في مواجهة الحرب الأوكرانية
وكأنّ التنين الصيني يميل نحو الدب الروسي...!
-- الوقوف إلى جانب روسيا سيساعد على تغيير الوضع الجيوسياسي على المستوى الجيواستراتيجي وخاصة العسكري
-- ذهبت بكين إلى حد تقديم نفسها كوسيط بين موسكو وكييف لتسهيل عودة السلام
-- إذا اختارت الصين دعم بوتين، فإنها تعرّض نفسها لعزلة دولية قد تكون قاتلة لها
-- بينما الاقتصاد الروسي يحترق، تتساءل بكين عما تعنيه العزلة المتزايـدة لموسـكو بالنسـبة لمسـتقبلها
-- تجارة الصين مع الدول الغربية أكبر من تجارتها مع روسيا وهنا مكمن الخيار الصعب بالنسبة لبكين
في مواجهة الحرب العنيفة التي تشنها روسيا في أوكرانيا، تجد الصين نفسها في مواجهة خيار صعب: البقاء حليفًا ثابتًا للكرملين أو التفكير أكثر في المدى الطويل، وفي هذه الحالة، قد تفضل البقاء بعيدًا عن فلاديمير بوتين. يبدو أن بكين تسير نحو السيناريو الأول. منذ 24 فبراير، واجهت القوات الروسية في أوكرانيا مقاومة شرسة ونكسات متراكمة، بينما وجد الغرب نفسه متحداً كما لم يحدث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي الاثناء، ينهار الاقتصاد الروسي بسبب العقوبات المالية الغربية التي أثبتت أنها مروعة.
لا شك أن النظام الشيوعي الصيني يتابع بأكبر قدر من الاهتمام هذه الأحداث المأساوية التي هي في طور الإخلال التام بالخريطة الجيوسياسية للعالم على حساب روسيا التي تجد نفسها بعد أكثر من أسبوعين من الحرب الدموية شبه معزولة تمامًا.
يوم الثلاثاء 8 مارس، قدمت أفريل هينز، مديرة المخابرات الوطنية في الولايات المتحدة، تحليلها أمام اللجنة المكلفة بالاستخبارات في مجلس النواب: سجّلت بكين فعالية العقوبات الغربية التي تنهمر على الاقتصاد الروسي.
وتعلم القيادة الصينية جيدًا، وفقًا للمسؤولة الأمريكية، أن العقوبات التي تقررها واشنطن وحلفاؤها ستكون لها عواقب وخيمة على الصين في حال ما إذا غامرت بالانحياز إلى جانب روسيا، ولأنه لا شك في أن الغرب سيقرر الضرب بقوة في حال غزو تايوان، تشدد أفريل هينز. ان الوضع الحالي، “قد يعزّز وجهة النظر الصينية حول مدى جدية نهجنا إذا تعرضت تايوان للتهديد، بالنظر للوحدة التي تجلّت بين أوروبا والولايات المتحدة. إن تأثير هذه العقوبات بالغ الأهمية في حسابات الصينيين، وسيكون مهمّا معرفة كيف سيستخلصون الدروس” من هذا الوضع.
من جهته، قال مدير وكالة المخابرات المركزية، بيل بيرنز، إن رد الولايات المتحدة على الغزو الروسي لأوكرانيا، كان له “تأثير على حسابات الصين بشأن تايوان”. ومع ذلك، حذّر “لن أستخف بتصميم الرئيس الصيني شي والقيادة الصينية عندما يتعلق الأمر بتايوان”، لكن تبقى الحقيقة أن بكين فوجئت “بقوة رد الفعل الغربي».
«من المؤكد الآن أن الولايات المتحدة وروسيا قد أصبحتا أعداء الأمس مجددا. الولايات المتحدة تتراجع، نعم، لكن ببطء. ويمكنها الاعتماد على أوروبا لتشكيل كتلة جيوسياسية”، يؤكد فريديريك ميران، أستاذ العلوم السياسية والمدير العلمي لمركز الدراسات والأبحاث الدولية في جامعة مونتريال، في مجلة الروبيكون، ولكن عندما يتعلق الأمر بالصين، فهي “أقوى اقتصاديًا ولكنها أكثر هشاشة من الناحية العسكرية».
