محمد بن راشد: نسعى لتوفير أفضل نوعيات الحياة للمواطن والمقيم والزائر
النقاء السردي والأسلوبي يجعل الفيلم الساحر نبيلاً
"أحلام روبوت": صداقةٌ ضد الوحدة بين كلب وآلة
كتبت سيلفيا بلاث في مذكّراتها: "كم نحتاج إلى شخصٍ آخر نتمسّك به، إلى جسدٍ آخر يبقينا دافئين. نرتاح إليه، ونثق به".
بهذه الروح، يبدأ "أحلام روبوت" (2023)، للإسباني بابلو بيرغر (ترشيح رسمي لـ"أوسكار" أفضل فيلم تحريك، 2024)، في وقتٍ ما في ثمانينيات القرن 20، في نيويورك، التي كانت آنذاك لا تزال أرض صناديق البثّ المحمولة، والإيجارات المعقولة. إنّها، في نسخة بيرغر، مدينة تسكنها حيوانات مجسّمة من كلّ الأنواع.
في شقّة بلا روح، يلعب كلبٌ لا اسم له بجهاز "أتاري" خاص به. مفردة "كلب" مكتوبة على الباب الأمامي. يعيش الكلب بمفرده. الثلاجة مليئة بوجبات المعكرونة بالجبنة. حياة مُعلَّقة، أقرب بخطوة واحدة إلى الموت، مع كلّ صوت يصدره الـ"مايكروويف". إنّه يعرف. يريد أنْ تكون الأمور مختلفة. إذاً، ماذا يفعل الكلب؟ يشتري روبوتاً.
لا يُمكن لموضوع "أحلام روبوت" أنْ يكون أكثر بساطة، كما شخصياته. الكلب وحيدٌ، يشتري روبوتاً (سنسمّيه "روبوت") ليكون رفيقاً له. يصبح الكلب والروبوت صديقين، تفرّقهما الظروف. هذه، أكثر أو أقل، قصّة فيلم تحريك، تدور أحداثه في نيويورك الثمانينيات، والمُنجز باستخدام الرسوم المتحرّكة الكلاسيكية (ثنائية الأبعاد، وبطريقة يدوية، كما يبدو)، ويخلو من الحوارات. تلك البساطة، والنقاء السردي والأسلوبي تقريباً، تجعل الفيلم الساحر نبيلاً.
بهذا المعنى، "أحلام روبوت" فيلمٌ عن الصداقة. من يريد أنْ يقرأ أكثر من ذلك، بإمكانه أنْ يفعل هذا أيضاً، بفضل الغموض المحيط به، وبعض المشاهد الموحية. يبدأ عندما يرى الكلب، وحيداً في شقّته في مانهاتن، كيف أنّ أحد الجيران يستمتع بوقته أفضل منه بكثير، بفضل رفيقته التي تشاركه حياته، فيقرّر شراء روبوت، رآه في أحد الإعلانات. حين تصل "الطلبيّة" إلى منزله، يتعيّن عليه تجميع الروبوت جزءاً تلو آخر، حتى يكتمل. يضيء الروبوت ويبتسم، وتُولد صداقةٌ جميلة.
منذ تلك اللحظة، يسافر الكلب والروبوت معاً في نيويورك كلّها. يتجوّلان في "سنترال بارك"، ويتناولان الطعام خارج البيت، ويرقصان على أنغام أغنية "سبتمبر" الكلاسيكية، لفرقة "أرض، رياح، نار (Earth, Wind And Fire)"، التي تُصبح "موتيفة" أساسية للثنائي، وللفيلم. يطبخان معاً، ويقومان معاً بالأشياء كلّها، تقريباً. تأخذهما جولة في الصيف إلى "كوني آيلاند"، بشاطئها الكلاسيكي ومعرضها، حيث يضطران، بسبب مشاكل ميكانيكية، إلى الانفصال. انفصال سيطول أكثر فأكثر، مع مرور الوقت.
حتّى هذه اللحظة، "أحلام روبوت" نسخة كوميدية متنوّعة من مشاهد مألوفة، مأخوذة من عدد لا يحصى من أفلامٍ أخرى. بعد الانفصال، يختار طريقه الخاصة، فيُصبح لعنوانه منطقه ومساحته. نظراً إلى عدم قدرته على الحركة، ولكونه وحيداً على شاطئ المحيط في الشتاء، يحلم روبوت بحياة أخرى، وبلقاءات محتملة مع الكلب، ويتخيّل أحياناً سيناريوهات رائعة، أحدها على تخوم الأحلام المخدّرة، حيث يمكن أنْ يحدث هذا. في هذه الأثناء، يواصل الكلب حياته في انتظار التئام شمل، يُصبح معقّداً ومتأخّراً، ولا يمرّ بالأماكن الأكثر توقّعاً، التي ينتظرها المرء في هذا النوع من القصص، ما يمنح الفيلم نَفَساً لطيفاً وساحراً في الوقت نفسه. وحزيناً وميلانكولياً أيضاً.
استناداً إلى رواية مُصوَّرة بالعنوان نفسه (2007)، للأميركية سارة فارون، ومُستعيناً بسمات مرئية نموذجية للأفلام الصامتة (تسلسل طويل وكامل للكلب، ورجل ثلج يعمل بشكل جيد جداً، وآخر مُرتبط بالتزلّج، إلخ.)، يذكّر "أحلام روبوت" بأفلامٍ كـ"العملاق الحديدي" (1999) لبراد بيرد، بطريقة تقديم علاقة رقيقة بين كائن حي (في هذه الحالة كلب مجسّم، يمشي على قدمين دائماً) وروبوت عتيق. لا يتكلّم أي منهما، بل يتواصلان بالإيماءات والنظرات والضوضاء والصفارات. لكنْ، في تلك الخطوط البسيطة من الرسم، يتمكّن بيرغر من العيش في مساحة مُحبّة ودافئة للغاية، كصيف نيويورك البعيد، الذي يُظهره الفيلم بشيء من نوستالجيا.
رغم أنّ مدته (101 د.) ربما تكون أكثر من اللازم، بالنسبة إلى اقتراح سينمائي ينطوي أحياناً على خطر تكرار نفسه، هناك شيءٌ في قلب القصة نفسها، يُبقيها على قيد الحياة، حتى عندما تبدأ الالتفاف حول نفسها. شيءٌ سحري حقّقه بيرغر وفريقه من رسّامي الرسوم المتحركة، بفضل رسمٍ بسيط وواضح للغاية. مثلاً: تسلسل روبوت وعائلة الطيور التي يؤويها، في أسلوبٍ بعيد كلّياً عن أعمال الرسوم المتحركة المعقّدة بشكل متزايد، في استديو كبير مثل "بيكسار". انطلاقاً من دفءٍ يحمله وينقله، يوضح "أحلام روبوت" أنّ مبدأ "ما قلّ ودلّ" يعمل هنا أيضاً. شخصان يحبّ أحدهما الآخر، يفترقان، وكل واحد منهما يحاول العثور على الآخر، وهذا أكثر من كافٍ لسرد قصة جميلة ومؤثّرة عن الصداقة والحبّ، وعن حاجة المرء إلى جسد آخر يبقيه دافئاً في عالمٍ واسع.