، طاردت النظام الملكي في العقود الأخيرة. ولعل أبرز هذه الاعترافات كانت مقابلة ديانا البانورامية عام 1995، والتي تحدثت فيها صراحة عن الخيانة في علاقتها بتشارلز، ومكائد القصر التي عانت منها، وتدهور صحتها العقلية والجسدية.
في الآونة الأخيرة، في مقابلة مع أوبرا وينفري، أدلى الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل بتصريحات قاسية للغاية بشأن العائلة المالكة، التي اتهموها على وجه الخصوص بالعنصرية. وكشفت هذه المقابلات عن طريقة عمل المؤسسة، وكسرت توازن التجلّي - والتخفي.
مثل بقية العالم، فإن للنظام الملكي الآن حسابات على معظم منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية في المملكة المتحدة. وربما يكون حساب دوق ودوقة كامبريدج على الإنستغرام، الذي يُدار بالنيابة عن الأمير ويليام وكيت ميدلتون وأطفالهما، هو المثال الأكثر وضوحًا على “الأسرة” الملكية المعاصرة.
تبدو الصور طبيعية، مرتجلة وغير رسمية، ويتم تقديمها على أنها “ألبوم صور عائلي” لكامبريدج، حيث تقدم لمحات “حميمية” عن حياتهم اليومية. ومع ذلك، كما هو الحال مع أي أداء ملكي، يتم تنظيم هذه الصور بدقة.
أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي النظام الملكي الوصول إلى جيل الشباب، الذي يميل أكثر إلى التمرير عبر صور العائلة المالكة على تطبيقات الهاتف بدلاً من قراءة الصحف. فكيف سيكون رد فعل هذا الجيل على وفاة الملكة؟
أفراد العائلة المالكة والشخصيات السياسية
صعدت الملكة إلى العرش خلال فترة تحول سياسي جذري. حقق حزب العمال بزعامة كليمنت أتلي فوزًا ساحقًا في الانتخابات العامة لعام 1945، والتي بدا أنها تشير إلى أن الناخبين يريدون تغييرًا عميقًا. عام 1948، وعد إنشاء الخدمة الصحية الوطنية، وهي عنصر مركزي في دولة الرفاهية ما بعد الحرب، للبريطانيين بدعم الدولة مدى الحياة.
استعاد حزب ونستون تشرشل المحافظ الأغلبية في البرلمان عام 1952. ناشد تشرشل جمهورًا أكثر تقليدية وإمبريالية وملكية. ويتجلى التناقض بين هذه الأيديولوجيات في ردود الفعل على تتويج الملكة في يونيو 1953. توضيح من بين أمور أخرى: رسم كاريكاتوري لرسام الكاريكاتير ديفيد لو، بعنوان “الصباح التالي”، يصور بقايا حفل فخم (لافتات، زجاجات شمبانيا ... ) مرفق بنص يقول “100.000.000 جنيه إسترليني تم إنفاقها” ،
نُشر في صحيفة مانشستر جارديان في 3 يونيو 1953. تلقت الصحيفة بسرعة 600 رسالة تدين “الذوق السيئ” للرسم.
في الثمانينات، بدأت حكومة مارجريت تاتشر المحافظة في التفكيك المنهجي لدولة الرفاهية ما بعد الحرب، وتعزيز التجارة الحرة النيوليبرالية، والتخفيضات الضريبية والفردية.
في سنوات “بريطانيا الرائعة” لتوني بلير في بداية الألفية الجديدة، كانت الملكة امرأة مسنة. وكانت الأميرة ديانا “أميرة الشعب”، التي سلطت “أصالتها” الضوء على “انفصال” النظام الملكي عن المجتمع.
عام 2000، بعد ثلاث سنوات من وفاة ديانا، كان دعم النظام الملكي في أدنى مستوياته. اعتقد عامة الناس أن الملكة قد تصرفت بشكل غير لائق، وأنها لم تجد طريقة للرد على آلام رعاياها، وأنها فشلت في “تمثيل شعبها”. نتذكر هذا العنوان الرئيسي من لاكسبريس: “أظهري لنا اهتمامك: المشيعون يطلبون من الملكة أن تقود حدادنا».
انتهى بها الأمر إلى كسر حاجز الصمت بإلقاء خطاب متلفز أكدت فيه دورها كجدّة، مشغولة “بمساعدة” ويليام وهاري في حدادهما وحزنهما. واستمرت في لعب دور الجدة هذا بعد ذلك: في الصور المنشورة بمناسبة عيد ميلادها 90 عام 2016، التي التقطتها آني ليبوفيتز، تجلس الملكة في إطار أسرى، ويحيط بها أصغر أحفادها.
والآن؟
هذه هي صورة الملكة التي يتذكرها الكثيرون: امرأة مسنة، ترتدي ملابس أنيقة، تمسك حقيبة يدها الشهيرة والمألوفة. وعلى الرغم من أنها كانت رئيسة للدولة خلال العديد من التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية الزلزالية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، إلا أن حقيقة أنها نادراً ما عبّرت عن آرائها السياسية تعني أنها تمكنت من الحفاظ طوال حياتها على الحياد السياسي المفروض دستوريًا على العاهل.
كما حرصت على أن تظل أيقونة. لم يكن لديها حقًا “شخصية”، على عكس أفراد العائلة المالكة الآخرين، الذين دخلوا في علاقة حب وكراهية مع الجمهور لأنه يعرف المزيد والمزيد عنهم.
ظلت الملكة صورة: فهي فعلا أكثر الشخصيات تمثيلا في التاريخ البريطاني. طيلة سبعة عقود، لم يتمكن البريطانيون من إجراء عملية شراء نقدية دون مواجهة وجهها. وتوضح هذه الممارسة اليومية العادية تشابك النظام الملكي -والملكة -في الحياة اليومية لسكان المملكة المتحدة.
لا يمكن لوفاة الملكة إلا أن تحفّز البلاد على التفكير في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وسيخبرنا المستقبل كيف سيكون عهد تشارلز الثالث، ولكن هناك أمر واحد مؤكد:
لقد ولّى “العصر الإليزابيثي الجديد” منذ زمن طويل. تتعافى المملكة حاليًا من عمليات القطع الأخيرة في الوضع القائم الذي اعتادت عليه -من البريكسيت إلى جائحة كوفيد -19، إلى الدعوات المستمرة لاستقلال اسكتلندا.
ويرث تشارلز الثالث دولة لا علاقة لها بما كانت عليه عندما اعتلت والدته العرش. فماذا سيكون وزن المؤسسة الملكية، مع تشارلز الثالث بصفته الحاكم الجديد، في مستقبل المملكة المتحدة؟
*أستاذة محاضرة في الإعلام، جامعة لانكستر