«هل ستلعب دورًا مماثلاً مع روسيا؟”، يتساءل أستاذ العلوم السياسية. هل ستميل إلى دعم موسكو بوسائلها الاقتصادية والدبلوماسية لغرض بسيط هو موازنة (أو القضاء على) القوة الأمريكية، مما يعطي فلاديمير بوتين الانطباع بأنه تفادى الانحدار؟ أم أنها ستبقى على الهامش قليلاً، مترددة، بين الرضا برؤية خصمين يضعفان بعضهما البعض، والقلق من إضعاف العولمة الاقتصادية التي تتمسك بها، من جهة أخرى؟ «.
الإنكار
ولئن كان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد صرح مرارًا وتكرارًا أنه لا مجال لإرسال جنود أمريكيين إلى الأراضي الأوكرانية، فإن الوضع مختلف بالنسبة لتايوان. في هذا الصدد، كانت السلطات الأمريكية واضحة: إذا حاول جيش التحرير الشعبي غزو الجزيرة المتمردة، فلن تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي. وينطبق نفس الشيء على اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند.
وهذا أيضًا رأي جيمس بالمر في أعمدة فورين بوليسي: “بينما الاقتصاد الروسي يحترق، تتساءل بكين عما تعنيه العزلة المتزايدة لموسكو بالنسبة لمستقبلها وما يمكن أن تفعله الصين لتجنب حرق أصابعها”. أحد مجالات الاهتمام هو الغذاء: تعتبر كل من روسيا وأوكرانيا منتجين رئيسيين للمنتجات الزراعية، ودعا شي جين بينغ هذا الأسبوع إلى الحد من ارتهان بلاده للمنتجات الزراعية الأجنبية. “يجب ملء وعاء الأرز الصيني بالحبوب الصينية”، يذكّر جيمس بالمر. ويسكن هذا الموضوع ذاكرة الصينيين الذين يتذكّرون المجاعة التي عانوا منها خلال القفزة العظيمة للأمام من 1958 إلى 1962، والتي مات خلالها ما لا يقل عن 40 مليون شخص من الجوع.
وتجدر الإشارة، إلى أن تجارة الصين مع الدول الغربية أكبر بكثير من تجارتها مع روسيا. وهنا ينتصب الخيار الصعب بالنسبة لبكين: الاكتفاء الذاتي لتقليل الاعتماد على الغرب أو، على العكس من ذلك، البقاء مفتوحة للتجارة مع الغرب؟ إذا اختارت الصين دعم بوتين، تماشياً مع الاتفاقية المبرمة في 4 فبراير بين القوتين العظميين خلال زيارة الرئيس الروسي إلى بكين في افتتاح دورة الألعاب الشتوية، فإنها تعرّض نفسها لعزلة دولية قد تكون قاتلة لها. وإذا على العكس من ذلك، بذل شي جين بينغ كل ما في وسعه للتوسط في سلام لا يستطيع سواه الحصول عليه من بوتين، فسوف يدخل التاريخ.
بالنسبة إلى الخبير الاقتصادي ستيفن س. روتش، تنقل وسائل الإعلام الصينية صورة بلد في حالة إنكار. وتلخص وثيقتان الانفصال الصيني: اتفاق التعاون الصيني الروسي المبرم في 4 فبراير، وتقرير العمل الذي قدمه رئيس مجلس الدولة لي كه تشيانغ أمام المجلس الوطني لنواب الشعب.
في بيان بعيد المدى، صدر بعد المحادثات بين شي جين بينغ وفلاديمير بوتين، تحدث الزعيمان عن “صداقة غير محدودة بين البلدين”. ويعدّد هذا الإعلان عددًا لا يحصى من المصالح المشتركة، فضلاً عن الالتزامات المتعلقة بتغيّر المناخ، والصحة العالمية، والتعاون الاقتصادي، والسياسة التجارية، ناهيك عن الطموحات الإقليمية والجيواستراتيجية.
