منصور بن زايد: المتحف يعكس رؤية الإمارات نحو تعزيز الثقافة والسلام والتعايش
يُمكن للحياة العادية والأيام الروتينية أن تكون ممتعة ومثيرة وثرية
"أيـــام مثــــالية"... فيلـــم روائـــي بسيــــط وخــــادع
عام 1994، أنجز المخرج الألماني فيم فيندرز فيلماً لطيفاً جداً، يكاد يكون منسياً الآن، بعنوان "قصّة لشبونة"، يتقاطع، إلى حدّ كبير، في أكثر من نقطة، إنتاجياً وفنياً، مع فيلمه الروائي الأخير "أيام مثالية" (2023). عنوان الفيلم (قصّة لشبونة) بسيط وخادع. من لا يعرفه يظنّ أنّه سردٌ لقصّة مدينة لشبونة، لكنّه رحلة إنسانية، فلسفية وتأملية، لطيفة ومسلية ومضحكة، ترتكز على 3 عناصر رئيسية: مدينة لشبونة، بجمالها وأصواتها؛ وفرقة "مدريديوسا" البرتغالية المشهورة؛ وصناعة السينما. يشترك "قصّة لشبونة" و"أيام مثالية" في انطوائهما على قدرٍ كبير وملموس من البساطة والجمال والعمق، والقيمة الإنسانية العالية، وإبراز دور الفنّ في حياة البشر.
مع "أيام مثالية"، تكرّر الأمر نفسه، تقريباً. فبتكليفٍ من السلطات اليابانية، بهدف الاحتفاء بأحدث أنظمة المراحيض العامة، طُلِبَ منه إخراج وثائقي أو ترويجي لصالح "مراحيض طوكيو"، كدعاية فنية وثقافية. وكما حصل سابقاً، تخلّى فيندرز عن الوثائقي/الترويجي، وصنع روائياً طويلاً، موضوعه العام الفكرة الأساسية المطلوبة، لكنّه يتجاوزها إلى الأبعد والأعمق، إنسانياً وفلسفياً، وأكثر تأمّلاً وجماليات وإثارة، سينمائياً، رغم بساطته الشكلية. فيه، استطاع فيندرز، بمهارة وحسّية، أنْ يُمسك الروح اليابانية، ويُقدّمها كأجمل وأعمق وأصدق ما يكون، بعيداً عن أي سطحية أو نظرة سياحية، وهذا لم يظهر هكذا في "قصّة لشبونة"، ربما لاستعانته في كتابة سيناريو "أيام مثالية" بسيناريست ياباني محترف، يُدعى تاكوما تاكاساكي؛ ولأنّه عاش فترات في اليابان، وحقّق أفلاماً عنها، كما أنّه عاشقٌ لهذا البلد، ولثقافته وتراثه.
في الأعوام القليلة الفائتة، أنجز فيندرز أكثر من فيلمٍ وثائقي لافتٍ للانتباه، جودةً واحترافية وفنيات، كـ"بينا" (2011)، و"ملح الأرض" (2014). أفلامه الروائية الأخيرة جَانبها التوفيق كثيراً، و"أيام مثالية" يُعتَبر من أفضل وأجمل أفلامه الروائية الطويلة منذ عقود، وربما منذ "أرض الوفرة" (2004).
يروي "أيام مثالية" حكاية هيراياما (كوجي ياكوشو)، في بداية عقده السادس، ويعمل منظّفاً للمراحيض. يبدو قانعاً بحياته وحالته ومعيشته، وراضياً عنها، ومتصالحاً جداً مع نفسه، ومع كلّ شيءٍ حوله. يبدو أنّه لا يتطلّع إلى شيءٍ، وإن كان بسيطاً. من هنا، تنبع "مثاليّة أيامه"، بينما الأيام المُصوّرة ببطءٍ وتمعّن تبدو غير مثالية كالمُشار إليه في العنوان. لعلّها كذلك بالنسبة إلى البعض، وإلى هيراياما، لكنّ وتيرتها الروتينية المتكرّرة، بكلّ مللها وانفصالها عن العالم المعاصر والحداثة والتقدّم والتكنولوجيا، والغرق في الوحدة والتأمّل والسكون، تُشكّل كابوساً لغالبية البشر، وليست مثالية أبداً. كلّ صباح، يطوي هيراياما فراشه بسرعة، ويضعه بشكل أنيق ومُرَتَّب في زاوية الحجرة. يغسل أسنانه بالفرشاة. يحلق، ويعتني بنباتاته ويرشّها بالماء، ويتأمّلها للحظات. يبتسم وهو يخطو إلى الخارج، بعد نظرة سريعة إلى السماء. قبل أنْ يستقلّ شاحنته الصغيرة، المجهّزة بكلّ أدوات النظافة، يُحضِر قهوته المثلّجة من ماكينة في الشارع، بجوار منزله.
يختار شريط كاسيت من مجموعته الواسعة من موسيقى الـ"روك" وغيرها، من ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته، ويستمع إليه. ثم تبدأ دورة روتينية أخرى، منظّمة ومنضبطة وصارمة، يمرّ فيها على مراحيض متميّزة بأشكالها وتصميمها وأماكنها المختارة في الحدائق العامة، فيُنظّفها بإخلاصٍ وتفان رهبانيّين. في وقت الغداء، يجلس يومياً على المقعد نفسه في الحديقة. يلتقط صورة أو أكثر لأشعة الشمس، وانعكاساتها وظلالها عبر الأشجار والأغصان، بكاميرته العتيقة. بعد العمل، يتناول العشاء على طاولة الطعام نفسها، الموجودة في أحد الأسواق.