نظام عالمي جديد
إذا اتجهت بكين نحو روسيا، فستكون الصين قادرة على مساعدتها في التعامل مع العقوبات الغربية خاصة في مجال الطاقة. وهكذا تقوم شركة النفط الروسية العملاقة غازبروم ببناء خط أنابيب غاز ضخم بسعة 50 مليار متر مكعب إلى الصين. يذكر أن ألمانيا جمّدت مشروع نورد ستريم 2 الذي كان يهدف إلى إمداد أوروبا بالغاز. ومع ذلك، يستمر خط أنابيب نورد ستريم 1 في إمداد الغاز. الا ان العقوبات الغربية تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. وأعلنت شركات النفط مثل شل وبي بي عن خطط لتجميد وجودها في روسيا.
عام 2014، وقّعت شركة غازبروم اتفاقية مدتها 30 عامًا مع الصين لتزويد 38 مليار متر مكعب من الغاز. تبع هذا الاتفاق بدء عمليات التسليم عام 2019 مع تشغيل خط أنابيب “قوة سيبيريا”. تخطط غازبروم الآن لتعميق تعاونها مع الصين من خلال بناء “قوة سيبيريا” التي تسمى أيضًا “سويوز فوستوك”. إن تركيب خط الأنابيب هذا سيسمح لروسيا بتعويض توقف إمدادات الغاز إلى أوروبا بتلك التي تصل إلى الصين، وبالتالي تقليل الاعتماد الروسي على أوروبا.
إذن، لماذا من المرجح أن تختار صين شي جين بينغ الاستمرار في الوقوف إلى جانب روسيا فلاديمير بوتين؟ لأسباب سياسية، لأنه حقيقة لا خيار آخر لديها: سيتعين عليها مواجهة الولايات المتحدة استراتيجيًا واقتصاديًا وتقنيًا وعسكريًا.
على مدى عقدين على الأقل، اعتقدت القيادة الصينية أن الغرب دخل مرحلة تدهور لا رجعة فيها، ولا سيما الولايات المتحدة. وإذا تم التحقق من هذه المرحلة، والتي لا تزال بعيدة كل البعد عن كونها حالة قائمة، فسوف تؤدي إلى ظهور نظام عالمي جديد يفسح فيه النفوذ الأمريكي المجال تدريجياً لأنظمة اخرى، وأكبرها الصين.
وتعتمد بكين أيضًا على حقيقة أن العقوبات التي قررها الغرب لمعاقبة فلاديمير بوتين لن تستمر طويلًا. كان هذا هو الحال بعد مذبحة ميدان تيانانمين في يونيو 1989. ففي أقل من عشر سنوات، نسي الغرب مئات القتلى في قلب بكين رغم أنها حادثة صدمت العالم.
لقد تبنت القيادة الصينية في تصريحاتها حيادًا حذرًا، وامتنعت عن وصف العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بأنها “غزو”، لكن دون تأييدها. وذهبت بكين إلى حد تقديم نفسها كوسيط بين موسكو وكييف لتسهيل عودة السلام.
الحفاظ على الشراكة
لكن المعلومات المتعلقة بأوكرانيا تخضع لرقابة دقيقة من قبل وسائل الإعلام الصينية الرسمية، التي لا تقول كلمة واحدة عن الأفعال التي يرتكبها الجيش الروسي في البلاد.
نفس وسائل الإعلام، تنشر معلومات مضللة إلى 1.4 مليار صيني. تذهب قناة التلفزيون الصيني الرسمية إلى حد الادعاء بأن الولايات المتحدة مولت برنامج أسلحة بيولوجية أوكراني، وهي لا تتردد في تقديم فلاديمير بوتين على أنه ضحية تحول إلى حصن ضد حصار روسيا الذي تفرضه القوى الغربية.
وهكذا، أعلن تشاو ليجيان، أحد المتحدثين باسم وزارة الخارجية الصينية، مؤخرًا خلال إحاطة إعلامية أنه يجب على الولايات المتحدة “وقف أنشطتها العسكرية ذات الطبيعة البيولوجية على أراضيها وخارجها”. تم تناول البيان على الفور من قبل التلفزيون الصيني، ووكالة شينخوا الرسمية، وبيبولز ديلي، وجهاز الحزب الشيوعي الصيني، و17 من وسائل الإعلام الرسمية الأخرى على الأقل، وفقًا لقناة سي ان ان التلفزيونية الأمريكية. ثم فعلت الشبكات الاجتماعية الشيء نفسه.
ورداً على سؤال من قبل سي ان ان، أوضحت وزارة الخارجية الصينية يوم الخميس 10 مارس، أن الشعب الصيني كان هدفًا لحملات تضليل غربية: “بعض القوى المعادية للصين ووسائل الإعلام تختلق الكثير من الأكاذيب حول قضايا مثل الوضع في أوكرانيا. لقد شوهوا صورة الصين، وسمّموا بيئة الإعلام، وضللوا الجمهور في جميع أنحاء العالم. وهذه الأعمال هي نفاق حقير».
ودعا شي جين بينغ يوم الثلاثاء 8 مارس، خلال مؤتمر بالفيديو مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز، إلى فتح مفاوضات بين موسكو وكييف من أجل تمهيد الطريق لـ “نتائج سلمية”، فيما وعد بتقديم مساعدات إنسانية لأوكرانيا.
«هناك فرق بين الطريقة التي تتحدث بها الصين إلى الجمهور الدولي وبين الجمهور الصيني”، يوضح ألكسندر جابيف، رئيس برنامج روسيا في برنامج آسيا والمحيط الهادئ في مركز كارنيجي في موسكو، بالنسبة للصين، من المهم الحفاظ على شراكة الصين مع روسيا، لأن هذه أولوية بالنسبة لشي جين بينغ. لذا يحتاج “القادة الصينيون” إلى تشكيل تصور الجمهور “الصيني” بشأن هذه القضية وشرح أنّ البقاء على اتصال مع روسيا هو أمر مبرّر أخلاقيًا، وهو الشيء الصحيح الذي يجب فعله». سيكون القرار الحازم والحاسم من قبل النظام الصيني بالوقوف إلى جانب روسيا في الحرب أمرًا مهمًا لأنه سيساعد على تغيير الوضع الجيوسياسي على المستوى الجيواستراتيجي، ولكن خاصة على المستوى العسكري. وسيبدو العالم ممزقا إلى قسمين مع من جهة، المعسكر الغربي، ومن جهة أخرى، دول صاعدة قليلة العدد تميل إلى إظهار شراسة متزايدة على الساحة الدولية.
-- ذهبت بكين إلى حد تقديم نفسها كوسيط بين موسكو وكييف لتسهيل عودة السلام
-- إذا اختارت الصين دعم بوتين، فإنها تعرّض نفسها لعزلة دولية قد تكون قاتلة لها
-- بينما الاقتصاد الروسي يحترق، تتساءل بكين عما تعنيه العزلة المتزايـدة لموسـكو بالنسـبة لمسـتقبلها
-- تجارة الصين مع الدول الغربية أكبر من تجارتها مع روسيا وهنا مكمن الخيار الصعب بالنسبة لبكين
في مواجهة الحرب العنيفة التي تشنها روسيا في أوكرانيا، تجد الصين نفسها في مواجهة خيار صعب: البقاء حليفًا ثابتًا للكرملين أو التفكير أكثر في المدى الطويل، وفي هذه الحالة، قد تفضل البقاء بعيدًا عن فلاديمير بوتين. يبدو أن بكين تسير نحو السيناريو الأول. منذ 24 فبراير، واجهت القوات الروسية في أوكرانيا مقاومة شرسة ونكسات متراكمة، بينما وجد الغرب نفسه متحداً كما لم يحدث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي الاثناء، ينهار الاقتصاد الروسي بسبب العقوبات المالية الغربية التي أثبتت أنها مروعة.
لا شك أن النظام الشيوعي الصيني يتابع بأكبر قدر من الاهتمام هذه الأحداث المأساوية التي هي في طور الإخلال التام بالخريطة الجيوسياسية للعالم على حساب روسيا التي تجد نفسها بعد أكثر من أسبوعين من الحرب الدموية شبه معزولة تمامًا.
يوم الثلاثاء 8 مارس، قدمت أفريل هينز، مديرة المخابرات الوطنية في الولايات المتحدة، تحليلها أمام اللجنة المكلفة بالاستخبارات في مجلس النواب: سجّلت بكين فعالية العقوبات الغربية التي تنهمر على الاقتصاد الروسي.