في المنزل، مساء، يتواصل الروتين. ينتهي يومه وهو يقرأ كتاباً ورقياً، حتى يغلبه النعاس. يطفئ مصباح القراءة، ويخلع نظّارته، وينام. يحلم عادةً بتسلسلاتٍ بالأبيض والأسود لأشجار وأضواء وشموس وسماوات، تشير إلى حياة سابقة، أو أماكن يُحبّها.
في كلّ عطلة نهاية الأسبوع، يختلف الأمر قليلاً، إذْ يذهب بدراجته إلى المغسلة، ثم الحمّام العمومي لغسل جسمه، والغطس في مسبح صغير. ثم الذهاب إلى المكتبة لشراء الجديد، فمحلّ تظهير الصُور الفوتوغرافية لشراء فيلم كاميرا، واستلام الصُور المطبوعة. بنظرة فنان محترف، أو كاتب متمرّس يكتب بالضوء، يستبعد الصُور الفوتوغرافية التي لا تروقه، ويحتفظ بالجيّدة في أرشيفه، وفقاً لتسلسل وترقيم سنوي. أخيراً، يتّجه إلى بار، يتردّد عليه باستمرار، تُديره سيدة من عمره، يُكتَشف أمرها وعلاقته بها لاحقاً.
يتكرّر الروتين نفسه كلّ عطلة نهاية أسبوع، وإنْ باختلافات طفيفة وغير ملموسة، تُلاحَظ في عناوين الكتب التي يشتريها، وأسماء الأدباء الأميركيين الذين يقرأ لهم، والموسيقى الأميركية التي يختارها من مجموعته الكبيرة لشرائط الكاسيت، وتحديداً الروك والجاز وأغاني باتي سميث وأوتيس ريدينغ ونينا سيمون. إجمالا، تنمّ تفاعلاته القليلة المُباشرة مع الآخرين عن طيبة وتواضع.
يعامل الجميع بالتسامح والكرم والصبر نفسه. ينطبق هذا حتى على تاكاشي (طوكيو إيموتو)، زميله في العمل، المزعج والكسول والأهوج، والمُتأخّر عن الدوام، والمشتّت دائماً بسبب هاتفه، والذي يعتمد على هيراياما في مساعدته مادياً، وتغطية غيابه في أوقات العمل، وخاصة معاونته في علاقته المُحبطة بالفتاة آيمي (أوي يامادا)، غير المنسجم معها عاطفياً. تاكاشي هو النقيض التام لشخصية هيراياما، ونظامه ومنهجيّته وانضباطه وصمته.
بعد منتصف "أيام مثالية"، يتعطّل روتين هيراياما قليلاً، مرة بسبب تغطية غياب زميله، بعد اعتذاره المفاجئ. عندها، نشعر بمدى استحالة امتلاك هيراياما للغضب، أو أنْ يسيطر عليه حنق، رغم اضطراب روتينه. لكنْ، مُجدّداً، يضطرب التوازن الدقيق لعالمه مع الظهور المُفاجئ لابنة أخته نيكو (أريسا ناكانو). فبعد شجار مع والدتها، تفرّ إليه، وتقيم في منزله. تدريجياً، يحدث الانسجام بينهما، ويُصوّر فيندرز التفاعل الآسر بين جيلين، يختلف أحدهما عن الآخر كلّياً، ويوضح مدى ذكاء هيراياما وثقافته وانفتاحه. تنكشف مكانته الاجتماعية الكبيرة، وانتماؤه إلى أسرة عريقة. يبدو أنّه اختار العيش هكذا كراهب عن عمد، لأسباب تخصّه. الدليل؟ لقاء عابر مع أخته الثرية، المُنفصلة عنه، كيكو (يومي آسو)، عندما جاءت لاصطحاب ابنتها.
ربما تبدو حبكة "أيام مثالية" بطيئة في البداية، وغير مُتطوّرة، لولا الأداء الآسر لكوجي ياكوشو، الفائز بجائزة أفضل ممثل في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان كانّ السينمائي، رغم صمته في غالبية مدّة الفيلم (123 دقيقة)؛ والتصوير السينمائي اللافت للانتباه لفرانز لوستيغ، لا سيما اللقطات المُقرّبة لوجه كوجي، خاصة تلك اللقطة المطوّلة البديعة في الختام.
في "أيام مثالية"، أثبت فيم فيندرز أنّه يُمكن للحياة العادية والأيام الروتينية أن تكون ممتعة ومثيرة وثرية، ربما أكثر من حياة أخرى معقّدة للغاية، أو مليئة بالصعوبات، أو ذات رفاهية كبيرة؛ وأنّ الجمال والسعادة يمكن العثور عليهما أو خلقهما في الحياة اليومية العادية والبسيطة. ورغم استحالة اقتناع المرء بشخصٍ يستمتع ويتلذّذ بعمله في تنظيف المراحيض العمومية، وإنْ لم تكن تحتاج إلى تنظيف، أقنعنا فيندرز بالبحث عن الجمال في خضم الحياة العادية، بكلّ تفاصيلها، وبأنّ هناك أناس غير مرئيين حولنا أقلّ مكانة ووظيفة منّا، تنطوي حياتهم وشخصياتهم على ثروات روحية، وقيم إنسانية، وثقافة ورضى وقناعة حياتية، يصعب تخيّلها وملامستها أحياناً.