وتعلم القيادة الصينية جيدًا، وفقًا للمسؤولة الأمريكية، أن العقوبات التي تقررها واشنطن وحلفاؤها ستكون لها عواقب وخيمة على الصين في حال ما إذا غامرت بالانحياز إلى جانب روسيا، ولأنه لا شك في أن الغرب سيقرر الضرب بقوة في حال غزو تايوان، تشدد أفريل هينز. ان الوضع الحالي، “قد يعزّز وجهة النظر الصينية حول مدى جدية نهجنا إذا تعرضت تايوان للتهديد، بالنظر للوحدة التي تجلّت بين أوروبا والولايات المتحدة. إن تأثير هذه العقوبات بالغ الأهمية في حسابات الصينيين، وسيكون مهمّا معرفة كيف سيستخلصون الدروس” من هذا الوضع.
من جهته، قال مدير وكالة المخابرات المركزية، بيل بيرنز، إن رد الولايات المتحدة على الغزو الروسي لأوكرانيا، كان له “تأثير على حسابات الصين بشأن تايوان”. ومع ذلك، حذّر “لن أستخف بتصميم الرئيس الصيني شي والقيادة الصينية عندما يتعلق الأمر بتايوان”، لكن تبقى الحقيقة أن بكين فوجئت “بقوة رد الفعل الغربي».
«من المؤكد الآن أن الولايات المتحدة وروسيا قد أصبحتا أعداء الأمس مجددا. الولايات المتحدة تتراجع، نعم، لكن ببطء. ويمكنها الاعتماد على أوروبا لتشكيل كتلة جيوسياسية”، يؤكد فريديريك ميران، أستاذ العلوم السياسية والمدير العلمي لمركز الدراسات والأبحاث الدولية في جامعة مونتريال، في مجلة الروبيكون، ولكن عندما يتعلق الأمر بالصين، فهي “أقوى اقتصاديًا ولكنها أكثر هشاشة من الناحية العسكرية».
«هل ستلعب دورًا مماثلاً مع روسيا؟”، يتساءل أستاذ العلوم السياسية. هل ستميل إلى دعم موسكو بوسائلها الاقتصادية والدبلوماسية لغرض بسيط هو موازنة (أو القضاء على) القوة الأمريكية، مما يعطي فلاديمير بوتين الانطباع بأنه تفادى الانحدار؟ أم أنها ستبقى على الهامش قليلاً، مترددة، بين الرضا برؤية خصمين يضعفان بعضهما البعض، والقلق من إضعاف العولمة الاقتصادية التي تتمسك بها، من جهة أخرى؟ «.
الإنكار
ولئن كان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد صرح مرارًا وتكرارًا أنه لا مجال لإرسال جنود أمريكيين إلى الأراضي الأوكرانية، فإن الوضع مختلف بالنسبة لتايوان. في هذا الصدد، كانت السلطات الأمريكية واضحة: إذا حاول جيش التحرير الشعبي غزو الجزيرة المتمردة، فلن تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي. وينطبق نفس الشيء على اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند.
وهذا أيضًا رأي جيمس بالمر في أعمدة فورين بوليسي: “بينما الاقتصاد الروسي يحترق، تتساءل بكين عما تعنيه العزلة المتزايدة لموسكو بالنسبة لمستقبلها وما يمكن أن تفعله الصين لتجنب حرق أصابعها”. أحد مجالات الاهتمام هو الغذاء: تعتبر كل من روسيا وأوكرانيا منتجين رئيسيين للمنتجات الزراعية، ودعا شي جين بينغ هذا الأسبوع إلى الحد من ارتهان بلاده للمنتجات الزراعية الأجنبية. “يجب ملء وعاء الأرز الصيني بالحبوب الصينية”، يذكّر جيمس بالمر. ويسكن هذا الموضوع ذاكرة الصينيين الذين يتذكّرون المجاعة التي عانوا منها خلال القفزة العظيمة للأمام من 1958 إلى 1962، والتي مات خلالها ما لا يقل عن 40 مليون شخص من الجوع.
وتجدر الإشارة، إلى أن تجارة الصين مع الدول الغربية أكبر بكثير من تجارتها مع روسيا. وهنا ينتصب الخيار الصعب بالنسبة لبكين: الاكتفاء الذاتي لتقليل الاعتماد على الغرب أو، على العكس من ذلك، البقاء مفتوحة للتجارة مع الغرب؟ إذا اختارت الصين دعم بوتين، تماشياً مع الاتفاقية المبرمة في 4 فبراير بين القوتين العظميين خلال زيارة الرئيس الروسي إلى بكين في افتتاح دورة الألعاب الشتوية، فإنها تعرّض نفسها لعزلة دولية قد تكون قاتلة لها. وإذا على العكس من ذلك، بذل شي جين بينغ كل ما في وسعه للتوسط في سلام لا يستطيع سواه الحصول عليه من بوتين، فسوف يدخل التاريخ.
بالنسبة إلى الخبير الاقتصادي ستيفن س. روتش، تنقل وسائل الإعلام الصينية صورة بلد في حالة إنكار. وتلخص وثيقتان الانفصال الصيني: اتفاق التعاون الصيني الروسي المبرم في 4 فبراير، وتقرير العمل الذي قدمه رئيس مجلس الدولة لي كه تشيانغ أمام المجلس الوطني لنواب الشعب.
في بيان بعيد المدى، صدر بعد المحادثات بين شي جين بينغ وفلاديمير بوتين، تحدث الزعيمان عن “صداقة غير محدودة بين البلدين”. ويعدّد هذا الإعلان عددًا لا يحصى من المصالح المشتركة، فضلاً عن الالتزامات المتعلقة بتغيّر المناخ، والصحة العالمية، والتعاون الاقتصادي، والسياسة التجارية، ناهيك عن الطموحات الإقليمية والجيواستراتيجية.
نظام عالمي جديد
إذا اتجهت بكين نحو روسيا، فستكون الصين قادرة على مساعدتها في التعامل مع العقوبات الغربية خاصة في مجال الطاقة. وهكذا تقوم شركة النفط الروسية العملاقة غازبروم ببناء خط أنابيب غاز ضخم بسعة 50 مليار متر مكعب إلى الصين. يذكر أن ألمانيا جمّدت مشروع نورد ستريم 2 الذي كان يهدف إلى إمداد أوروبا بالغاز. ومع ذلك، يستمر خط أنابيب نورد ستريم 1 في إمداد الغاز. الا ان العقوبات الغربية تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. وأعلنت شركات النفط مثل شل وبي بي عن خطط لتجميد وجودها في روسيا.
عام 2014، وقّعت شركة غازبروم اتفاقية مدتها 30 عامًا مع الصين لتزويد 38 مليار متر مكعب من الغاز. تبع هذا الاتفاق بدء عمليات التسليم عام 2019 مع تشغيل خط أنابيب “قوة سيبيريا”. تخطط غازبروم الآن لتعميق تعاونها مع الصين من خلال بناء “قوة سيبيريا” التي تسمى أيضًا “سويوز فوستوك”. إن تركيب خط الأنابيب هذا سيسمح لروسيا بتعويض توقف إمدادات الغاز إلى أوروبا بتلك التي تصل إلى الصين، وبالتالي تقليل الاعتماد الروسي على أوروبا.
إذن، لماذا من المرجح أن تختار صين شي جين بينغ الاستمرار في الوقوف إلى جانب روسيا فلاديمير بوتين؟ لأسباب سياسية، لأنه حقيقة لا خيار آخر لديها: سيتعين عليها مواجهة الولايات المتحدة استراتيجيًا واقتصاديًا وتقنيًا وعسكريًا.
على مدى عقدين على الأقل، اعتقدت القيادة الصينية أن الغرب دخل مرحلة تدهور لا رجعة فيها، ولا سيما الولايات المتحدة. وإذا تم التحقق من هذه المرحلة، والتي لا تزال بعيدة كل البعد عن كونها حالة قائمة، فسوف تؤدي إلى ظهور نظام عالمي جديد يفسح فيه النفوذ الأمريكي المجال تدريجياً لأنظمة اخرى، وأكبرها الصين.
وتعتمد بكين أيضًا على حقيقة أن العقوبات التي قررها الغرب لمعاقبة فلاديمير بوتين لن تستمر طويلًا. كان هذا هو الحال بعد مذبحة ميدان تيانانمين في يونيو 1989. ففي أقل من عشر سنوات، نسي الغرب مئات القتلى في قلب بكين رغم أنها حادثة صدمت العالم.
لقد تبنت القيادة الصينية في تصريحاتها حيادًا حذرًا، وامتنعت عن وصف العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بأنها “غزو”، لكن دون تأييدها. وذهبت بكين إلى حد تقديم نفسها كوسيط بين موسكو وكييف لتسهيل عودة السلام.
الحفاظ على الشراكة
لكن المعلومات المتعلقة بأوكرانيا تخضع لرقابة دقيقة من قبل وسائل الإعلام الصينية الرسمية، التي لا تقول كلمة واحدة عن الأفعال التي يرتكبها الجيش الروسي في البلاد.
نفس وسائل الإعلام، تنشر معلومات مضللة إلى 1.4 مليار صيني. تذهب قناة التلفزيون الصيني الرسمية إلى حد الادعاء بأن الولايات المتحدة مولت برنامج أسلحة بيولوجية أوكراني، وهي لا تتردد في تقديم فلاديمير بوتين على أنه ضحية تحول إلى حصن ضد حصار روسيا الذي تفرضه القوى الغربية.
وهكذا، أعلن تشاو ليجيان، أحد المتحدثين باسم وزارة الخارجية الصينية، مؤخرًا خلال إحاطة إعلامية أنه يجب على الولايات المتحدة “وقف أنشطتها العسكرية ذات الطبيعة البيولوجية على أراضيها وخارجها”. تم تناول البيان على الفور من قبل التلفزيون الصيني، ووكالة شينخوا الرسمية، وبيبولز ديلي، وجهاز الحزب الشيوعي الصيني، و17 من وسائل الإعلام الرسمية الأخرى على الأقل، وفقًا لقناة سي ان ان التلفزيونية الأمريكية. ثم فعلت الشبكات الاجتماعية الشيء نفسه.
ورداً على سؤال من قبل سي ان ان، أوضحت وزارة الخارجية الصينية يوم الخميس 10 مارس، أن الشعب الصيني كان هدفًا لحملات تضليل غربية: “بعض القوى المعادية للصين ووسائل الإعلام تختلق الكثير من الأكاذيب حول قضايا مثل الوضع في أوكرانيا. لقد شوهوا صورة الصين، وسمّموا بيئة الإعلام، وضللوا الجمهور في جميع أنحاء العالم. وهذه الأعمال هي نفاق حقير».
ودعا شي جين بينغ يوم الثلاثاء 8 مارس، خلال مؤتمر بالفيديو مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز، إلى فتح مفاوضات بين موسكو وكييف من أجل تمهيد الطريق لـ “نتائج سلمية”، فيما وعد بتقديم مساعدات إنسانية لأوكرانيا.
«هناك فرق بين الطريقة التي تتحدث بها الصين إلى الجمهور الدولي وبين الجمهور الصيني”، يوضح ألكسندر جابيف، رئيس برنامج روسيا في برنامج آسيا والمحيط الهادئ في مركز كارنيجي في موسكو، بالنسبة للصين، من المهم الحفاظ على شراكة الصين مع روسيا، لأن هذه أولوية بالنسبة لشي جين بينغ. لذا يحتاج “القادة الصينيون” إلى تشكيل تصور الجمهور “الصيني” بشأن هذه القضية وشرح أنّ البقاء على اتصال مع روسيا هو أمر مبرّر أخلاقيًا، وهو الشيء الصحيح الذي يجب فعله». سيكون القرار الحازم والحاسم من قبل النظام الصيني بالوقوف إلى جانب روسيا في الحرب أمرًا مهمًا لأنه سيساعد على تغيير الوضع الجيوسياسي على المستوى الجيواستراتيجي، ولكن خاصة على المستوى العسكري. وسيبدو العالم ممزقا إلى قسمين مع من جهة، المعسكر الغربي، ومن جهة أخرى، دول صاعدة قليلة العدد تميل إلى إظهار شراسة متزايدة على الساحة الدولية.